ليل السجن الطويل في زنزانة
ظلمتها حالكة.. حوائطها خربة تنشع منها رائحة عفونة..
نافذتها صغيرة تقترب من
السقف، لايمكن أن يطولها أحد ليطل منها..
قضبانها المتلاصقة الصدئة لاتسمح
بمرور شعاع من ضوء نهار أو أضواء ليل آتية من بعيد..
الشمس..
والقمر لامحل لهما
من الإعراب البصري. و»العتمة« هي مايجب أن تعتاد عليه..
لكن حذار أن تجعلها
تتسرسب إلي عقلك أو قلبك خاصة إذا كنت سجينا سياسيا صاحب رأي
أو قضية..
ومبدأ
مخالف . ولأن الأيام في السجن جميعا متشابهة وتمر بطيئة..
ربما لايهون منها
سوي »الرفقة«
وهنا وجب التنبيه أن قانون الزنزانة السياسية«
يختلف تماما عن
زنزانة المجرمين من القتلة واللصوص..
فالثانية لاصحبة ولا رفقة فيها..
القوة هي
اللغة السائدة.. أما الأولي فالتحاور والحوار مهما كان الاختلاف يذيب
الخصومة
السياسية لتتحول إلي تواصل إنساني،
وإن كانت الحقيقة أنها كلها »زنازين«.
هذه الصورة القاتمة هي ماقدمها المخرج السوري »حاتم علي«
الذي
أخرج العديد من المسلسلات التليفزيونية التي ارتبط اسمه بها.. من أشهرها
»الزير
سالم«، »صلاح الدين«، »الملك فاروق«.وفي فيلمه هذا »الليل الطويل«
عن
سيناريو لـ»هيثم حقي«
يروي رفقة أربعة من السجناء السياسيين في زنزانة واحدة..
وذات مساء يتم الإفراج عن ثلاثة دون سبب مفهوم،
بينما يظل رابعهم قابعا في
الزنزانة.. لقد أفرج عن الثلاثة باختلاف مذاهبهم ماعدا »الفنان«
الذي يبدو أن
الخوف منه ومن تأثيره علي الآخرين أكثر من أي فكر أو مذهب سياسي.
ليل السجن
الطويل المرير وقسوته لم تغير شيئا من أصحاب الفكر والمباديء،
وإن ألقت بظلال
التغيير علي أبنائهم وعائلاتهم..
ربما اعتقد البعض منهم أنه لن يتم الإفراج عنهم
وبالتالي اعتبروه لم يعد جزءا من حياتهم وفعلوا مالم يكونوا ليفعلوه في
حضوره..
الحرية لواحد من الثلاثة كانت حنينا للأنقاض فلم يعد لمنزله
لتنتهي حياته وسط
المقابر الموحشة..
وللبعض الآخر كان تصالحا مع النفس الحائرة لتبقي مرارة السجن
وقسوته صورة أمامنا.. تقشعر لها أجسادنا وتتألم معها أرواحنا.
وأخيرا فإن
كثيرين منا سجناء داخل أرواحهم وأنفسهم..
يختنقون من قيود أكثر صلابة وصرامة من
قيود السجن الحديدية.. تري من يخلص أرواحنا من معاناة هذه القيود
النفسية.
< < <
وإذا كان »ليل« حاتم علي »الطويل« قد
باعد بين أفراد الأسرة الواحدة فاعتقد الابناء أن الآباء لن يعودوا ثانية.
فإن
الوضع مغاير تماما ومعاكس مع الآباء..
وخاصة الأمهات فقلوبهن بها
»رادار«
لاتخيب بوصلته أبدا وهذا ما عكسه المخرج السوري »ماهر صليبي«
في فيلمه القصير »شوية
وقت«. ولأن »قلب الأم دليلها«
علي رأي المثل،
فإن الفيلم من الممكن
أن تقع أحداثه في أي بقعة من العالم..
فدائما هناك قلب أم قلق ينتظر عودة ابن
غائب.
وفي فيلم »شوية وقت« تجلس أم عجوز مسنة، ومنذ أكثر من ستة عشر
عاما أمام منزلها منذ أن اعتقلت قوات الاحتلال ابنها في مرتفعات الجولان..
الجميع
يعتقد ويؤكد أن الابن مات ولن يعود بالتالي..
ماعداها هي التي تصر علي أنه حي
وسوف يعود إليها.. وبعد كل هذه السنوات الطويلة يصدر قرار الإفراج عنه
ويصدق قلب
الأم..
والتي نراها في نفس اللحظة تقوم وتفتح
غرفته وتنفض التراب عنها
وتنظفها.. وتخلع رداء رأسها الأسود الذي تتشح به منذ سنوات لتضع آخر »أبيض«
اللون.. وتعود لجلستها منتظرة الابن العائد..
لكن في اللحظة التي يخبره فيها
السجان بالإفراج عنه يجده قد توفي.. وفي نفس اللحظة تنتقل روح الأم لبارئها..
ليلتقيا في ملكوت الله الواسع بعد أن ضاقت بهما الأرض..
وكأن السنوات الطويلة
التي مرت بهما ماهي إلا اختزال لعمريهما الحقيقيين وتمهيد للقاء في الملكوت
الأعلي.. فالجنة تحت أقدام الأمهات.
< < <
الحب.. والحرية
وجهان لعملة واحدة.. كلمات مترادفة..
فالحب يختنق ويموت في الأسر
..
العبودية.. إنه يحتاج للحرية لكي يتنفس ويعيش بشكل حي.
والفيلم الفلسطيني
القصير »ليش صابرين«
لمخرجه »عليان موسي« يروي قصة حب جميلة بين شاب وفتاة
فلسطينيين من عائلة محافظة وعندما يفكران بالهروب بحبهما بعيدا.. يفاجآن
بقوات
الاحتلال تتعرض لهما وتمنعهما من التقدم..
وتحت حجة التفتيش تطلب منهما خلع
ملابسهما لتشعر الفتاة بالخزي والعار..
والفتي بالعجز عن حمايتها..
ليرحلا بعد
ذلك كل منهما في طريق عكس الآخر..
وقد وضعت الفتاة علي رأسها
غطاء.. فالحب
لاينمو إلا وسط الحرية.. وعندما يحتلون الأرض فإنهم يقتلون كل شيء جميل ومن
هنا
كان الصمود وحق التمسك بالأرض التي هي
»العرض« و»الحياة«.
< < <
»رسالة إلي أختي«
فيلم لبناني شديد الإنسانية مدته لاتزيد علي 25
دقيقة للمخرج »سليم مراد«..
لكنه يعكس واقع أناس وبشر كثيرين يعملون
جاهدين علي
إخفاء عزيز لديهم وعليهم بحجة أنه »معاق«
وأنه لايجب أن يظهر علي الناس أو
يتعرف عليه أحد وكأنه »عورة«
بشرية..
ووصمة إنسانية ويجب التخلص منها
والابتعاد عنها وتجنبها.
وفي »رسالة إلي أختي«..
يزيح الستار عن جانب خفي
في حياته وحياة كثيرين مشابهين له..
ففي أثناء تفتيشه في أدراج
والدته يكتشف أن
له شقيقة كانت تكبره في العمر..
لم يعرفها، فقد كان صغيرا عمره لايزيد علي
التسع سنوات وكانت هي تكبره..
لكنها مصابة بنوع من التخلف العقلي وعدم النمو
والقدرة علي الحركة.. مما ألزم والديه إلي إرسالها في مصحة خاصة وإخفاء
الأمر عنه
حتي اكتشف ذلك بالصدفة..
ويعترف أنها كانت قسوة شديدة من والديه إخفاء الأمر
عنه، ولذلك يقوم بتصوير فيلم فيديو يحدثها فيه عن كل
ماحدث في العائلة كنوع من
التعويض عن تهميشها طوال تلك السنين..
ورغم أن ميرنا هذه الشقيقة
»توفيت« منذ
زمن طويل إلا أن هذا الشريط السينمائي كان بالنسبة للمخرج إعادة لوجودها
بينهم
وإعلاناً للجميع بأنه كانت هناك يوما ما شقيقة حتي لو كانت
معاقة فمن حقها أن
يعرفها الجميع ولايخبئها أحد وكأنها »عورة«
أو عيب في العائلة.
هذه
الملامح الإنسانية لأحلام
.. وعذابات الكثير من البشر عكستها بصدق شديد مجموعة من
الأفلام شديدة التميز التي عرضت في مهرجان وهران السينمائي
للفيلم العربي في دورته
الثالثة.. والتي عكست جهدا كبيرا مبذولا من رئيسه »حمراوي حبيب شوقي«..
وكتيبة العاملين معه.. فتحية لهم جميعا.
آخر ساعة المصرية في
19/08/2009 |