ناتالي بورتمان قدمت أولى تجاربها الإخراجية للسينما
«قصة
الحب والظلام».. المدينة المقدسة.. الشاهد!
عبدالستار ناجي
يمثل فيلم «قصة الحب والظلام» واحدا من أبرز الاعمال السينمائية
الاسرائيلية التي استحضرت مدينة القدس لتكون الشاهد الأساسي على أحداث هذا
العمل الروائي الذي كتبه الروائي الاسرائيلي عموس عوز ونقلته الى السينما
النجمة الإسرائيلية الاميركية نتالي بورتمان في اولى تجاربها الاخراجية
للسينما.
شاهدت هذا الفيلم خلال عروض مهرجان «كان» السينمائي الدولي 2015 ويومها حظي
الفيلم بأكبر حملة اعلامية من أجل الترويج لهذا العمل السينمائي، العامر
بالشخوص والأحداث والتي تظل القدس حاضرة وبقوة كشاهد على تلك الأحداث
والمتغيرات التي شهدتها القدس والمنطقة بالذات نهاية الانتداب البريطاني
على فلسطين والسنوات الاولي لدولة اسرائيل .
فيلم «حكاية الحب والظلام» الذي أخرجته وكتبت له السيناريو الممثلة
الأميركية - الإسرائيلية الأصل ناتالي بورتمان في أول تجربة إخراجية لها،
مأخوذ عن رواية الكاتب الإسرائيلي الشهير عاموس عوز التي صدرت عام 2000، ثم
ترجمها جميل غنايم وصدرت في طبعة عربية تقع في 765 صفحة، عام 2001 عن دار
منشورات الجمل، وترجمت لاحقا لعدة لغات.
من اللحظة الأولى يأخذنا عاموس عوز الى الكثير من ذكريات طفولته في مدينة
القدس، مع والديه، وأفراد عائلته، المهاجرين البولنديين، ويروي عن العيش في
المدينة، وعن بدايات وعيه بالكيان الصهيوني، وعلاقته باللغة العبرية التي
لم يكن يتحدث بها والداه، لكن والده أصرّ على تعليمه إياها، كما يصف
بالتفصيل التأثير الكبير الذي تركته أمه عليه في طفولته، وكانت سببا في
احترافه الكتابة فيما بعد.
وعبر الفيلم ومن قبله الرواية يتناول عاموس عوز نشأة إسرائيل، وبدايات
الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من وجهة نظر طفل صغير، سرعان ما أدرك استحالة
الحفاظ على نقاء «الحلم الصهيوني» دون أن يتخلى عن الصهيونية كأساس لبقاء
الدولة، أي دون أن ينبذ فكرة «الدولة اليهودية» وسياسات الإقصاء، وهو مأزق
لا يخص عوز بل يشمل الكثيرين ممن ينتمون إلى «اليسار الصهيوني» الذين
يتأرجحون عادة بين تأييد الممارسات الإسرائيلية التي تتذرع بالحفاظ على
«أمن إسرائيل»، وبين الدعوة إلى نوع من «السلام» القائم على الاعتراف بدولة
فلسطينية منزوعة السيادة
.
هذه الحالة العاصفة يعيشها الطفل عاموس وهو يعيش تلك المتغيرات التي تعصف
به ومن قبل تعصف بوالدته التي تجد نفسها في عاصفة من المتغيرات بين الحلم
والحقيقة عبر رواية تزدحم بالأحداث والتفاصيل والذكريات التي تذهب في
اتجاهات متعددة وان ظل الطفل ووالدته هما المحور وأستطيع التأكيد بعد قراءه
الرواية ان نتالي بورتمان حينما قامت بكتابة السيناريو فانها حرصت على
تعميق محورين اساسيين هما الام والطفل .. الذي يظل محور الرواية واستدعاء
الذكريات .
لقد اختارت بورتمان بعض المواقف من داخل رواية عوز، بتركيز خاص على شخصية
أمه فانيا، وجعلت من شخصية عوز نفسه مدخلا إلى الفيلم، كراوية يسرد الأحداث
من الذاكرة بعد أن أصبح اليوم رجلا طاعنا في السن (عوز من مواليد 1939).
كتابة عاموس عوز الذكية والثرية والعميقة لشخصية «فانيا» جعل نتالي بورتمان
تنجذب لتلك الشخصية لما تتسم به من سحر وغموض، فقد كانت امرأة جميلة،
مثقفة، تميل إلى التأمل والتحرر من القيود الدينية وتمقت السياسة، خاصة وقد
رحلت عن العالم مبكرا، ولم تكن قد تجاوزت الثامنة والثلاثين.
السرد الروائي في الفيلم يأخذ خطاً متعرجاً، يبدأ من الحاضر ليرتد إلى
الماضي، ويظل يتأرجح بين الماضي والحاضر، في تداعيات تخرج أحيانا إلى لقطات
تجريدية للصحراء والسماء والطبيعة والطيور، لتكثيف الهواجس الكثيرة
المتزاحمة في رأس فانيا على خلفية من الأوصاف الأدبية التي يلقيها أموس عوز
بصوته.
تنطلق احداث فيلم «قصة الحب والظلام» عام 1945، حيث يصور الأجواء التي سادت
بعد الحرب، في زمن الانتداب البريطاني في فلسطين، ويتطرق للرواية الشائعة
عن منع البريطانيين وصول مزيد من المهاجرين اليهود إلى فلسطين، ويروي كيف
أتت فانيا من روفنو في بولندا التي يتردد أن الألمان النازيين قتلوا نحو 25
ألفا من سكانها اليهود عام 1942، ويسرد الفيلم - والرواية أيضا- كيف أن خال
عاموس تقاعس عن الهجرة إلى فلسطين، وكان مصيره الموت. أما والد عاموس يهودا
أريا وهو من يهود بولندا أيضا، فكان شغوفا بالأدب، يريد أن يصبح كاتبا،
لكنه فشل وأصبح موظفا في مكتبة الجامعة العبرية، لكن من البداية يبدو زواج
فانيا من أريا، زواجا عن غير حب.
وسط تلك المخاضات نرصد كيف تحوّلت فانيا من شخصية متحمسة لبدء حياة جديدة
في فلسطين، إلى الانغلاق على نفسها، إذ أصبحت تعاني من الوحدة والاكتئاب،
وتسيطر عليها تخيّلاتها، وكيف كانت تركز كل همها في تنشئة ابنها، بعد أن
أصبحت لا تطيق التعامل مع زوجها الذي تترك له حرية رغباته، والتي يكون
ابنها شاهدا على أحدها.
وبين الروائية والوثائقية يرصد الفيلم بدايات الصراع السياسي، أولا في عهد
الانتداب، ثم بعد قيام إسرائيل مع صدور قرار الأمم المتحدة بأغلبية
الأصوات، ثم نشوب الحرب بين العرب واليهود، وما تلاها من تداعيات.
بل ان بورتمان تستدعي الكثير من اللقطات التسجيلية من الأرشيف السينمائي،
للحياة في القدس، وللمناوشات بين العرب واليهود، ولجلسة التصويت الشهيرة في
الجمعية العامة للأمم المتحدة، وللاحتفالات اليهودية بتأسيس إسرائيل، ثم
بالنصر في حرب 1948.
ورغم تلك المجاملة الشبه مجانية التي تقدمها نتالي بورتمان وهي تقدم تلك
المشهديات الوثائقية إلا انها في الحين ذاته حينما تعود الى الفيلم
والرواية فانها لا تكشف سبب عدم شعور فانيا بالسعادة، ولا يقدم عاموس عوز
كراوية للأحداث، تفسيرا لمعاناتها الممتدة التي يعجز زوجها عن فهمها والتي
تنتهي بانتحارها، كما لا يبدو عوز شخصية محورية في الفيلم، بل يتركز اهتمام
الفيلم على شخصية فانيا، لإتاحة الفرصة أمام ناتالي بورتمان للقيام بدورها
كبطلة منفردة في الفيلم، بينما يتراجع وجود عوز إلى الهامش.
هناك بعض الإشارات إلى أن فانيا لم تكن سعيدة بوجودها في إسرائيل حيث أصبحت
على غير ما كانت تأمل، هنا تربط ناتالي بورتمان بين موقفها الشخصي والموقف
السياسي المعروف لعاموس عوز، حتى تبدو متوازنة في طرحها من الناحية
السياسية. ومن خلال تلك الالتباسات السياسية وانعكاساتها على مواقف عوز و
نتالي يأتي ذلك الخلل في معطيات الفيلم ودلالاته حيث تصر نتالي على اعلان
موقفها وهو امتداد لموقف «فانيا» التي لم تجد نفسها في اسرائيل السياسية
وممارساتها من أجل الحفاظ على أمنها
.
بل ان الفيلم يذهب الى منطقة من المواجهة والتعاطف مع الفلسطينيين وهذا من
يأتي على لسان الطفل عوز وهو ولم يزل بعدُ طفلا صغيرا في مشهد مبكر ورئيس
من الفيلم، ما يكشف عن وعي سياسي مبكر للغاية بالنسبة إلى طفل في الثامنة،
عندما يقول لعائشة، ابنة الأسرة الفلسطينية الثرية التي يزورها مع أفراد
أسرته، إنه يرى أن في البلاد متسعا لكل من العرب واليهود.
كما يشي المشهد بنوع من التعاطف من جانب الطفل عوز مع الفلسطينيين، وفي
الوقت نفسه، الإحساس بالغربة عنهم والخوف مما يمكن أن يحدث مستقبلا. هذه
الزيارة يصفها عوز في اكثر من ثلاثين صفحة من روايته، لكننا نراها هنا
بتركيز خاص على طبيعة العلاقة الودية التي كانت قائمة بين العرب واليهود،
بل وكيف يتسبب الطفل عوز في إصابة طفل من أطفال الأسرة الفلسطينية إصابة
دامية، وكيف كانت عائشة تحدثه بالعبرية بينما كان يخاطبها بعبارات عربية .
ولان الفيلم مصنوع من وجهة النظر اليهودية التي تسهب في استطرادات كثيرة
حول «الهولوكوست» وما وقع لليهود على أيدي النازيين، تبريرا لاستيلائهم على
فلسطين، ويصور كيف أصبحت إسرائيل «بلدنا حيث لا يمكن لأحد أن يدوس على
كرامتنا بعد اليوم»، كما يتردد حرفيا في الفيلم والرواية . وهو ما يبدو
شعار محوري لأبناء اسرائيل في تلك المرحلة المبكرة من تأسيس دولة اسرائيل .
شخصيا.. وبعد نهاية الفيلم راحت مجموعة من الاسئلة تحاصرني دون ان اجد لها
حل او أفهم معطيات بالذات فيما يخص شخصية فانيا، حيث لا افهم لماذا كانت
فانيا حزينة يائسة هكذا، وهل كان ذلك بسبب ما بقاء اهلها في «الشتات»، أم
لأنها فشلت في التأقلم مع الحياة داخل إسرائيل كما يراد لنا أن نفهم، دون
أن «تتورط» بورتمان في أيّ نوع من الإدانة المباشرة لإسرائيل بالطبع. وهو
ما جعل الفيلم يتحرك في دائرة من الالتباسات كان سببها المباشر عدم رغبة
نتالي بورتمان للذهاب الى منطقة مباشرة للبوح والنقد لواقع الحياة اليومية
في اسرائيل وانعكاساتها على «فانيا» سابقا وعليها شخصيا لاحقا مما جعلها
تذهب للعيش في الولايات المتحدة لاحقا. بعيدا عن الاطال، فيلم «قصة الحب
والظلام» رغم انه لم يكن بريئا .. الا انه ظل في مناطق عدة امينا على
التعامل مع مدينة القدس ليس كمجرد خلفية للاحداث بل كشاهد على تلك المرحلة
بكل تفاصيلها ومقدرتها على ان تكون مدينة لجميع الاطياف والجنسيات والاديان
.. لنا نحن بامس الحاجة لان نتوقف مطولا عند هذا الفيلم.. ومن قبلة الرواية
لعاموس عوز
. |