لم تؤد نهاية الشيخ حسن البنا الغامضة إلى توقف النشاط الإرهابي
للجماعة المنحلة، بل إنها على العكس ساعدت على توسيع دعايتها سراً، في
الوقت الذي كانت فيه الحرب الفلسطينية قد انتهت إلى كارثة، وتم توقيع هدنة
«رودس» ووزعت في شوارع القاهرة ومساجدها منشورات تهاجم الحكومة والسراي.
في 5 مايو من عام 1949، أفلت رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي باشا
الذي خلف النقراشي من محاولة اغتيال، واضطر الملك فاروق إلى العدول موقتاً
عن أداء صلاة الجمعة في الجامع الأزهر، كما هو المعتاد، ولم تعد الحكومة،
التي تسامحت بل طالما شجعت على اضطرابات الشارع، قادرة على حفظ النظام إلا
بصعوبة بالغة، وكان على إبراهيم عبد الهادي باشا، رئيس الوزراء والحزب، أن
يتخذ إجراءات بوليسية عنيفة، فمد العمل بالأحكام العرفية التي سبق أن أعلنت
عند دخول الجيش حرب فلسطين، واستوجب الأمر صدور قوانين جديدة لوضع حد
للإرهاب، إذ اكتشفت مخازن للأسلحة والذخيرة وأحبطت مؤامرات كانت تعد ضد
سلامة الدولة وأدى الكشف عن إحدى هذه المؤامرات إلى إلقاء القبض على رئيس
أركان حرب الجيش السابق عزيز المصري باشا واحتجازه لمدة شهرين من 15 يناير
إلى 7 مارس 1949 وفي الوقت نفسه اتسعت الدعاية الشيوعية، وفي كل يوم كانت
تكتشف خلايا حديدة ويلقى أعضاؤها من شبان وطلاب وصحافيين ومحامين وموظفين
في السجون، بلا رحمة، ويقدمون إلى القضاء، وتزايدت حوادث التفتيش
والاعتقالات حتى أصبح عدد المحتجزين في سجون القاهرة في مدى قصير كبيراً
جداً.
وجاءت المتاعب المالية لتزيد من صعوبة المهمة التي واجهتها الحكومة
فقد كان عليها أولا وقبل كل شيء أن توازن ميزانية مثقلة بأعباء الحرب، فلم
يكن في الإمكان أن يؤدي اللجوء الى الاقتراض أو إلى ودائع احتياطي الدولة
الذي تضاءل نتيجة اقتطاعات متتالية إلى سد عجز بلغ ما يقرب من 42 مليون
جنيه، ولم يكن ثمة مفر من رفع معدل الضرائب القائمة، ما أدى إلى تدهور
الأحوال الاقتصادية بشكل كبير، إذ زاد الفقر بشكل مبالغ فيه، ما انعكس بشكل
واضح على الرواج الفني، فقلت حركة الإنتاج عن العام المنصرم، بل قل إقبال
الفنانين على القيام بتجربة الإنتاج لأنفسهم ولغيرهم، خوفاً من الخسائر
التي تحققها الأفلام، لدرجة أن بعضهم لجأ إلى ممولين من خارج الوسط الفني
ممن يطلق عليهم «أغنياء الحرب» للدخول في تجارب الإنتاج للسينما، وإن كان
ذلك أيضاً تم بحذر شديد وترقب لما ستسفر عنه الأيام المقبلة.
لم يكن يشغل بال تحية كاريوكا أن يكون زوجها من المشاهير أو كبار
النجوم، أو حتى من الباشاوات والبكوات، بل لم يهمها أن يكون فقيراً أو
ثرياً، فما تسعى إليه أن تتزوج من رجل تشعر معه بالأمان وحياة الاستقرار،
بل الأهم أن تتحقق أمنيتها في أن تنجب وتشعر بإحساس الأمومة التي تمارسها
على جميع من حولها، من دون أن يكون لها ابن خرج من بطنها.
مساندة سرية
آمنت تحية بموهبة فطين عبد الوهاب، وشعرت بأن له رؤية وفكراً خاصين
به، فقررت أن تمد يدها له، فإذا كانت تفعل ذلك مع من لا تعرفهم من المواهب
الجديدة، فكيف لا تفعله مع زوجها؟
كان فطين يرفض مساعدة أحد، حتى أقرب الناس إليه، فقد رفض تدخل شقيقه
الأكبر سراج منير ومساعدته في أن يتعجل انتقاله من العمل كمساعد مخرج إلى
مخرج، مثلما رفض أن يكون السبب في انتقاله كمساعد إنتاج عندما بدأ مع يوسف
وهبي، إلى مساعد مخرج مفضلاً أن يأخذ مراحل العمل السينمائي من بدايته
والتعرف إلى تقنياته بنفسه من دون وساطة أو تدخل.
لهذا تحركت تحية كاريوكا من دون أن يشعر وبعلاقاتها الفنية مع الفنان
سليمان نجيب للبحث له عن فرصة:
* سليمان بيه. فيه حاجة كنت عايزه أكلمك فيها واعتبرها خدمة لتحية
اللي أنا عارفة مكانتها عندك.
= قولي يا تحية فيه إيه؟
* هو طلب سخيف. بس أنا مضطرة أطلبه علشان أساعد موهبة محتاجة فرصة.
= إيه عندك حد عايزاه يمثل ولا يغني.
* لا. عندي حد عايزاه يخرج.
= فطين اللي طلب منك دا.
* أنت ذكي جداً يا سليمان بيه. بس أقسم لك أنه ما يعرف… ومش عايزاه
يعرف لأنه حساس جداً.
= دي مسألة عايزه تفكير بس مش صعبة.
* بس صدقني. انا لو مش متأكدة إنه فنان وعنده حاجة عايز يعملها عمري
ما كنت أطلب الطلب دا.
لم يمر وقت طويل على هذا اللقاء حتى وقف فطين عبد الوهاب خلف الكاميرا
كمخرج للمرة الأولى، من خلال فيلم «نادية» الذي أدى بطولته محمود ذو الفقار
وعزيزة أمير وسليمان نجيب والوجه الجديد شكري سرحان.
وعلى رغم الجهد الواضح لفطين عبد الوهاب في الفيلم، إلا أنه لم يحقق
النجاح المطلوب، ما سبب إحباطاً له وقرر العودة إلى عمله كمساعد مخرج،
فتدخلت تحية لإثنائه عن ذلك:
* إيه الكلام اللي بتقوله دا يا فطين؟ يعني إيه أتسرعت؟
= أيوا حاسس أني اتسرعت. أنا مانكرش أني كان نفسي أخرج بس واضح أن
المسألة مش سهلة وفيه ظروف كتير مش مساعدة.
* ظروف إيه وكلام إيه اللي بتقوله دا؟ أنت طلعت خطوات لقدام. ما ينفعش
ترجع تاني، ولا حتى تقف مكانك.
= أيوا بس أنت شفت اللي اتقال على الفيلم؟
* أيوا شفت. وياما مخرجين كبار بيتكعبلوا في مشوارهم وبيقدموا تنازلات
ويضطروا يعملوا أفلام أي حاجة علشان الفلوس ولا مجاملة.
= لما أكون مخرج كبير وأعمل دا عن قصد ممكن تعدي. لكن
* لا طبعاً مش صحيح… المخرج الكبير بتكون كل حاجة محسوبة عليه. لكن
اللي بيبدأ وارد أنه يغلط ويصلح غلطه في الفيلم اللي بعده لحد ما يحقق
هدفه.. مش من أول تجربه يهرب.
= أنا مش بهرب. بس حاسس إن فيه حاجة ناقصة.
* تكملها في الفيلم اللي جاي. خلاص انسى «نادية» وفكر في إيه ممكن
تقدمه بعده.
لم يمر شهران إلا وكان فطين يستعد لإخراج فيلمه الثاني، وبمساعدة تحية
أيضاً، «جوز الأربعة» عام 1950 الذي شارك فيه كل من كمال الشناوي ومديحة
يسري ولولا صدقي، وسميحة توفيق، والسيد بدير الذي كتب قصة الفيلم وحواره.
قدم فطين الفيلم برؤية جديدة ومختلفة تتناسب مع ميوله وما يهدف إليه،
إذ جاء في شكل دراما اجتماعية تعتمد على كوميديا الموقف، بعدما كتب بنفسه
سيناريو الفيلم بالإضافة إلى مشاركته في الإنتاج وقد وضح من خلال هذا
الفيلم أسلوبه الكوميدي الذي لم يظهر في فيلمه الأول «نادية»، فدارت أحداثه
في أجواء ميلودرامية. ومع النجاح الكبير لفيلمه الثاني بدأ فطين عبد الوهاب
مشواره الفني مع السينما ومع الكوميديا الراقية، ليكون «جوز الأربعة»
البداية الحقيقية له.
ما إن نجح الفيلم الثاني حتى بدت عليه علامات النجومية لدرجة أنه فاتح
تحية في أمر الابتعاد عن الرقص، والتفرغ للتمثيل من خلال ما سيقدمه من
أفلام، فجن جنونها:
* أنت بتقول إيه يا فطين؟
= ما هو ما ينفعش!
* هو إيه اللي ما ينفعش؟ يظهر أنك نسيت.
= نسيت إيه؟
* نسيت أنت متجوز مين وإزاي اتجوزتني.
= لا مانستش. لكن كمان ما ينفعش أبقى أنا «جوز الست».
* ومين قالك انك تبقى جوز الست؟ أنا اتفقت معاك من البداية أني ست حرة
في شغلي وأحب أكون مستقلة.
= ناقص تقوللي كل واحد يعيش في بيت لوحده. يبقى اسمه جواز دا.
* أنا ماتكلمتش على العيشة والجواز أنا قصدي حرة ومستقلة في شغلي. زي
ما أنت كمان تبقى حر ومستقل في شغلك. لا تربط نفسك بيا ولا أربط نفسي بيك
في الشغل. لكن كزوجين إحنا مع بعض تحت سقف واحد وعيشة واحدة.
= أنا ما يعجبنيش الكلام دا واللي بقوله لازم تنفذيه.
* أنا مش جارية هنا أنا فنانة… وقبل ما أكون فنانة إنسانة حرة ومش
هاقبل أنك تفرض علي اللي أنت عايزه علشان تثبت أنك راجل البيت.
= خلاص.. يبقى كل واحد يروح لحاله.
* وأنا موافقة… طلقني.
طلاق سينمائي
ألقى فطين عبد الوهاب يمين الطلاق على تحية كاريوكا، التي قامت فوراً
وجمعت ملابسها في حقيبتها لتعود إلى شقتها مع والدتها، بعد ستة أشهر فقط من
زواجها من فطين.
قبل أن تغادر تحية بيت فطين، وبعدما هدأت وبينما تحمل حقيبتها لتغادر
المنزل، استوقفها فطين:
= أنا عارف أنك فنانة بجد وعارف أنك وقفتي جنبي وساعدتيني. خلينا نفكر
مرة تانية… بلاش نتسرع في القرار.
* القرار أنت واخده من فترة وأنا ملاحظة دا عليك. ولازم ننفصل دلوقت
بهدوء، دا أفضل لنا.
= صدقيني أنا بحبك يا تحية.
* خلينا نبقى أصدقاء أحسن يا فطين. مش هاينفع نعيش مع بعض وكل واحد مش
راضي عن عيشته مع التاني.
= طب بقولك إيه. أنا كنت حاجز تذكرتين في سينما مترو النهارده… فيه
فيلم أميركي جديد حلو أوي. إيه رأيك نروح نشوف الفيلم ونتكلم بعده نكون
هدينا شويه وكل واحد يراجع نفسه؟
* أنا ماعنديش مانع نروح نشوف الفيلم. لكن أنا مش هاقدم تنازلات…
واللي عندي قلته.
ذهبت تحية مع فطين، وشاهدا الفيلم الأميركي في سينما مترو، غير أنهما
خرجا من الفيلم ولم يتحدثا في شيء، فكان الصمت رداً بليغاً من كل منهما على
ارتضاء الانفصال، فودع بعضهما بعضاً ومضى كل منهما في طريقه، ولم تعد تحية
إلى بيت فطين عبد الوهاب، وقبل أن ينتهي الأسبوع كان قد أرسل إليها ورقة
طلاقها.
ما إن عادت تحية إلى بيتها حتى فوجئت بثلاثة منتجين يعرضون عليها
ثلاثة أفلام جديدة، وعلى رغم حرص تحية على التدقيق في ما يعرض عليها وما
تقدمه على الشاشة، إلا أنها وافقت على الأفلام الثلاثة التي قدمت لها،
وراحت فوراً تنفذ الجاهز منها، فبدأت بفيلم «عقبال البكاري» الذي كتبه
وأخرجه إبراهيم عمارة، وشاركها بطولته إسماعيل ياسين، الذي بدأ نجمه يلمع
واسمه يصعد، وإن شعر بالقلق لخوضه البطولة المطلقة باعتباره البطل الذي
يشارك تحية في الفيلم، حتى وإن كان معهما محمود المليجي، وعبد الفتاح
القصري وزينات صدقي، فتذكرت تحية ما فعله معها نجيب الريحاني في بداية
تصوير «لعبة الست» فحرصت على أن تشجع إسماعيل ياسين منذ اليوم الأول:
* إيه يا سمعه مالك قلقان ليه ومضطرب.
= والله يا مدام تحية حاسس بجبل محطوط على راسي.
* اطلع من دول يا لئيم… أنت تعمل عشر أفلام في بق واحد.
= (ضاحكاً) أيوا علشان بقي كبير… المشكلة يا مدام تحية إن ممكن أعمل
عشر أفلام زي ما بتقولي في وقت واحد. بس ماكونش أنا المسؤول عن الفيلم. فيه
بطل شايله… وأنا بعمل البطولة بتاعتي في منطقتي. لكن لما الواحد يحس أنه
المسؤول عن الفيلم كله بتبقى مشكلة كبيرة.
* ولا مشكلة ولا حاجة يا سمعة. أنت موهوب… وأيامك لسه جايه. هتبقى نجم
كبير أوي… وبعدين أنا معاك أهه… ما تخفش.
= (ضاحكاً) يسمع من بقك ربنا.
بعد فيلم «عقبال البكاري»، دخلت تحية لتصوير فيلمين جديدين فصل بينهما
أسبوع، فراحت تعمل فيهما معاً كي تشغل نفسها ولا تفكر في ما حدث، فبدأت
بفيلم «منديل الحلو» أمام عبد العزيز محمود وإسماعيل ياسين وثريا حلمي
ومحمود المليجي، تأليف عباس كامل وإخراجه، ومن إنتاج نحاس فيلم، والفيلم
الثاني بعنوان «أوعى المحفظة» كتبه وأخرجه وشارك في بطولته أمامها محمود
إسماعيل، ومعهما شكوكو وحسن فايق ولولا صدقي.
عودة للخير
شعرت تحية بأن الستة أشهر التي تزوجت خلالها فطين عبد الوهاب، وما
تلاها من انشغالها بتصوير ثلاثة أفلام متتالية في توقيت متقارب، أبعدتها
بعض الشيء عن اهتماماتها الخيرية، فهي تشعر بأنها خلقت «إنسانة» لأعمال
الخير أولاً، وبالتالي يمكن أن تعمل فنانة في أوقات فراغها، وليس العكس.
عادت تحية تنخرط في الأعمال الخيرية حتى أصبحت القاسم المشترك الأكبر
في الحفلات كافة التي كانت تقام لأجل الخير… ولم يكن يسبقها إليها أحد من
أهل الفن، أو حتى من غير أهل الفن، فلا تتورع أن ترقص متطوعة لحفلة خيرية
هنا أو هناك، وتشارك في جمع التبرعات وتزيد عليها بالدفع من مالها الخاص..
حتى أطلق عليها المقربون بأنها صاحبة اليد «المخرومة» فلم يكن يستقر معها
أي مال، مهما كان حجمه أو عدده.
شاركت تحية في تأسيس «جمعية تحسين الصحة» التي ترأسها السيدة «ليلى
دوس باشا» و{جمعية مرضى الصدر» وأصبحت إحدى عضواتها… وراحت تواظب على دفع
اشتراكاتها السنوية بانتظام، وتجمع لها التبرعات، وتشارك في حفلاتها
الخيرية بالرقص التطوعي، وتستأجر «ماكينات الخياطة» وتمدها بالأقمشة التي
تشتريها، وتأتي بالخياطات في منزلها ليصنعن منها ملابس تقوم ببيعها في
الحفلة لصالح صندوق الجمعية، ثم انضمت إلى إحدى جمعيات «الرفق بالحيوان»
حيث تم اختيارها كرئيسة شرف للجمعية، بعدما أظهرت اهتماماً واضحاً بالجمعية
وهدفها النبيل، فأكثر ما كانن يجعل تحية تنفطر من البكاء شيئان: أن ترى
طفلاً يبكي، أو ترى حيواناً يتألم لا يستطيع درء الخطر عن نفسه.
الرفق بالحيوان
كأن القدر يسوق لها الأحداث، فما إن خرجت تحية من جمعية «الرفق
بالحيوان» في منطقة العباسية، وهي في طريقها لتستقل سيارتها فوجئت بحمار
هزيل وضعيف ينوء ظهره بما يوجد على العربة التي يجرها ما جعله يعجز عن
اجتياز مطلع، بينما صاحبه العجوز يصب عليه سخطه وشتائمه ويوسعه ضرباً
بعصاه، الأمر الذي استفزها وقد أشفقت على الحمار المسكين الذي لم يرحمه
صاحبه بل ينهال عليه بما تبقى له من قوة، فاندفعت نحو الرجل تخطف منه العصا
وكادت تضربه بها لولا أنها توقفت عندما رأت تقدمه في العمر:
* أنت إيه يا أخي ماعندكش رحمة ولا شفقة. نازل ضرب عليه من غير
إحساس.. تقدر أنت تجر العربية باللي عليها وتطلع بيها المطلع دا؟
= وأنت مالك أنت يا ست. الحمار بتاعي وأنا حر فيه… هو كان اشتكالك؟
* هو علشان حيوان أخرس ما بيصرخش ما ترحموش؟ مش لازم يشتكي يا أخي بس
بيحس زيك!
= أعمل إيه ياست هانم. ما أنا لازم اشتغل علشان أجيب لقمة للعيال… لو
ريحته مش هانلاقي ناكل لا أنا ولا العيال.
* أنت عندك كام عيل؟
= ست عيال وأمهم. أعمل إيه؟ أروح فين… الغلا كلنا وخلص علينا… منهم
لله… منهم لله.
* أيوا… منهم لله.
قال الرجل هذا الكلام، ثم جلس على الرصيف المجاور وراح يبكي، فما كان
من تحية إلا أن مدت يدها إلى حقيبتها وأخرجت منها كل ما كان معها من نقود
قذفت بها في حجر الرجل، ثم جلست بجواره على الرصيف وراحت تهدئه وتطيب
خاطره، وتشرح له قيمة الرحمة حتى مع الحيوان، وفي الوقت نفسه تألمت لما وصل
إليه حال الشعب من فقر حقيقي فاق كل تصور، بينما الملك وأعوانه وحاشيته
ينعمون في القصور ويسهرون في الكباريهات لا يشعرون بما يحدث للشعب.
أمام المصاعب الاقتصادية الداخلية والمشاكل الخارجية المتراكمة، فقدت
وزارة إبراهيم عبد الهادي باشا أهميتها لدى الشعب، كذلك فقد القصر الملكي
بمن فيه مكانتهم، وسرعان ما ظهر الوفد الذي لم يكن أمامه من يخشى منافسته
منذ حلت جماعات اليسار ومنذ إجراءات القمع التى اتخذت ضد جماعة «الإخوان
المسلمين»، ليظهر الوفد باعتباره الحزب الأوحد الذي لا يزال يتمتع بشعبية
تكفي للمعاونة على حل المشكلات المعلقة، فأوقف حملاته ضد الأحزاب المشتركة
في الحكم وعبر في بيانين عن نفوره من الشيوعية وعن إخلاصة للتاج وتمسكه
وارتباطه بالإسلام، وأدى هذا إلى تبديد آخر مخاوف السرايا. فضلاً عن ذلك،
كان الملك فاروق يستشعر أمام هذا الفشل التام لسياسته الشخصية أنه لا ينبغي
عليه أن يتمادى في معارضة عودة الوفد إلى الحكم، وأنه من الحكمة أن يلتقي
مع الوفد على طريق المنافع المتبادلة.
في يوليو 1949 بدا إمكان تحقيق هذه السياسة التي أملتها الظروف فقدم
إبراهيم عبد الهادي باشا استقالته، وقبل الوفد الاشتراك في حكومة وحدة
وطنية تحت رئاسة حسين سري باشا، أحد أعضاء مجلس الشيوخ المستقلين، ولم يكن
ذلك سوى إجراء انتقالي، فعند اقتراب نهاية الدورة التشريعية رفض الوفد أن
يقتسم مع خصوم الأمس من الأحرار الدستوريين والسعديين، الدوائر الانتخابية
لمجلس النواب الجديد، وكان على حسين سري باشا أن يشكل في 4 نوفمبر 1949
وزارة جديدة محايدة.
(البقية في الحلقة المقبلة)
الجريدة الكويتية في
06/08/2012 |