|
تمتلك روسيا رصيدا من المبدعين السينمائيين سواء في هذه المرحلة من
تاريخها، أو ابان «الاتحاد السوفييتي» سابقا، ومن تلك الأسماء الخالدة نورد
روماشكوف وتشاردينيين وكونزتسوف والمبدع فزيغولد بودوفكين وايزنشتاين
وأليكسندر دوفجينكو وسيرجي غراسيموف.. حتى نصل الى محطة المبدع الراحل
اندريه ناركوفسكي.. وايضا نيكيتا ميخائيلكوف وعند هذا الأخير تكون محطتنا
الحالية، والذي يحمل لقب «قيصر السينما الروسية».
والذهاب الى هذا المهرجان يعني الحديث عن كم من المعطيات، فنحن أمام
طاقة فنية (جبارة) ممثل ذو امكانات احترافية عالية، ومخرج يمتلك ادواته
وحرفته، وتاريخ ومسيرة عامرة بالانجازات والتميز، وان كانت هناك نقاط اشراق،
ساهمت في تقديم نيكيتا ميخائيلكوف الى العالمية وبالذات تجربته في فيلمه
«أحرقته الشمس» الذي يمثل خطوة في فضاء النجومية والشهرة والإنجاز.
ورغم شيء من النقد الذي يتعرض له (نيكيتا) من بعض التيارات المعارضة
(داخل وخارج روسيا) إلا أنه يظل ممسكا بزمام المبادرة، قادرا على العطاء
وتقديم الانسان الروسي بصيغ فنية عالية الجودة واستثمار ذكي لسقف الحريات..
وايضا العلاقات التي يتمتع بها في الكرملين وبالذات الرئيس فلاديمير بوتين
والذي زاره اثناء تصوير الجزء الثاني من فيلم «أحرقته الشمس».
ونعود الى البدايات الأولى.. حيث ولد نيكيتا في 20 أكتوبر 1945 في
موسكو ابان الحكم السوفييتي لروسيا. وفي مرحلة الشباب خدم في الجيش
السوفييتي بوحدات مشاة البحرية في الشرق الأقصى الروسي.
وينحدر نيكيتا من أسرة ذات أصول نبيلة ومن حاشية القيصر الروسي أليكس
ميخايلوفيتش.. عاش وسط اسرة ذات ارث ثقافي، فوالده سيرغي ميخالكوف أحد
الشعراء البارزين، ومن الشخصيات الادبية المهمة، واشتهر في كتابته لعدد مهم
من قصائد الاطفال ويكفي ان نعرف انه من كتب النشيد الخاص بالاتحاد
السوفييتي وايضا روسيا الاتحادية.. وهكذا الامر بالنسبة لوالدته الشاعرة
ناتاليا كوتشالوفسكايا.. ولا ينتهي الامر عند والديه بل يصل الى جده.. وعدد
آخر من افراد اسرته الذين يتحدث عنهم بتقدير كبير.
بعد انتهاء المرحلة الثانوية، التحق بكلية شيبكين للفن المسرحي عام
1963، ولكن لهفته الى الشهرة وعمله في السينما اضطر ادارة المعهد المسرحي
الى فصله، حيث كان يحظر على الطلبة في المعاهد المسرحية من الانشغال
بالأعمال الفنية، بعدها مباشرة انتقل الى معهد السينما بموسكو (فغيك) حيث
أنهى دراسته هناك عام 1973.
ورحلته مع الفن، لا تبدأ مع السينما كمخرج بل كممثل حيث كانت المحطة
الأولى عام 1960 مع فيلم «غيوم فوق المدينة» لفاسيلي اورنيسكي، وظهر بدور
صغير لشاب يتحدث الى قس في ذلك الفيلم. وفي العام التالي مباشرة 1961 قدم
فيلم «مغامرات كروش».
إلا أنه يعتبر نقطة الانطلاق الحقيقية والمحطة التي عرفه الجمهور من
خلالها تعود الى فيلم «أتمشى في شوارع موسكو» عام 1963 مع المخرج غيورغي
دانيليا، حيث يردد في ذلك الفيلم الاغنية التي تحمل اسم الفيلم، ما حقق له
وللفيلم كثيرا من الشهرة والنجاح.
وتتواصل مسيرته كممثل وهنا ينتقل الى الوقوف خلف الكاميرا ليقدم فيلم
«صديق بين الغرباء وغريب بين الأصدقاء» عام 1974.
ومن أعمال تلك المرحلة الأولى، نورد الأفلام التي أخرجها ومنها «عبدة
الحب» 1976، وهو أول عمل يتعاون به مع شقيقه أندريه كونشالوفسكي حيث كتب له
الاخير السيناريو، وفيلم «مقطوعة ناقصة للبيانو الميكانيكي» 1976، ثم فيلم
«خمس أمسيات» 1979، و«عدة أيام من حياة أوبلوموف» 1997، وفي هذا الفيلم ذهب
الى موضوع يعتمد على نص روائي بذات الاسم لايفان غونتشارف، يدعو الى العمل
الوطني، من حكاية نبيل روسي أصيل يرفض العمل الوطني الاجتماعي وقد خسر ذلك
النبيل جميع من حوله ونقتطف اشارة اوردتها صحيفة «الفاريتي» الاميركية في
عام 1981، حيث وصفت جمعية النقاد السينمائيين الاميركيين هذا الفيلم بأنه
أفضل فيلم أجنبي لعام 1981.
وفي منتصف الثمانينيات، راح نيكيتا ميخائيلكوف يكشف عن قدرات مقرونة
بالذكاء المتجدد، حيث قدم فيلم «ذات العيون السود» مستعيناً بأهم نجوم
التمثيل في اوروبا يومها الايطالي مارسيلو ماستروياني، وعن هذا الدور فاز
ماستروياني بجائزة أفضل ممثل في مهرجان «كان» السينمائي، وإن شكل ذلك
الفيلم محطة تواصل حقيقية بين نيكيتا ونقاد السينما العالمية.
ليقدم في عام 1991 فيلم «اورغا» ارض المحبة، الذي استطاع من خلاله ان
يحصد جائزة الاسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي ونشير الى
شقيقه أندريه كونشالوفسكي الذي تمكن من الهجرة الى الولايات المتحدة في تلك
الفترة، متحفظاً على بعض ممارسات الكرملين.. ولكن هذا من يعرقل مسيرة
نيكيتا الذي راح يتحدى كثيرا من الاشاعات والتقارير والمعوقات.
ليأتي عام 1994 حيث النقلة الاهم مع فيلم «أحرقته الشمس» والذي يروي
بشفافية عالية قصة شاب روسي لم يتحمل الضغط السياسي والنفسي ابان الثورة
والحرب الاهلية في روسيا، فتجند للخدمة في المخابرات الستالينية من أجل أن
يعيد حبه الذي سلبه منه قائد ثائر، وينتهي الفيلم بمشهد يدرس اليوم في
المعاهد الفنية حيث انتحار البطل الرئيس الذي جسده أمام الكاميرا الممثل
الروسي أولغ فينشيكوف والذي يعتبر اليوم أحد أهم نجوم السينما الروسية
وايضا البطل المفضل عند ميخائيلكوف.
الفيلم عرض في صيف 1994 في مهرجان «كان»، وفي ربيع العام التالي 1995
فاز الفيلم بأوسكار افضل فيلم اجنبي ليفتح صفحة جديدة من علاقة نيكيتا مع
العالمية.
في عام 2004 قدم فيلم «حلاق سيبيريا» حيث حكاية بسيطة تروي اشياء
كبيرة عن طالب روسي في المدرسة الحربية، أحب فتاة اميركية وتكون النتيجة
نفيه الى سيبيريا.
وفي العام التالي قدم فيلم «اثنا عشر» على جائزة خاصة (الاسد) في
مهرجان فينيسيا الدولي عن حكاية صبي شيشاني أدانته المحكمة الجنائية وفي
وقت لاحق أكدت محكمة المحلفين براءته.
مخرج يذهب الى الموضوعات التي تبدو للوهلة الاولى بسيطة وعادية، ولكن
حينما تذهب الى التحليل تكتشف بأنك أمام مخرج يعرف بأن للسينما لغة..
وللسينما رسالة ومقدرة على تفجير القضايا بعد اشارات هي أكثر تأثيرا من
التصريح كما في فيلم «أحرقته الشمس» الذي عاد وأنتج وأخرج منه جزء ثان عام
2010، والذي تناول خلاله الحرب الوطنية العظمى، إلا أن الفيلم لم يحقق
النجاح المنشود، لأنه دخل في شيء من المباشرة التي تبدو دخيلة عن أعماله..
ومن هنا تأتي بعض الملاحظات حول مجاملته لبعض القيادات السياسية ومن بينهم
الرئيس فلاديمير بوتين الذي زار موقع التصوير وهو من أسند إليه مهمة رئاسة
مهرجان موسكو السينمائي الدولي وكم آخر من المهام القيادية في السينما
الروسية.
بخط متواز، قام نيكيتا ببطولة عدد غير قليل من الأعمال السينمائية
الروسية التجارية، قدم خلالها شخصية الرجل المافياوي في العديد من تلك
الأعمال السينمائية التي حققت نجاحا تجاريا كبيرا.
ونعود الى القول ان نجاحات ميخائيلكوف وتميزه الفني واقتداره الرفيع،
واختياراته السينمائية العالية الجودة، لم يقلل منها علاقته الوطيدة مع
قيادات الكرملين، وبالذات الرئيس بوتين، حيث قام في عام 2007 بتحقيق عمل
تلفزيوني بمناسبة الذكرى 55 لميلاد بورتين والذي دعا به بوتين الى أن يعود
مجددا الى الرئاسة وألا يبتعد عن السياسة، وهذا ما يعتبره بعض المعارضين
(تملق) للسلطة.. ونحن هنا نتحدث عن سينمائي وانجازاته، وليس انتماءاته
السياسية.. حيث يمكن اختصار نيكيتا ميخائيلكوف بأنه «قيصر السينما الروسية»
بلا منازع.
النهار الكويتية في
27/07/2012 |
