نعم عنده عقدة من الشعر وليس من الشعراء، لأنه يعرف أن بعض الشعراء العظام
صنعوا بأبياتهم وجدان الأمم والشعوب، وهو يدرك هذا كمثقف ويعرف جيداً لكن
عقدته من الشيخ زكريا مدرس اللغة العربية في المرحلة الابتدائية تجسدت
شكلاً وموضوعاً من الرجل وأسلوبه وغلظته وحتى رائحة عرقه وملابسه.
كان زكريا يمد يده في فم التلميذ الذي لا يحفظ الشعر، ويجذبه من لسانه حتى
يحفظ، وأصبح يحتفظ له في ذاكرته الخضراء بصورة مقفرة بعكس أساتذة آخرين أحب
من خلالهم المادة وأحبهم كشخصيات، ووقع المحظور وجاء التلميذ عادل محمد
إمام وهو لم يحفظ الواجب ويبدو أن أجهزته الرافضة للمدرس رفضت الدرس بشكل
تلقائي، وتلقى الأمر بأن يفتح فمه ويخرج لسانه، إنها لحظة الرعب التي كان
الصغير يحاول الإفلات منها يتمنى لو أن زلزالاً أتى على المدرسة وما فيها،
لو أن حريقاً شب في جلباب الشيخ زكريا ولم يستطع الإفلات منه، لكنه جرس
الحصة، أو قل جرس الرحمة، وبدلاً من أن يخرج لسانه للشيخ، خرج هو مسرعاً مع
باقي تلامذة الفصل، وفي فناء المدرسة أخرج لسانه احتجاجاً على الشعر
وأستاذه والغريب أنه يحفظ البيت الذي يقول:
- أي هذا الشاكي وما بك داء
مع أن طبيعته لا تميل إلى الشكوى، ربما لأنه شخصية تعتبر الشكوى ضعفاً،
وقلة حيلة، وربما لأنه على مسرح الحياة وعلى مسرح الفن تعلم الصبر، واحتواء
الأمور، هناك ممثل قد يصاب بالملل من تكرار العرض كل ليلة، نفس الحوار، نفس
الحركة، وصالة مظلمة صحيح أن ناسها يتغيرون وأنفاسهم تتغير وطريقة
استقبالهم للعرض وأبطاله تتغير، عندك مثلاً هناك جمهور مشهور بأنه «سبتاوي»
نسبة إلى يوم السبت، وهو يوم صعب لفناني المسرح لأن هذا الجمهور يأتي وكأن
الدنيا قد ضاقت به وأغلقت أبوابها ولم يجد أمامه إلا باب المسرح مفتوحاً
فدخل مضطراً ومجبراً، بعكس جمهور ليلة الجمعة، أنه قد يضحك وهو يركن سيارته
على باب المسرح. واسأله: ما الذي يغريك أن تقدم عملاً مسرحياً بشكل متواصل
لعشر سنوات؟!، فيقول بثقة:
أولاً أنا كل ليلة أقف فيها على المسرح هي أول ليلة مهما كان عمر المسرحية،
لأني أزرع بسمة جديدة على وجوه جديدة بعض الناس حضر عشرات المرات تستطيع أن
تسأله هل أصابه الملل أم لا؟، أنني أحاول التمثيل وكأنها ليلة الافتتاح،
الجميل في أى عرض مسرحي تقوده لسنوات أنك تبتكر فيه وتجدد وتضيف وتخصم،
بدون الخروج عن روح الرواية وإلا ستكتشف بعد سنتين أنك تقدم مسرحية مختلفة
غير تلك التي بدأت تقديمها عند الافتتاح رغم احتفاظك بنفس الاسم عليها، ثم
إنني احترم إقبال الناس على مسرحي ولو كان الأمر بيدي لقدمت عملي لآخر
متفرج يتلهف لرؤية هذه المسرحية.
مشهد نادر
في ليلة من ليالي عرض «بودي جارد» اصطحبت أسرتي معي وأمامنا في الصف الأول
جلست سيدة المسرح سميحة أيوب وبجوارها ابنها والفنانة القديرة سميرة
عبدالعزيز، ولأني شاهدت المسرحية أكثر من 10 مرات رأيت أمامي فرصة العمر أن
أشاهد سميحة أيوب وهي تتفرج على عادل، طوال الوقت رأيتها تهتز في مقعدها من
فرط الضحك وكانت تصفق كطفلة، كان يعرف أنها بين ضيوف الليلة.
وبعد أن انتهى العرض وأضيئت الأنوار، وحيا الجمهور كله، تقدم خطوة نحو
سميحة أيوب وألقي إليها بتحية خاصة، وردت بأحسن منها، ولاحظ بعض المتفرجين
هذا الحوار الصامت البليغ بين الطرفين، وأشارت بيدها إلى خشبة المسرح بما
معناه أن الإخراج جيد، وتلألأت دمعة في عين عادل لأن التحية ذهبت إلى رامي
مخرج العرض، لقد هرول إلى الكواليس وأحضره، لكي يتلقي هذه التحية أو بمعنى
آخر هذه الشهادة، في هذه اللحظة النادرة، تذكرت أن شريط حياتي الخاصة مرتبط
بشكل وثيق بأغاني عبدالحليم حافظ، ومسرحيات وأفلام عادل إمام، بعد إعلان
الخطوبة ذهبت مع زوجتي إلى مسرحية «شاهد ما شافش حاجة» وكانت في بداية
عرضها وجلسنا في البلكون، وعندما عرضت «الزعيم» كانت مع أسرتي وأولادي في
البنوار الأمامي تحت المسرح وبدعوة من عادل نفسه، يكبر الأولاد، مع تغير
مسرحيات عادل، حتى إذا بلغنا «بودي جارد» كان بعضهم تخرج من الجامعة
واقتربت الصغيرة أيضاً من التخرج، وارتبطوا جميعاً بصداقة طيبة مع عادل،
ولهذا عندما سألوه في برنامج تلفزيوني: ما رأيك في كذا وكذا وما مر به
الوطن من أحداث، أجاب ضاحكاً بكل ثقة: أرجعوا إلى أعمالي ومنها يمكنكم
قراءة تاريخ البلد، صفحة صفحة، وكلمة كلمة.
صورة
ويكتب الروائي الكبير خيري شلبي صورة بقلمه المبدع تحمل عنوان «حرفوش قاع
المدينة» يقول فيها عن عادل:
على الخطوط الخفية الفاصلة بين البؤس والسعادة تقف ملامح وجهه يختلط عليك
الأمر حين تراه لأول مرة دون علم مسبق بأنك أمام ممثل مشهور، إنه يتيم لطيم
لم يعرف دفء الحب أو السعادة في حياته، إن عوج رأسه الدقيقة وضغط رقبته
القصيرة بين كتفيه النحيلتين خيل إليك أنه مضروب لتوه أنه آكل علقة ساخنة
من زوجة الأب القاسية والتى إهانته حتى النخاع فإن عدل رأسه ونظر فيك خرجت
من عينيه نظرة استعطاف شقية فيها من الغلب قدر ما فيها من تدلل تتغير نظرتك
في الحال، وتتوقع أنه وحيد لأبوين فقيرين هو قرة عينهما ومصدر عذابهما، في
القاع البعيد جداً من عينيه بطانة من الحنان الإنساني لها ملمس الحرير
الطبيعي الثمين غير أنك لا تلمسها إلا إذا دققت النظر في عينيه ودققت في
فهم شخصه، إن جالسته برهة وجيزة جاءك إحساس عظيم بالمودة نحوه أما إن أطلت
الجلوس قليلاً فلابد أن يدهمك شعور بالرغبة في المكوث معه طويلاً والرغبة
في المغامرة بوقتك مهما كان وراءك من مشاغل.
فهو سخي الوجه والعاطفة أبيض القلب واسع الصدر نشيط الخيال ذكي الطبع منفلت
العيار إذا ما توجه لا يحضره الوهج إلا في لحظات معينة هي على التحديد تلك
اللحظة التي يحس فيها أنه التقي مع جمهوره الحبيب.
ويصفه لنا الناقد الكبير رجاء النقاش بما هو أبعد من ذلك، حيث قال:
عادل بموهبته الفذة وثقافته الأساسية وإدراكه العميق لرسالته بين أهله
وشعبه هو تجسيد لظاهرة حدثت من قبله في عبدالله النديم وحافظ إبراهيم وبيرم
التونسي ونجيب الريحاني وإسماعيل ياسين وعبدالمنعم مدبولي وفؤاد المهندس
ومحمد عوض وصلاح جاهين وغيرهم من الفلاسفة الضاحكين.
علبة تونة
لاحظت كثيراً أن عادل إمام يحضر من غرفته بعض علب سمك التونة ورغم البوفيه
المفتوح يتلذذ بالعلبة، ربما لأنها تعيده إلى أيام الشقاوة والعزوبية، إنه
يحبها مع البصل الأخضر، وعندما تنظر إلى عادل وهو يأكل لابد أن تجوع مهما
كانت درجة شبعك، والأهم أنك ترى فوق رأسه وهو يأكل، لافتة افتراضية تخيلية
مكتوب عليها بالخط العريض: هذا من فضل ربي. ويمكنك أن تقرأ اللافتة بعين
أخرى لتقول: «يا ناس يا شر كفاية قر» وفي قول ثالث: «الحياة نعمة واللي
يكرهها يعمى»!
مسرح الشعب
ميزة عادل أنه لا يحب الكلكعة أو التعالي على الناس، وإذا لم ينجح في تلخيص
وتبسيط أهم القضايا سواء على الشاشة أو خشبة المسرح تركها، فهل كان عادل
يحقق دون أن يدري، مقولة الناقد الكبير د. علي الراعي في كتابه المهم «مسرح
الشعب» الذي أحدث ضجة هائلة فقد كان يدافع عن المسرح المرتجل البسيط الذي
يحترم البسطاء، وقال في ختام الفصل الخاص عن الريحاني، ما اسماه بالكوميديا
الجديدة، وهى التي يؤرخ لها بظهور الكاتب «نعمات عاشور» في أوائل
الخمسينيات، ويقول الراعي: إن الأزمة التي تجد كوميديا المثقفين فيها نفسها
راجعة في أساسها إلى ضعف صلتها بكوميديا الشعب ولا أمل أمام كوميديا
المثقفين في مزيد من الحياة والانتشار إلا إذا تعلمت من الكوميديا الشعبية
كيف تضحك المتفرج حتى تتحرك أجهزته المادية جميعاً إلى جوار ما أنجزنه
كوميديا المثقفين من تحريك وتنشيط لأجهزة الفكر عند عملائها محدودي العدد.
بالفطرة، بالثقافة، بالموهبة، بالذكاء، استطاع عادل في مسرحه أن يحقق
المعادلة أن يقترب من عقل وقلب المتفرج وربما لهذا السبب أجاد التعامل مع
الحرفيين والصنايعين وطلاب المدارس، وأيضاً مع القادة والزعماء والملوك،
يجيد مخاطبة كل فرد بلسانه ولغته، ويجيد فك الشفرة للملايين، وهو ما يسميه
خيري شلبي لحظة التوهج هنا لا يصبح مجرد ممثل كغيره، إنها حالة تتشكل
وتتوحد حسب المناخ المحيط بها.
فيلم للعلم
مرجان أحمد مرجان
إخراج: علي إدريس.
قصة وسيناريو وحوار: يوسف معاطي.
تاريخ العرض: 2007.
الأبطال: ميرفت أمين، يوسف داود، أحمد السعدني، بسمة، شريف سلامة.
القصة
تدور أحداث الفيلم حول رجل أعمال شهير (مرجان أحمد مرجان) يكتشف فجأة أن
أمواله الطائلة وثروته لا توفر له علاقة أبوية جيدة مع ابنه وابنته وهما
يتعلمان في أرقي الجامعات، ويسعى بأمواله أن يشتري أكبر الشهادات لكنه يفشل
في الحصول على التعليم نفسه، حتى يدرك أن هناك في الحياة ما لا يمكن أن
يباع أو يشتري بكنوز العالم كله.
حكاية مشهد
ابن الثمانين يخشى على نفسه من الانحراف!
المرحوم أحمد سامي عبدالله ممثل قدير ظهر في عشرات الأفلام من أبرزها
«الكيف» كان «عم مجاهد» عندما حمله محمود عبدالعزيز من عربة الفول بعد أن
اكتشف وفاته.. وقد تم اختياره ليلعب دور عبدالهادي في مشهد قصير لكنه أعطي
له قيمة كبيرة بحضوره.. ومثل هذا النوع من الفنانين رغم قدراته تأتيه
الأدوار بالصدفة وفي أنماط بعينها فهو العجوز المتصابي أو الأب الذي يعاني
أمراض الدنيا وهو من مواليد القاهرة أغسطس 1920.. وقد توفي في ديسمبر 2011
ورصيده أكثر من 83 عملاً وقد التقي بعادل إمام في عدة أعمال منها «بخيت
وعديلة 2» و«الجردل والكنكة».. وهنا يذهب إلى محمود العقاد «عمر الشريف»
يطلب منه بعض المنشطات لكن الحاج محمود يفاجئه بكيس بن لزوم «خرجته» أي
ليلة وفاته.
ولعل أجمل ما في المشهد رد فعل المرحوم أحمد عندما قال للعطتار: مش أحسن من
المشي البطال وقد ضحك عمر الشريف وأوقف التصوير لأن طريقة أحمد في الأداء
الجادة جداً أخرجت عمر الشريف المخضرم من المشهد وعنده حق.
في خروج الشيخ محمود من الجامع نرى محل العطارة الخاص به أمام الجامع.
محل الشيخ محمود سيف الدين للعطارة والأعشاب الطبيعية.
عبدالهادي مبتسماً في خجل يخرج ورقة من جيبه.
عبدالهادي: عاوز الحاجة دي يا شيخ محمود!
محمود يقرأ الورقة.
صوت القرآن منبعثاً من داخل المحل.
الشيخ محمود جالساً بالجلباب الأبيض والطاقية والعباءة.
يتكلم مع رجل مُسن.. عبدالهادي يأخذ منه بضاعة من المحل.. يٌفهم منها أنها
وصفة لزيادة القوة الجنسية.. لافتة وراءه (لا يصلح العطار ما أفسده الدهر).
محمود: اختشي يا عبدالهادي.. اتهد.. جوزة الطيب وحجر النار.. دي خامس جوازة
يا عبدالهادي.
عبدالهادي: مش أحسن ما أمشي في الطريق البطال يا شيخ محمود!
محمود: أنت قادر تقف على حيلك يا عبدالهادي، والعروسة بأه عندها كام سنة؟
عبدالهادي: 25 سنة.
محمود: الله يرحمك ويحسن إليك يا عبدالهادي.. وآدي من عندي وقيتين بُن.
عبدالهادي: بُن.. ليه؟!
محمود: عشان العز بتاعك؟!.. الخرجة بعد الدخلة علطول.
يشير للافتة (لا يصلح العطار ما أفسده الدهر).
إنت ما بتقراش؟!
عبدالهادي: يا شيخ محمود ما تفولش عليّا.ز ده بدال ما تدعيلي دعوة حلوة من
دعاويك المستجابة!
محمود: أقولك إيه؟. ربنا ينفخ في صورتك يا عم عبدالهادي.
عبدالهادي: أهو كفاية دعوتك دي يا راجل يا صالح يا طيب!
يدخل رجل قبيح الوجه.. يشبه العفاريت شعره طويل ومنكوش صارخاً.
مرعوباً
الرجل: سلامو عليكم.
محمود: وعليكم السلام.
الرجل: أنا جايلك من آخر الدنيا مخصوص.. ناس قالولي عليك يا راجل يا طيب..
مش الشيخ محمود سيف الدين برضه.
محمود: أيوه!
الرجل: بأه أنا مراتي عليها عفريت، وقالوا لي إنك بعون الله تقدر تصرفه.
محمود ينظر له مغتاظاً.
محمود: طيب انصرف.. انصرف أنت من قدامي عفاريت إيه بس!.. ما عفريت إلا بني
آدم يا راجل!
أهه.ز أهم جم اللي مش ح نعرف نصرفهم.
تقف سيارة بوكس.
ينزل الضابط محسن وهو في نهاية الثلاثينيات برتبة مقدم.
الضابط: عاوزينك في كلمة يا شيخ محمود.
محمود: خير يا محسن بيه!
الضابط: أخوك أسامة فين؟!
محمود: والله ما أعرف يا محسن بيه.
الضابط: أحنا عارفين أنك راجل طيب ومحترم.. مالكش دعوة بحاجة.. إنما أحنا
بنبلغك أهوه.. أخوك لو اتصل بيك تقوله يرجع عن الطريق اللي ماشي فيه..
انصحه يا شيخ محمود.. وقوله إن دي آخر فرصة ح نديهاله.
محمود: حاضر.. حاضر يا باشا.. اتفضلوا اشربوا حاجة.
يركبون البوكس.. ومحمود ينظر في أثرهم.
النهار الكويتية في
09/08/2012 |