رجل العصابات الأكثر شهرةً في الولايات المتحدة
ابان الأزمة الاقتصادية الأبرز في تاريخ تلك البلاد، ما إن يدخل الى السجن،
في
افتتاحية فيلم مايكل مان الأحدث عهداً، حتى يخرج منه مصحوباً بالأسلحة
وأزلام الظلّ
والذخيرة، ضامناً الاستمرار و"النضال". بين الدخول والخروج
هذين، حفنة لقطات قصيرة
متعبة وبضع دقائق فاصلة وحاسمة، كان يمكن مخرجها مان، وهو سيد من أسياد
التجريب في
هوليوود، أن يستعرض خلالها "الطاقة" الاخراجية التي صنعته خلاقاً قادراً
على تشكيل
مناخات اقوى، من اجساد تتهاوى الى تشابك وتبادل رصاص على طريقة الباليه.
لكن مان
يفضل، على هذه الاسلوبية، ادارة العملية بيد فاعلة ومقتصدة:
بضع طلقات نارية
وعراكات بالأيدي، ثم يصبح جون ديلينجر (جوني ديب) حراً طليقاً مجدداً،
وينطلق
الفيلم الحادي عشر لسينمائي لا يقارَن مع ايٍّ من الذين تركوا بصمات في
سينما
الجريمة. السبب في ذلك انه صاحب اصالة، من الجنريك الى الجنريك.
في خياراته
التقطيعية ونقلاته المستمرة بين الداخل المتوتر والخارج الهادئ، تذكّرنا
هذه
الافتتاحية بملفيل في افضل انجازاته: جدار عال يشطر السماء اثنتين، رماديات
واخضرارات باهتة تلون الصورة، أجساد فيها حضور وعزم تكسر
الكادر منذ اللحظة الاولى.
والآتي لا شك أعظم.
ما ان يصبح ديلينجر (1903 ــ 1934) في ذمة الجريمة المنظمة
من جديد، حتى تنبعث فيه الحياة، سرقة ونهباً والتهاماً لأموال
المصارف التي يختارها
من بين أقلها لطفاً مع الزبائن. هنا أيضاً، لا نحتاج الى أكثر من مشهد -
دليل
لنتدارك سهولة الأمر بالنسبة الى أفراد عصابة سرعان ما يتحولون الى أعداء
الشعب.
ولئن ليس من حكاية عند مان تكتمل من دون ان يكون لها وجهان أو طرفان،
الخارج على
القانون ومَن يعمل على تطبيقه، فإن الشريط يأخذنا من مطاردة الى أخرى،
تنتهي فصولها
المختلفة أمام صالة سينما. كنا نعلم أن عمل مان يتشكل من هذا
المكوث التأملي على
الخط الرفيع الفاصل بين الخير والشرّ، وهنا حلقة مستجدة من صراع القط
والفأر اللذين
يتطلع الواحد في عين الثاني، قبل أن تأخذهما جولة جديدة من المطاردة.
فالاضداد عند
مان لا يكره بعضهم بعضاً بل يتبادلون احاسيس الودّ الباطنية وغير
المعلنة.
ديلينجر هذا، أقله في جانبه المعروض هنا، لا يختلف عن سائر المخربين في
سيرة افلام العصابات الهوليوودية. بيد أننا نراه مرغماً، لسبب
من الأسباب، على
التذكير دائماً بأنه "ليس كسائر الرجال"، وخصوصاً عندما يكون في صحبة فتاة
متواضعة
الأصل (ماريون كوتيار) ينقضّ عليها بطريقة فحلوية منذ نصف الساعة الاول من
الفيلم،
موجداً حلاً سريعاً لأزمتيه البيولوجية والعاطفية (قبل ذلك كان يعاشر
العاهرات)
كأنما يضرب عصفورين بحجر واحد. واذا كان على قدر عال من الذكورية في اختيار
اسلحة
الاغراء، فذلك يتأتى أيضاً من تورط مان في هذه الذكورية المفرطة التي تُحسب
نقطة
سوداء على سينماه منذ بدايتها، وهي منعته دائماً، لكن بدرجات
متفاوتة (هنا الهنة
الوحيدة)، من ان يجيد بلورة الشخصيات النسائية والذهاب بها الى ابعد من
جعلها مجرد
اكسسوار.
خلافاً لرجال عصابات آخرين من اصحاب العقول النيرة، لا يملك ديلينجر
مخططاً. وهو، كما يقول لصديقته في لحظة دفاع عن خياراته
المخبولة، "كثير الانشغال
بالحاضر كي يفكر في المستقبل". هذا الكلام وهذه الباطنية التي عند الشخصية،
كان لا
بدّ أن يُترجما بشكل من الاشكال. ولئن كانت سينما مان هي ايضاً سينما تعتمد
على
المساحة المعطاة الى الممثل وادائه، فإن خيار جوني ديب يبدو
هنا خياراً صحيحاً لأنه
يترجم هذه الحيرة التي لا يرتاح اليها لا المشاهد ولا المخرج، لأننا سنظل،
طوال
ساعتي الفيلم، نجهل ماذا يدور في عقل هذا المشاغب، ولا نعرف حتى النهاية ما
اذا كان
على قدر من الذكاء أم السذاجة! أما أسوأ ما يملكه فهو عندما
يحاول مغازلة صديقته
واقناعها بأنه "مخلصها" المنتظر وبأنها لن تعود مجدداً الى مزاولة مهنة
متواضعة في
احد الفنادق. فهل يحاول بذلك اطالة حبل الكذب أم هو لا يدرك اصلاً ان ما
يقوله كذب؟
لا النصّ ولا عينا جوني ديب، الذابلتان في تلك اللحظة، يفصحان
الكثير عن هذا السرّ،
سرّ شخصيةٍ صوفُها أحمر منذ البداية، لكن مان يحمل ديلينجر واثمه على
الراحات، لسبب
واضح وصريح هو ميله الفطري الى الخارجين على القانون والعدالة، ولزادهم
التراجيدي
الرومنطيقي الأخاذ (جيسي جيمس نموذجاً) المتبلور على الشاشة، لقطة خلف لقطة.
يصوّر مان مشاهد الحبّ كمشاهد صراع، ومشاهد الصراع كمشاهد حب. واذا هتف قلب
مخرجنا الكبير الى هذا البطل بالذات الذي اهتزت العروش من أجله
في الثلاثينات
الأميركية، فذلك لأنه ينتمي الى طينة أخرى من الابطال الذين كان لديهم يد
طولى في
صناعة التاريخ الأميركي المعاصر، وليسوا مجرد وصوليين منهمكين في سرقة ما
يوفر لهم
عيشاً هانئاً. أمثال ديلينجر يدركون تماماً ان كل خطوة لهم هي
خطوة في اتجاه الأخرى
لكن هذه المعرفة لا تغير شيئاً في سلوكهم.
تفصيل آخر ذو شأن قد يكون حثّ مان على
الانكباب على الشخصية: كان ديلينجر هو الذي ساهم في تطوير الشرطة
الأميركية. ومن
أجله أبتكر ما بات يعرف اليوم بالشرطة الفيديرالية (أف بي أي). ويقال إن
ديلينجر هو
أول من لجأ الى خطف رهائن خلال عملية سطو على مصرف. وكان بذلك
كله "مدرسة" لمشاغبي
العقود التالية.
يدور النصّ حول زوايا الشخصية، مسلطاً الضوء على سحرها
وذكائها، ممتنعاً عن قول الكثير في شأنها (اعجابه بجيسي جيمس مثلاً)، مما
يتيح لمان
الفرصة كي يظهر صراعات كبيرة داخل صراعات أصغر لكنها تبدو كبيرة، اذ يتبدى
فجأةً
مدى تضعضع النظام البوليسي وارتباطه بالسياسة والمصالح العليا،
وهشاشة رجال الشرطة
وعدم كفايتهم. ويحرص النصّ دائماً على كسر هيبتهم وتحويلهم زمرة من
الفاشلين. وأن
يصرّ مخرجٌ على تبيان أن لا فرق كبيراً بين الطرفين، وأن الخير والشر صنيعة
ظروف،
فهذا ليس بخطاب جديد (العودة الى "رجل عصابات أميركي" لريدلي
سكوت)، لكن مان يفعل
ذلك على طريقته الخاصة جداً، بعيداً من الشعبوية وقيم
المحافظين، فتتدخل الصورة
الفيديوية، بفظاظتها أحياناً، لمزيد من الابهام والتغبيش والمساواة بين
الأطراف
المتخاصمين. الصورة الفيديوية البالغة أحياناً حدّ الرداءة (نكاد نرى
البيكسيل) هي
ضباب مخيم على هذا الفيلم.
يضع مان عالمين أحدهما في مواجهة الآخر: الكلاسيكية
الهوليوودية (الملابس، الديكور، الأفكار، الموسيقى، نصف التصوير) في مقابل
الحداثة
الرقمية المتمثلة في الاستعانة بالفيديو. هذا الفيديو الذي عرف مان كيف
يدفعه الى
ذروته التشكيلية منذ استخدمه في "عليّ" (2001)، يمنح الحقبة
المستعادة اطاراً
جمالياً فريداً يكسر روتين الأفلمة الأكاديمية لحقبات مضت. وهذا ما يجعل من
المخرج
شاعر الديجيتال الأهم. التضاد أو الكونتراست يتجلى ايضاً في المنظومة
الفكرية التي
يمتلكها ديلينجر وفي تلك التي عند مطارديه الذين يبحثون عنه
"حيّاً أو ميتاً"، كما
يتناهى الى مسامعه. من هذا الصراع خرجت أميركا ما بعد الثلاثينات أمة قوية
واثقة
بذاتها. واذا بدا ديلينجر قوياً وواثقاً بنفسه أيضاً، فذلك لأن خصمه كان
ساعتذاك لا
يزال ضعيف البنية وصاحب شكوك مزمنة واضحة في المشهد حيث يتحدى ديلينجر
الشرطي ملفين
برفيس (كريستيان بايل، الممثل المناسب في الدور المناسب). وهذه
الثغرة يراهن عليها
رجل العصابات لكسب معركته الملحمية الطويلة التي تقودنا عبر الغابات والطرق
الخاوية
والملتوية في قرى نائية، فيما تتراقص كاميرا مان على وجوه شخوصه ساعياً الى
البقاء
أقرب ما يمكن من مسامات جلودهم.
لم يعد سراً ان الأبطال في السينما غالباً ما
يستمدون نفوذهم من أعدائهم. هذه ثابتة من ثوابت الفن السابع. اذاً، هريان
السلطة هو
قوة ديلينجر، وهو يدركه جيداً، وهذا ما يشجعه على الدخول الى مقر الشرطة
ذات مرة،
وتحديداً الى الوحدة المخصصة للقبض عليه، ويتسكع في أروقتها،
في واحد من أروع مشاهد
الفيلم.
تفصيل آخر ذو أهمية قصوى: من بين الأشياء التي يحبها ديلينجر هناك
السينما. يرتاد الصالات المعتمة دورياً. في الدقائق
الهيتشكوكية التي يُختتم الفيلم
على اثرها، سيذهب ديلينجر لمشاهدة "مانهاتن ميلودراما"، من بطولة وليم باول
وكلارك
غايبل، الذي منه "سرق" شاربيه المقصوصين بعناية شديدة. هذا الحوار بين
الفيلم على
الشاشة والفيلم الذي أمامنا نحن المشاهدين، ذو دلالات عميقة. وسرعان ما
يتحول
الحوار الى لعبة مرايا متبادلة بين غايبل وديلينجر. نسمع غايبل
في "مانهاتن
ميلودراما" ينصح شريكه بـ"مت سريعاً"، قبل أن يهندس تفاصيل موته، وهو موت
سرعان ما
يأتي ليخطف ديلينجر أيضاً. انه تحالف سامٍ بين السينما والحياة! مع هذا
المشهد،
الذي يجسدّ قمة الروعة في سينما مان، يتأمل الفيلم مسألة تحويل
المجرمين والسفلة
رموزاً خالدة. لكن حيال هذا الشيء لا يشعر مان بأي عيب أو أسف. مثل سلسلة
كبيرة من
المجرمين خلّدتهم الشاشة، يدين ديلينجر الى السينما بالكثير، في حياته كما
في موته،
لذا يتيح مان له مشاهدة نفسه، للمرة الثانية قبل أن يهوي، علماً ان المرة
الاولى
كانت حينما ذهب الى مقر الشرطة وتأمل صوره على لوحة مملوءة
بمذكرات التوقيف. بين
المرتين، الاولى والثانية، ثمة فرق كبير، اذ ينتقل بصر ديلينجر من النظر في
شخصه
الى النظر في تجسيده. مع هذا المشهد، لا نستطيع الا ان نرى مساواة بين
النجم
السينمائي وعدو الشعب الاول، والاثنان يمتلكان شعبية، لا تقاس
بأفعالهما انما بما
يمنحان الناس من أحلام للهرب في زمن اقتصادي صعب. ويبقى "أعداء الشعب"
وفيّاً لهذا
التراث الذي كرسه "الفيلم الاسود"، في ترجحه الدائم بين زمن غابر وحاضر
يتسرب من
بين أنامل أيقونات الشاشة. مرة أخرى يبرع مان في خلط الحاضر والماضي،
مستحضراً
عناصر من خارج الشاشة ومن داخلها. ودائماً ثمة شيء يذكّر بشيء
آخر. هناك شبح جيمس
كاغني واشباح أخرى كثيرة تلازم هذا الفيلم الذي سرعان ما يتحول في ادارة
مان الى
انشودة ليل، قاتمة، عبثية...
تتشكل سينما مان في الدرجة الاولى من لقيات بديعة.
من عملية بسيطة لنقل السجين ديلينجر، تراه يؤلف قصيدة يقتبس فيها جماليات
من
الانطباعية الألمانية. كذلك الأمر بالنسبة الى مصابيح السيارات التي تنير
ليل
سينماه. وأخيراً، بسلاح أوتوماتيكي اصبح اليوم في المتاحف،
يفتح النار على سينما
الحركة البليدة التي لا تبعث على التفكير. بالنسبة الى مان، ثمة حقيقة
واحدة لا
غير: اذا اردنا فهم الواقع (الأميركي) الآني فعلينا أن نفهم أولاً
الماضي.
(•) Public Enemies
ـــ يُعرض في "سينماسيتي" و"غراند ــ أ ب ث".
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
النهار اللبنانية في
13/08/2009
ايلودي بوشيز: في الحياة أمور أسوأ من أن تكون ممثلاً في
مسلسل
أميركي!
بدأت الفرنسية ايلودي بوشيز (من مواليد 1973) مشوارها
السينمائي في ادارة سيرج غينسبور. لكن كان ينبغي انتظار "الدفتر المسروق"
لكريستين
ليبينسكا كي تتسلم أول بطولة مطلقة لها. اندره تيشينيه يلاحظها في فيلم
زميله
سيدريك كلابيش فيمنحها دوراً في "الطحالب البرية" (1994) تنال
عنه جائزة سيزار أفضل
ممثلة واعدة. على بلاتو هذا الفيلم تلتقي ستيفان ريدو وغاييل موريل، وعند
أول مرور
لهذا الأخير خلف الكاميرا، يستعين بها في فيلم "بسرعة قصوى". منذ بدايتها
تبدي
اهتماماً بأدوار المهمشين: فتاة بكماء في فيلم لغراهام غويت ومدمنة مخدرات
في
"السماء لنا"، مع انضمامها الى حركة السينما المستقلة في اواسط
التسعينات التي تبلغ
ذروتها في "لويز، اللقطة رقم 2". يقترح عليها اريك زونكا، وهي في الخامسة
والعشرين
من العمر، أن تشارك في
مغامرة صنع فيلم شحيح الموازنة لكن بالغ الطموح: "الحياة
الحالمة للملائكة". نجاج نقدي وجماهيري ساحق يكلل بجائزة أفضل
ممثلة في "مهرجان
كانّ" مناصفةً مع شريكتها في التمثيل ناتاشا رينييه. أواخر التسعينات،
تقابل جان
مارك بار خلال مشاركتهما في فيلم، ومن تعاونهما معاً، هو كمخرج، وهي كممثلة
في
ادارته، تنتج "ثلاثية الحريّة"، عبارة عن ثلاثة أفلام. مع حلول
الألفية الثالثة،
تذهب الى الولايات المتحدة لتجرّب حظّها هناك، حيناً في أفلام تجريبية مثل
"سي كيو"
لرومان كوبولا، وحيناً آخر في مسلسلات تجارية أهمها
Alias.
أثناء زيارتها لبيروت،
كان لـ"النهار" لقاء مع بوشيز لاستعراض خفايا مسيرتها.
·
أول دور رئيسي لك
كان في "الدفتر المسروق". هل بدأتِ في تلك المرحلة تفكرين في مزاولة المهنة
نهائياً؟
-
لم أكن قد بدأت بعد. كنت أتمنى ذلك، وكنت فرحة إذ أتيحت لي فرصة
العمل. وفي الحين نفسه كنت أتابع دراستي، وأقول في قرارة نفسي:
"سأوقف دراستي حين
يغلب التمثيل على تحصيلي العلمي"، أي في اللحظة التي ستعوق المهنة إمكان أن
أذهب
الى الكلية.
·
لقاء تيشينيه كان حاسماً بالنسبة
اليك، إذ حصلت عن تعاملك وإياه
في "الطحالب البرية" على سيزار أفضل ممثلة واعدة...
-
في تلك المرحلة من حياتي
بدأت الامور تتعاقب وتتسارع. اللقاء مع تيشينيه في هذا العمل الجميل، وفي
الوقت
نفسه تقريباً التقيت سيدريك كلابيش وانجزنا معاً
Le Peril Jeune.
وبسرعة كرّت سبحة
السينمائيين؛ البعض منهم كان مختلفاً عن البعض الآخر. فكان
القرار ان أوقف الكلية
بعد فيلم تيشينيه لأكرّس وقتي كلّه للسينما.
·
رأيناك في أدوار متنوعة حتى لو
كان الغالب دور الشابة التي تحاول شق طريقها وسط الكبار. هل كانت عندك حاجة
الى
التنوع؟
-
بالنسبة اليَّ نعم، لكن آخرين لا يرونه هكذا، بل يقولون انني اضطلع
دائماً بالنمط نفسه من الأدوار، وطبعاً لم يكن عندي شعور قط
بأني أكرر ذاتي.
·
وما الذي شجعك على الانطلاق
اميركياً بعد نجاحك الفرنسي؟ هل كان عدم الاكتفاء؟
-
مزيج من اشياء. ما إن تنجز فيلماً في بلدك يطير صيته في الخارج حتى يطلبك
الاميركيون لتمثل عندهم. فهم يذهبون للبحث عن مواهب جديدة في كل الأمكنة
واقتراح
العروض. ان يتم طلبي للعمل في الولايات المتحدة فهذا كان
بالنسبة اليَّ تسلسلاً
منطقياً في مسار كل ممثل وممثلة.
·
هل كان العمل هناك مختلفاً؟ أشد
قسوة
مثلاً؟
-
كان العمل مختلفاً جداً وأقسى. عندما تكون مدللاً في بلادك وتصنع فيه
"انجازات" ترضيك، ثم تذهب الى الولايات المتحدة، فلا بد أن تشعر
بإنتكاسة في مكان
ما. هم يختارونك لأنهم سينيفيليون ويحبونك، لكن ما ان تطأ قدماك أرض
الولايات
المتحدة حتى تشعر بأنك "لا شيء". انه لأمرٌ قاس، لكن من الجيد أن نعيد
البدء من
الصفر. من الجيد أن أواجه معضلات تتعلق بالتمثيل بلغة ليست لغتي الأم. كان
عليّ
ايضاً أن أكون في مواجهة قدراتي وحدودها. عشت هذا كله وأنا
أمثّل في Alias.
كانت
تجربة قاسية لكن جيدة. أعيد الكرة بكل رحابة صدر، لأنها شكلت لي نوعاً من
تمارين.
·
تبحثين عن الخيارات الصعبة. ليست
السهولة من هواياتك!
-
الخيارات
السهلة غالباً ما تكون مملّة، وغالباً ما تكون مخلّة بالاستقرار، لأنها
تتطلب قدراً
أكبر من الطاقة (...). لا أتعمد أن أمشي عكس التيار، لكن عندي
متطلبات تكوّنت لديَّ
ربما نتيجة الاشخاص الذين التقيتهم في حياتي.
·
في مرحلة من مسارك ارتبط اسمك
بتيار سينمائي فرنسي مستقل. اليوم نراك على مسافة من هذا التيار.
-
بالأحرى،
التيار هو الذي لم يعد موجوداً لسوء الحظ (ضحك). أو لنقل انه يصعب على هذه
السينما
ان تكون موجودة. مخرج كعبد اللطيف كشاش الذي ينجز افلاماً تعجب
المشاهدين والنقاد
وينال الجوائز في المهرجانات، يصعب عليه تمويل فيلمه المقبل. فهذا دليل على
انه ليس
هناك مكان للمواهب الحقيقية.
·
"الحياة
الحالمة للملائكة" ارسلك من الظل الى
الضوء فجأة...
-
نعم، هذا الفيلم كان مهماً جداً بالنسبة اليَّ، وأنا جد فخورة
لأنني مثلت فيه. انه فيلم رائع، والتقائي بشخصيتي كان ملهماً.
وهذا لا يحصل كل يوم.
اللقاءات الحاسمة وقصص الغرام من النظرة الاولى لا نعيشها يومياً. وهذا ما
حصل معي
في هذا الفيلم. ثم هو فيلم متواضع الامكانات، وهو الاول لمخرجه صوّرناه من
دون أن
ينتبه اليه أحد، واذ به يصل الى "مهرجان كانّ" ويستوعبه الناس
ويعشقونه ومن ثم ينال
جائزة... هذه أشياء نادراً ما تتكرر.
·
ألا تشعرين بشيء من الكبت في
عملك على
مسلسل Alias
الأميركي؟
-
ليس سهلاً لكنه تمرين جيد، انه نقيض ما أفعله عادة.
ليس من علاقة بين الممثل والمخرج، وقد يتغير الأخير في كل اسبوع او مع
بداية كل
حلقة جديدة (...). أما الممثل فهو عرضة للتغيير ايضاً. هذا يتوقف على
تعليقات
المشاهدين وآرائهم فيه. اذا لم تحظ شخصية ما بإعجابهم فـ...
·
سلوك غير انساني
حقاً!
-
صدِّقني، هناك ما هو اسوأ بعد!
·
ماذا تقصدين؟
-
أعني أن هناك في
الحياة أموراً أسوأ من أن تكون ممثلاً في مسلسل أميركي (ضحك).
·
أوكي. في
السنوات الاخيرة، صارت اطلالاتك نادرة. هل هو الملل؟
-
اقتصاديات السينما تغيرت
وصرت في الـ35 من عمري وخرجت من نمط الفتيات المهمشات والمتمردات.
·
في الـ35 هل
يصبح الامر أصعب؟
-
هذا يتوقف على الممثلة. البعض منهن ينطلقن بعد الـ35 ويحققن
ذواتهن في الـ40، بعد أن يتعذبن كثيراً في شبابهن. ليس من حالة
تعمم على
الجميع.
·
تقولين في مقابلة ان من ينجذبون
اليك هم من تنجذبين نحوهم ايضاً. هذه
علاقة متبادلة جميلة بين الممثل والمخرج.
-
لطالما آمنت بأن المشاريع التي كانت
تأتي اليّ، كانت المشاريع التي تهمّني. في النهاية، لم تتسنَّ لي فرصة رفض
اشياء
كانت تتناقض مع توجهي. إذاً، نعم يجذبني من ينجذبون اليّ.
·
كيف تكوّن هذا الذوق
للأشياء عندك؟ عبر السينما؟
-
لا، في البداية لم أكن أشاهد الكثير من الأفلام.
لأنني ترعرعت في ضاحية باريس وكنت أشاهد الأفلام على التلفزيون. أمثال لوي
دو فونيس
وبيار ريشار، رافقوا طفولتي من خلال الشاشة الصغيرة، أما في السينما فكنت
أشاهد
جيمس بوند. لست كأصدقاء لي نشأوا في باريس وكانوا يذهبون الى
سينمات الأحياء
الصغيرة وهم لا يزالون في الـ17.
·
أنت متخرجة في مدرسة كاثوليكية،
أليس
كذلك؟
-
نعم، لكن بمحض المصادفة. لم أتلقَّ تربية دينية. ذهبت اليها لأنها كانت
الأكثر أماناً كوننا كنا نعيش في ضاحية "صعبة".
·
هل تمرّين بلحظات شكّ تقولين
خلالها لماذا أمارس هذه المهنة؟
-
لحظات شك بالتأكيد، لكن لا أسأل لماذا أنا
ممثلة. لأنه لم يعد من مجال لأعود الى الخلف. ولا أعتقد انه لا يزال ممكناً
أن
انتقل لمزاولة مهنة أخرى (ضحك).
النهار اللبنانية في
13/08/2009
عن آخر فيلم لغودار الذي مات مناضلاً وولد فناناً
"إشتراكية"
تنير عتمة التاريخ من أوديسّا الى فلسطين؟
رافق جان لوك غودار جيل "ثورة 68"،
فأغضبهم واسرهم بقدر ما يستطيع امرؤ فانٍ ان يفعل ذلك. سلط هذا
السينمائي آلة
تصويره كما يسلط الرجل سلاحه او قلمه: مقاتل في سبيل الحقيقة في عالم من
العنف طالت
فيه الحرب بين الصورة والمشهد. لقد غطى السكون الحوار على مر السنين، ولم
يبقَ هو
الا سيداً قديماً، متنبهاً لهذا العصر الذي يبتعد مع مرور
الوقت، فما عاد يشغل باله
الا الحرب والسلم. برعت أفلامه الأخيرة في ابراز مشكلة الحرب والسلم من
دون ان
يشوه أي حلّ. فعندما يموت مناضل، يولد فنان. لقد بلغ غودار ذروة فنه، اذ
جعل
المشاهد يرى ما ظن الانسان انه رآه. من جمال عبقريته يشع
النور. بالنسبة الى غودار،
العالم مظلم لكنه تحول نوراً في
غرفة معتمة. قليلة هي الأفلام تملك هذه النعمة. لقد
احتفل غودار بفنه، فكان جازماً انه الوحيد سينير عتمة التاريخ.
نتيجة ذلك، يخرج
المشاهد من "عند" غودار مفتوناً ومتصالحاً مع حضارة البشر. واذ بالعبث
يبتعد للحظة.
بعد تأمل طويل، خلاّقاً ناسكاً في عالمه الانطوائي، يعود غودار قريباً مع
"اشتراكية"، خارجاً من صمت دام خمس سنوات. لا ملخّص على النت عن هذا
الشريط ولا
معلومة عن تاريخ صدوره. من الأشياء القليلة التي نعلمها، مشاركة الفيلسوف
آلان
باديو في دور المحاضر. والحقّ أننا كنا ننتظر أن يشارك الفيلم في الدورة
الفائتة من
كانّ، لكن المخرج الذي صار على عتبة الثمانين لم ينهه في
التاريخ الملائم. جلّ ما
نعرفه عن الفيلم اليوم انه صوّر في بلدان أوروبية عدة، وربما فصل كبير منه
في
اليونان. أما الـ"تيزر" (نوع من دعاية لاثارة حماسة المشاهد)، فهو غوداري
"قح" في
دقائقه الاربع، ويجعلنا نتوقع فيلماً عضوياً على طريقة "موسيقانا".
يفتتح
الـ"تيزر" بامرأة تتمتم كلمات عن أوروبا، قبل أن تُكتب على الشاشة كلمة
"أشياء".
الى الآن الأجواء من باخ بامتياز. منذ اللقطة الثانية يلجأ غودار الى
ابتكار تقني
اصبح مع الزمن ماركته المسجلة وهو الـ"جامب كات" (القفزة
المونتاجية)، لنرى صبياً
يلمس عقداً من الذهب تلبسه فتاة حول عنقها، فتردّ عليه بلغة لا ادري ما هي،
واذ
بالفتى يرد عليها بالفرنسية: الصمت من ذهب. وعلى خلفية صوت فتاة تغني "دو
ري مي"،
نرى رجلاً كهلاً يأكل جالساً الى بار. ثم كلمة "أوغاد" على الشاشة تسبق
منظراً
ليلياً رائعاً وزمور باخرة. صوت أمواج فرجل يحمل كاميرا في يده ونذهب فجأة
الى
تمثال فرعوني قبل أن يأتي دور صورة مائلة الى البني والبرتقالي
طُبعت عليها كلمة
"مصر"، مما يمنح الانطباع بأن الفيلم سيكون في مزاج "موسيقانا" أو "في
مديح الحب"
اللذين تضمنا عدداً من الصور الأرشيفية. جملة من هنا واخرى من هناك ثم نصل
الى عجوز
يقول لفتاة "الاسلام هو غرب الشرق"، عابثاً على ما أعتقد برأي الشاعر
روديارد
كيبلينغ الذي قال ان "الغرب غرب والشرق شرق"، اي انهما عالمان لا يلتقيان
أبداً.
وهذه المقولة لا شك انها واحدة من مقولات
كثيرة سترد على لسان الشخصيات في الفيلم،
نظراً الى هوس غودار بهذا الشيء؛ فللعبارات الشهيرة، إن مشوهة
او مقتبسة بحرفيتها،
عبور اجباري في أفلام أحد أهم منظّري الصورة في العصر الحديث.
يبدو أن لفلسطين
المحتلة مرة أخرى حضورا لافتا في سينما المعلم. اذ نرى صوراً فوتوغرافية
لجندي
فلسطيني ينام وآخر اسرائيلي يدير عملية نقل لأسرى فلسطينيين.
"قبل أن ارى أوروبا
سعيدة... قبل أن ارى كلمة روسيا وكلمة سعادة"، هي المفاتيح الكلامية
الغامضة التي
تصدر من فتاة، ثم يحيلنا المونتاج الغوداري الحاد على أدراج أوديسا (روسيا)
الأشهر
من أن تعرَّف، كونها خلّدتها كاميرا العظيم سيرغي أيزنشتاين في
"البارجة بوتمكين"
(1925)، وقد استعادها في قالب تشويقي ذكي ومبدع،
الاميركي براين دو بالما. ترى ماذا
يقول غودار عن هذه السلالم؟
موسيقى أخرى وأجواء أخرى ثم نقلة نوعية مع تداخل
معزوفتين واختراق للروك لا يدوم الا ثواني قليلة، فعودة تدريجية الى
الصفاء، والى
ما يبدو انه مدرج روماني، ثم الى الباخرة ذات الجمال الملحمي، وعليها فتاة
تركض. ثم
يختلط الروائي والارشيفي، الحرب والسلم، الصورة النقية والرديئة، على وقع
موسيقى
الأرغن الربانية الملهمة. موزاييك من الصور تنهش شاشة الكومبيوتر، ثم يأتي
رجل
ليقول انه أمام خيارين، إما ان يعيش وإما أن يروي، فتبادر فتاة تجلس الى
جنبه الى
القول: "أنا سأروي. 1789". ومعلوم أن هذا التاريخ هو تاريخ
الثورة الفرنسية.
وتتوالى المشاهد ويتصارع المشهد مع المشهد، بأقل قدر من التناغم، مع
اطلالات هذه
المرة لثور هائج في مدينة برشلونة. وسرعان ما يتحول المناخ مع سيارة نراها
تمر أمام
فتاة تنتظر شيئاً ما في محطة للوقود، ليفتح هذا المشهد فصلاً
كاملاً عن الحيوانات!
ثم نرى صبياً يقود ما يشبه الاوركسترا بعصا، ليحيلنا عقل غودار اللاذع على
امرأة
واقفة أمام جدار ينعكس عليه ظل مروحة. أما الصوت فيقول: "عشر دقائق، سأحلّ
هذا".
ويختتم مجموع المقاطع المحيرة بصوت اوبرالي هائل على خلفية بصرية لفتاة
تحمل كاميرا
وتصور مرتجلة تقنية الترافلينغ، وهي تقنية قال عنها رائد "الموجة الجديدة"
إنها
مسألة أخلاقية.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
13/08/2009 |