في مايو - مايس 1996م كتب الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس: "في عام
1965 ودع غبريال غارسيا ماركيز أصدقائه, وثلاجته مختزنة, وأعطى تعليمات
لزوجته مرسيدس أن لاتجيب على التلفون ولاتفتح الباب, وجلس ليكتب الرواية
التي رافقته منذ أن كان طفلا ..ومن قلعته في مكسيكو "عاصمة المكسيك " وبعد
سنة, أرسل لي المائة الصفحة الأولى من "مائة عام من العزلة", وأنا أتذكر من
رسالة أرسلتها الى كاتب آخرمن جيل الهدير خوليو كورتثار جاء فيها: لقد
قرأت عملاً فنياً من الطراز االأول .. رواية "غابو" حررتنا جميعا.
أن "مائة عام من العزلة" اصبحت الأوسع قراءة وانتشارا والأكثر شهرة,
ربما أفضل رواية في اللغة الأسبانية. منذ رواية "دون كيشوت". غابو و جيل
الهدير مؤكدا ينحدر من الكتاب الآخرين في أمريكا اللاتينية ذو المكانة
والشهرة: بورخيس, أسترياس, كاربينتيّر .. ولكن أعتقد أن جيل الهدير اكتسب
قراء أكثر عددا في حدود القارة الأميركية وعالميا, وبصورة لم تحدث في
السابق, لقد كسر الحواجز الأقليمية وربط ثقافات القارة, وجدد اللغة
والخيال.
في 1982 حصل غارسيا ماركيز "ولد في كولومبيا عام 1927م" على جائزة
نوبل للآداب, وفي كتب صدر في فرنسا في نفس العام. مضمون الكتاب لقاء أجراه
ماركيز مع صديق طفولته الصحفي والكاتب بيلينو مندوزا. عنوانه "عطر التغريد"
يتحدث فيه ماركيز عن طفولته الكاريبية "نسبة الى بحر الكاريبي" التي منحته
مفاتيح مهمة لموهبته الأدبية: حكاية السيركس الذي القته عاصفة في البحر
بطاقمة وتجهيزاته وحيواناته .. فمنبع الخلق الأدبي عند ماركيز هو الواقع,
والخيال برأيه مجرد واسطة لأسر الواقع, ويؤكد أن الخيال كمنفذ أساسي للمادة
الحقيقية.
النقطة المركزية في حديثه في الكتاب المذكور: هو حول نشأته في الجانب
الساحلي من بلده كولومبيا, وبالنسبة له ان تلك المناظر الطبيعية مفعمة
بالسحر, من أفريقيا وأسبانيا وتراث الأمريكان الهنود, أساطير امتزجت .. ذلك
العالم الساحلي .. شكل نظرته الواقعية.
"ذلك العالم علمنى ان ماهو فوق الطبيعي, يشكل جزأ من حياتنا اليومية".
تلك الخبرة التي عاشها ماركيز في ثماني سنوات في قرية أراكاتاكا, قضاها في
بيت جده وجدته من ناحية الأم. كان في اتصال بماهو "فوطبيعي", من خلال
حكايات جدته: عالم من الأساطير والتنبوءات بالكوارث والخرافات وحكايات عن
التمردات والحروب الأهلية بالاضافة الى عماته اللواتي وطوال فترة طفولته,
أفعمن جو البيت بالأرواح, والخادمات الأمريكيات الهنديات, والأفارقة السود
الذين يعودون من عملهم في المزارع.
ترك ماركيز دراسته للقانون, واضطر لممارسة مختلف المهن .. أو على حد
تعبيره:"يجب ان آكل, بعت موسوعات, أصبحت مراسلا صحفيا في نيويورك, وروما ,
وباريس وجنيف". وفي كل الأحوال كان يعيش عند حافة الحاجة .. وعن قراءاته
يقول: "كنت أذهب الى مكتبة المدرسة وأقرأ الكتب المصفوفة على الرفوف من
اليسار الى اليمين".
العودة الى كولومبيا
في بداية عام 1992م إلتقاه في كولومبيا الصحفي مافيس غويندارد وأجرى
معه مقابلة مخصصة لمجلة سكاندوراما يتحدث ماركيز فيها عن أصدقاء.. في بدء
اهتمامه بالكتابة, أشاروا عليه أن يقرأ الأدب الأمريكي الشمالي "أدب
الولايات المتحدة" والصحافة الحديثة ويعلق: "ذلك جعلني أشعر أني هناك, لقد
أسرني ادراكي .. الخط الفاصل الرقيق بين الصحافة والأدب".
ويؤكد ماركيز أن "وقائع موت معلن" بنيت على أحداث حقيقة, ومخطط
الرواية كان في مجراه لمدة ثلاثين عاما, وكانت والدته قد طلبت منه أن
لايكتب عن مأساة جيرانهم, ولينتظر الى أن تموت الأم, حيث وجد نفسه حرا في
كتابته حول الوقائع .. وعن انتاج الرواية المذكورة سينمائيا . يقول :"لقد
طلب مني المخرج فرانسسكو روسي أن يحولها الى فيلم سينمائي, لقد كنا أنا
وروسي نمتلك الرغبة لأنتاج شريط سينمائي ومنذ وقت بعيد.
وبعد نقاش على مائدة غداء, وافقت وكان فيلما جيدا, ولكن ليس جيد جدا,
مما حداني الى أن أرفض أن يحولوا مائة عام من العزلة الى فيلم سينمائي,
المخرج, يترشح الشريط السينمائي من خلاله والممثلين. الرواية تذهب الى
القارئ مباشرة, مفاهيم المخرج تكسي الشخصيات باللحم .. تصبح ملكه الشخصي,
أنا أحب أن أكتب للسينما, والآن علي أن أختار، أما أن أكتب سيناريو أو أكتب
روايات".
وعن روايته التي تتحدث عن القائد الوطني خوسيه مارتي "من كوبا 1853م -
1895م أعلن الثورة ضد الهيمنة الأسبانية, وكان هدفه أيضا توحيد بلدان
أمريكا اللاتينية". يعلق ماركيز على مشروع الوحدة بين بلدان القارة
بقوله:"لقد زرعنا فكرة الأستقلال وبعمق بحيث ان بلدان القارة في الوقت
الحاضر, تحاول أن تكون مستقله عن بعضها البعض". وفي مناسبة أخرى يشير
ماركيز ان وحدة بلدان القارة ليست في التقاليد السياسية, وانما سلسلة
أحداث ثقافية ذاتية.
في تصريح لصحيفة نييوس ويك في مايو - مايس 1996م يقول ماركيز:"السينما
تهمني جدا, أنا دائما أحببت السينما, وكنت ناقد سينمائي في بدء شبابي, وكل
شيْ له علاقة برواية الحكايات يسحرني".
وفي تلك الفترة بالذات اتصل به شخص كانت زوجته قد تم اختطافها في كولومبيا
ليحدثه عن اختطاف شقيق الرئيس السابق لكولومبيا سيسار غفيريا وبكلا
الحالتين دارت الشكوك حول كارتيل المخدرات "العصابات المتاجرة بالمخدرات"
انه وراء الأختطاف بقيادة امبراطور الكارتيل آنذاك بابلو اسكوبار. وشروطهم
لاطلاق سراح المختطف ..أن يصبح غارسيا ماركيز رئيسا لكولومبيا!
وكان جوابه برفض اقتراحهم, وقدم اقتراحاً مقابلا:"ادفنوا اسلحتكم,
وانزعو اقنعتكم, وأظهروا للعلن وقدموا افكاركم ضمن القوانين الدستورية".
ومن الجدير بالذكر ان ماركيز جهد بكتابة كتاب عن الاختطاف الأول, وبعد
أن طبع الكتاب, جرى تعاون ماركيز السينمائي كتابة لأنتاج فيلم (أويديبوس
المحافظ "المدينة" ) وأخرجه المخرج الكولومبي خورخيه علي تريانا والفيلم
اعادة للماساة الأغريقية لسوفوكليس وبشكل معاصر وتجري أحداثه في مدينة
كولومبية. وكان رأي المخرج تريانا انه البدء في ان تحاكي السينما الأمريكية
اللآتينية جيل الهدير الأدبي "ماركيز ,فوينتس, للوسا, وكوتاثان".
ان صناعة السينما جزء من أفضليات غبرييل غارسيا ماركيز "غابو"
بالأضافة للأدب والصحافة, فهو يزور هافانا - كوبا ليقدم محاضرات حول كتابة
السيناريو معهد الفيلم الأمريكي الحديث والذي شارك في تأسيسه عام 1984م
مالا وخبرة ..بايجاز, من جيبه الخاص.
وكخاتمة أحب أن اشير ان روايته "حب في زمن الكوليرا" تم انتاجها
سينمائيا, وبما أني شاهدت الفيلم ولم أقرأ الرواية فلا أريد أن أطلق أحكاما
أو حتى ملاحظات .. فروائي كماركيز لايمكن تسجيل مجرد انطباعات عن انتاجه
مهما كان شكل هذا الانتاج.
إيلاف في
05/09/2009 |