محمد عبيدو من دمشق: وُلِد فرانشيسكو دي غويا عام 1746، ومات عام 1828،
وعاش حياةً صاخبةً متقلبةً مملوءةً بالبؤس ثم المجد ثم الفراق ثم الجنون،
وذلك بعد طفولة غامضة بعض الشيء، عاش أوّلها في مسقط رأسه، آراغون، ثم
التحق بمحترف للفن، فشل بعده، وهو في العشرين، في دخول أكاديمية الفنون في
مدريد. فكانت إيطاليا أحنّ عليه إذ التحق لاحقًا بأكاديميتها... وسجّل غويا
في لوحاته فترة حالكة في تاريخ أوروبا، وهي فترة محاكم التفتيش والغزو
الفرنسي لإسبانيا وإعادة الملكية في مدريد على يد البريطانيين.
في شيخوخته، بدأ يعاني أمراضًا مزمنةً تسبّبت له بالشلل والصمم، فتحوّل إلى
انعزالي وأنتج تلك "الرسوم السوداء المرعبة" التي مات بعد إنجازها متسائلاً
عن الجنون البشري الذي يدفع الإنسان إلى قتل أخيه الإنسان.
يقدّم لنا المخرج الإسباني كارلوس ساورا أبرز رموز عالم الفنّ الإسباني،
الفنّان التشكيلي الثوري فرانشيسكو دي غويا في فيلم بعنوان "غويا في
بورديوس" 1999 حيث قام بتجسيد شخصيّته الممثل الشهير فرانشيسكو رابال،
ويتناول هذا الفيلم السنوات الأخيرة من حياة غويا التي قضاها في مدينة
بوردو الفرنسيّة بعيدًا عن وطنه وشعبه الذي كان يعاني من ويلات الفقر
والجهل والاستبداد، وبكثير من الشاعريّة والجمال البصري و بأسلوب جديد دمج
فيه المخرج في تناسق بين جمالية وسحر السينما وعمق الابداع التشكيلي
وغموضه. طوّقت الكاميرا لحظات مصيريّة من حياة هذا الرسّام الذي جسّد في
لوحات خالدة جانبًا من حياة عصره وآلام النّاس ومعاناة شعبه إلى جانب مشاهد
من الحبّ والجمال من خلال علاقته الحميمة بالدوقة دي ألبا التي استولت على
قلبه وملكت كلّ حواسه حيث بقي حبّها حيًّا في قلبه إلى آخر نبض. يبدأ
الفيلم بالرسّام العجوز يتجوّل هائمًا في الشوارع بعدما يصحو من نومه وهو
لا يزال تحت تأثير حلم، حيث يبدو المشهد أقرب إلى الحلم منه إلى الحقيقة.
ولا ينتهي إلاّ بعثور ابنته المراهقة روزاريو عليه وسط الشارع وإعادته إلى
المنزل. تتمّ أحداث الفيلم من خلال القصص والذكريات التي يرويها غويا
لابنته روزاريو. كان غويا قد تجاوز الثمانين في الفترة الزمنيّة التي
يعالجها الفيلم وقد كان لاجئًا مع مجموعة من المثقفين الليبراليين فرارًا
من الحكم الاستبدادي الذي ضاق بهم وظلّ يعاني فيها حسب رؤية المخرج أوجاع
الغربة ومشاكل الشيخوخة، لكن من دون أن يفقد قدرته على الرؤيا الخلاّقة
والإبداع الاستثنائي. وفي رحلات متتالية حينًا ومتشابكة أحيانًا أخرى
تنقّلت الكاميرا بين مختلف الأزمنة في ذهاب وإياب بين الماضي والحاضر وبين
الواقع وأحلام ورؤى الفنان، وقد كانت روزاريو، ابنة غويا من عشيقته
الأخيرة ليوكاديا زوريلا دي ويس التي رافقته في منفاه، الخيط الرابط بين
ذلك الزخم من الأحداث والمغامرات التي عاشها الرسّام طيلة حياته الطويلة
حيث عاش فوق الثمانين وظلّ على الرّغم من المرض والشيخوخة يداعب الريشة
والألوان. وقد ركّز المخرج في هذا الفيلم الذي تدور أحداثه حول شخصيّة فنية
مرهفة الأحاسيس ودقيقة الملاحظة على وصف ذاتي لهذه الشخصية التي عاشت وسط
المجتمع الأرستقراطي، لكنّها جسّدت أكثر من غيرها مآسي الإنسان البسيط.
ويبرع ساورا براعة غير اعتيادية في الكشف عن زوايا دالة على لوحات غويا
ويفسّرها سينمائيًّا مضيفًا تفسيرًا عميقًا إلى تفسيرات مؤرّخي الفنّ.
تتكوّن ذكريات غويا من تصوير مشاعره الذاتية وأحلامه وحتّى هلوساته التي
جسّدها في تخطيطاته ولوحاته ذات القيمة التاريخية الكبيرة. هذه الأجواء في
الفيلم، بما تتضمّنه من تغيير في الزمان والمكان، هي ما ساعدت المخرج على
إغناء فيلمه من الناحية البصريّة التشكيلية.
قد يتوقّع عشّاق المخرج التشيكي ميلوش فورمان الحائز جائزة الأوسكار مرّتين
وقدّم تحفًا لا تزال محفورة في المخيّلة والوعي البشريين المهتمّين بروائع
النتاج الفنّي الإبداعي: "طيران فوق عشّ الوقواق" (1975) و"هير" (1979) و"أماديوس"
(1984) و"فالمونت" (1989) و"لاري فلينت ضد الشعب" (1997) و"رجل على القمر"
(2000)، بعد انتظار دام سبعة أعوام، أن يقدّم فيلمه الجديد "أشباح غويا"
دراسة لحياة فرانشيسكو غويا. لكنّهم سيرون في الفيلم تاريخًا لا يرحم. يبدأ
الفيلم بعرض رسومات غويا وبعدها مباشرة نرى كبار الكنيسة الإسبانيّة يدينون
تخطيطات غويا التي صوّرت تعذيب المنشقّين والزنادقة وحديثًا حول حثّ
الكنيسة الكاثوليكيّة بتحصين نفسها وتنشيط عمليّات الإقصاء لتنقية الأرض
منهم. يلي ذلك مشهد رمي جثة حيوان في أحد بساتين الملك البليد كارلوس
الرابع لكي تتجمّع عليها الطيور ويصطادها بشبق كون الملكة ماريا لويزا
فضّلت العقبان لعشائها وهو إيحاء مبكر من فورمان وموفّق إلى حدّ بعيد
لتهيئة المشاهد للدنيا الفاجرة التي سيقدّمها فيما بعد والروعة البذيئة
لبيوت الملوك، فيما شوارع المملكة تعجّ بالحياة الساقطة وسط الموت الرهيب.
وتدور أحداث فيلم "أشباح غويا" الذي حدثت وقائعه في إسبانيا في العام 1792،
حول حكاية رهط من الأشخاص عاشوا في حقبة من الاضطرابات السياسية والتغيّرات
التاريخيّة، حيث تُروى الحكاية من منظور الفنّان العظيم فرانشيسكو غويا،
وتتطوّر حبكة القصّة خلال السنوات الأخيرة من زمن محاكم التفتيش الإسبانية
وتستمرّ مع غزو جيش نابوليون لإسبانيا وتنتهي مع هزيمة الفرنسيّين واستعادة
الحكم الملكي الإسباني على يد جيش ويلينغتون القويّ، ويتناول الفيلم قصّة
لورينزو "النجم خافيير باردم" وهو راهب فاسد، لكنّه يتمتّع بشخصية قويّة
وجذابة، يغرم بإينيس الفتاة الصغيرة "ناتالي بورتمان" التي استعان بها
الرسّام غويا كموديل للوحاته و"إيقوناته"، في ظلّ سطوة محاكم التفتيش
الإسبانية والانقلابات الحاصلة في أوروبا نهاية القرن الثامن عشر، وهما
شخصيّتان خياليّتان مستوحاتان من إحدى لوحات غويا. تسجن الفتاة ويحكم عليها
جورًا بالهرطقة وترسل إلى السجن من قبل محاكم التفتيش الدينيّة ويزورها
لورينزو في سجنها الرّهيب بطلب من غويا ووالدها وتنتج عن لقاءاته بها أن
تحمل بطفلة. يهرب لورينزو إلى فرنسا ليعود مع الجيوش الفرنسيّة وقد تغيّرت
معتقداته، وتخرج الفتاة كشبح إنسان بعد سجنها 15 عامًا تبحث عن طفلتها التي
ولدتها في السجن، لتزور بيتها القديم حيث سترى والديها وإخوتها قتلوا ولم
تجد غير باب غويا لتطرقه فيضع في يدها قطعة معدنيّة متصوّرًا أنّها شحاذة،
لكنها تومئ إليه بلوحتها التي رسمها لها قبل 16 سنة، فيدعوها إلى الدخول
ويعدّ لها شيئًا تأكله ويعطيها قلمًا وورقة لتسرد له كتابةً ما حصل لها،
لكنّها لم تذكر سوى أنّها تبحث عن ابنتها التي أخذوها منها في السجن بعد
الولادة.
فيما بدأ غويا يعاني أمراضًا خطرةً مزمنةً تسبّبت له بالشلل والصمم فتحوّل
إلى انعزالي منكمش وتولّدت عنده نظرة ساخرة ناقدة إضافةً إلى
الشكّ بالمجتمع، انعكس ذلك كلّه في أعماله الفنيّة التي سادتها ألوان مظلمة
توحي بالكآبة والطابع المأسوي والحسّ التراجيدي والنظرة التشاؤمية والمخاوف
الوهميّة. ثم كانت مجازر "الحروب النابليونيّة" التي أثارت بمذابحها ثائرته
إلى حدّ الدنوّ من الجنون، فقدّم رسومات ولوحات عن كوارث الحرب. الفيلم
نظرة ثاقبة على التاريخ، نظرة موجّهة في ضربات ريشة الفنّان فرانشيسكو
غويا، تظهر الملك وحاشيته كما تظهر رجل الكهنوت المهيب، أو القرية الضحية
والمعذبة. ستبقى خاتمة هذا الفيلم واحدة من أروع صور السينما.
لم يعتذر لورينزو للكنيسة وفضّل الموت على ذلك، لكنّ ابتسامته على منصّة
الإعدام لمصدر صوت إنيسا كانت بمنزلة إعلان توبة أمام قلبه والفظائع التي
اقترفها بحقّها.
وإنيسا الوحيدة التي رافقت جثته التي سحبتها عربة بحمارين وكان رأس لورينزو
يتدلّى منها ليبصر في لحظاته الأخيرة مدريد بالمقلوب مع موسيقى مشكلة من
غناء أطفال على الرغم من كلّ ما فعله معها وغويا خلفهما. تسير نحو وفائها
ممثلة الحياة ويلحقها غويا متشبّثًا بالحياة برمزها الأثيري والاثنان
يمشيان في جنازة الحياة نفسها، برذائلها وقسوتها ووحشيتها وندوبها ووفاء
الملائكة الذين انصهروا جميعًا في اللوحة الفائقة الجمال التي التقطها غويا
لأشباحه.
قال فورمان إنّه اختار بورتمان لأداء الدور لأنه رأى أنّها تشبه الشخصيّة
التي صوّرها غويا في لوحة "بائعة اللبن في بوردو" وإنّه حين شاهدها في فيلم
"أقرب" اقتنع بأنّ لديها قدرات تمثيلية تمكّنها من أداء ما يصل إلى ثلاث
شخصيات مختلفة في الفيلم.
"أشباح غويا" موضوع إنساني يمتلك الكثير من خيوطه بلغة سينمائيّة ترمي إلى
التأثير على المشاهد في أداء بارز لأبطاله عبر النظرات والصمت والصراخ
والألم والتركيز على بناء الشخصيات من دون الوقوع في كليشيهات العلاقات
الاجتماعية بين البشر، الأمر الذي يضع المشاهد في حيرة بين حدود الوهم
والواقع وما بين الأصل والصورة وأسئلة الحضور والغياب للمبدع تجاه مجتمعه.
إيلاف في
27/08/2009 |