|
"خلينا نقوم نشتغل، على الأقل نقدم شيء للعراق"، هذا ما قاله الصحفي
ناجي شرف الدين، بطل المسلسل العربي "هدوء نسبي"، لزملائه في فندق الصحفيين
في بغداد غداة سماعهم الخبر الصادم عن "سقوط بغداد".. لقد تجاوز هذا الحوار
حدود المشهد الذي لم يتعد بضع ثوان ليلقي بنا في بحر من الأسئلة ويحرّك
ذاكرتنا باحثين بين ثناياها عما قدمته الدراما العربية للعراق، منذ الغزو
الأمريكي لبغداد في ربيع 2003 إلى اليوم، من أعمال خرقت خطوطا حمراء يحاول
كثيرون الابتعاد عنها، وأشركت المشاهد العربي في القضية، ولو بالمشاهدة
فقط، وإخراجه من حالة الجمود الفكري والحسي التي يعيشها، بعد أن خدّرت
الفضائيات تفكيره بمسلسلاتها وكليباتها ومسابقات الملايين.
بعد "الاجتياح"، يعود المخرج التونسي شوقي الماجري هذا الموسم بـ"هدوء
نسبي"، وهو عمل تلفزيوني يغوص في عمق المأساة العراقية، أبطالها صحافيون
ومراسلون وعراقييون عايشوا أهوال الحرب وذاقوا ويلاتها. وقد شاركه في إعداد
هذه الدراما الروائي السوري خالد خليفة عن نصه "الحب والموت في بغداد" الذي
يرصد فيه حال عاصمة العباسيين قبيل وأثناء وبعد الغزو الذي تعرضت له..
وشارك في إنجاز هذا العمل عدد كبير من الممثلين والفنانين بلغ حوالي 273
شخصية تجاوزت حدود الجنسية العربية لتشمل مشاركات أجنبية. واكتمل النصاب
بالميزانية الضخمة "أربعة ملايين دولار أمريكي" وضعتها أربع جهات إنتاجية
عربية هي شركة "إيبلا" السورية وقطاع الإنتاج المصري و"روتانا خليجية"
و"راديو وتلفزيون العرب "ART""، لتخرج للنور ملحمة درامية عربية قلبا وقالبا، اخترقت الخطوط الحمر
وولجت بابا، يعتبر مجرّد فتحه مغامرة.
أسباب عديدة ترشح مسلسل "هدوء نسبي" لأن يكون في مقدمة مسلسلات رمضان
2009، وتؤهله لأن يماهي نجاحه نجاح مسلسل "الاجتياح" العالمي، تأتي في
مقدمتها "تيمة" المسلسل، الذي يناقش وقائع الحرب الأخيرة على العراق، والتي
حاول شوقي الماجري أن يقدمها بطريقة درامية متجنبا السقوط في فخ السرد
الوثائقي للأحداث.
يروي مسلسل "هدوء نسبي" حكايات مجموعة من الصحفيين من بينهم ناجي
"السوري عابد فهد" وناهد "المصرية نيللي كريم" وشريف "اللبناني بيار داغر"
ورشا "السورية نادين سلامة"، وهم أربعة صحفيين عرب يلتقون في بغداد بهدف
تغطية الوضع هناك غداة الغزو الأمريكي.
ولا ينحصر النص حول هؤلاء الأبطال الأربعة فقط إنما حكايتهم جزء من
حكايات عشرات المراسلين العرب والأجانب الذين ذهبوا إلى بغداد لتغطية
الحرب، لكل واحد منهم موقف، وقصة وحياة أخرى خارج أسوار بغداد المحتلة،
ونتابع في هذا العمل حياتهم أثناء الحرب ونستعيد تفاصيلها قبل الحرب. وفي
نفس الوقت يستعرض العمل حياة مجموعة من العائلات العراقية التي عاشت تحت
الحصار وعانت ويلات الحرب.
خلال الحرب يجد كل واحد نفسه أمام قدره، أمام صراعه الطبيعي ضد ثنائية
الحياة/ الموت.. ولكن وسط ظلام الحرب وشبح الموت، يطلّ الأمل، وبين أزمة
وأخرى يومض بريق الحياة، هذا الأمل الذي يجسده الحب الذي يجمع بين ناهد
وناجي، وهو حب وأدته ظروف الحياة في مصر ثم ولد من جديد بين أنقاض الحرب في
بغداد. كذلك العاطفة التي جمعت بين رشا التي تخاف من الحب ولا تثق في شريف
الذي يعمل مراسلا في وكالة الأنباء الفرنسية منذ زمن بعيد، وغربته في باريس
جعلت علاقته بوطنه باردة غريبة، لاتتجاوز صورا ضبابية من ذكريات الطفولة
والشباب.
عرف الأبطال معنى الحياة، تخلصوا من شوائبها وتسلّحوا بمعانيها
السامية، فهم شهود الحق في مكان هُضم حقّه.. عرب وجدوا أنفسهم، دون تخطيط
مسبق، في صراع مع الآخر، مع غريم واحد، كان الصراع معه "افتراضيا" وحضاريا
وفكريا لكنه تحول الآن إلى جبهة قتال، فامتزجت الآراء بالمواقف والسياسة
وأصبحت الصحافة طرفا في الصراع والحدث، بل صانعا له..
ورغم أنه من المبكر تقييم العمل كليّا، ورغم أنه من المستحيل أن يخلو
أي مسلسل من بعض النقائص، ولكن حسبُ "هدوء نسبي" أنه يعدّ فكرة جديدة،
تمرّدت على الأسوار التقليدية للدراما العربية، وأثبتت أن القضية المصيرية
المشتركة يستحيل أن تقدمها جهة واحدة بنجاح ودون تحيز.
وقد راهن شوقي الماجري في هذا العمل، كما في أعماله السابقة، على
أهمية الاندماج والتعاون العربي المشترك، فنجح "هدوء نسبي"، في ما فشلت فيه
جامعة الدول العربية ومؤتمراتها، ولمّ شمل العرب ممثلين ومنتجين ومشاهدين
حول قضية مشتركة تتجاوز حدود النكبة العراقية لتختصر معنى أشمل هو الكرامة
العربية عبر مشاهد محمّلة بمعاني المرارة والخيبة والسقوط والهزيمة
والانكسار.. وبعض من الأمل.
يُعتبر "هدوء نسبي" عملا عربيّا بامتياز.. برهن على أن الفنان قادر
على أن يكون أكثر وعيا بالهم العربي.. كما برهن على أننا معنيون بما يجري
حولنا في العراق وفي فلسطين، كوننا شعبا عربيا واحدا.
ولم تقتصر الأعمال العربية المشتركة على "هدوء نسبي" فحسب، بل تكاد
تكون الظاهرة الحدث في الدراما الرمضانية لهذا الموسم، ربما الصدفة وحدها
هي التي أدت إلى ذلك، وربما جاءت مع سبق اصرار صناع الدراما وترصدهم للوضع
على الساحة، واقتناعهم بأنه في عصر السماوات المفتوحة لا سبيل للنجاح مع
المحلية الفنية الأعمال القطرية.
العرب أنلاين في
06/09/2009 |
