محمود المليجي... شرير الشاشة (8-10)
يوسف شاهين يخشى عيني المليجي!
أحمد الجمَّال
تمرّد الفنان محمود المليجي على أدوار الشر، وتناغم أداؤه الساحر مع الطموح
في الارتقاء بصناعة السينما. في الحلقة السابقة، اقتحم البرلمان، ونقابة
الممثلين، وصدم جمهوره بمقالاته الصحافية، وأغضب أمينة رزق في أفلام يوسف
وهبي، وركض خلف هند رستم، وصفع إلهام شاهين، وبكى من رشدي أباظة، وتغيرت
ملامحه ونبرات صوته في دوره الفارق في فيلم «الأرض» 1970 وتحوّل إلى «سارق
كاميرا» يخشاه كبار النجوم. في هذه الحلقة إضاءة على محطات أخرى في مسيرته.
قدَّم المليجي 11 فيلماً مع يوسف شاهين، تعد من أهم أعمالهما على الشاشة،
وأصبح «الشرير» بطلاً أثيراً لمخرج غريب الأطوار، ويتميز بجرأة في طرح
أفكاره السينمائية، ويسبح ضد التيار السائد. كذلك وقع كثير من الممثلين تحت
سطوة تأثيره، وباتوا يمثلون بطريقته، باستثناء عدد قليل، دخلوا أفلامه
بمواهبهم الخارقة، ورفضوا أن يكونوا ظلاً له، ومن بينهم «عملاق الشر» الذي
شهد له شاهين بالأستاذية، وكان يخشى النظر إلى عينيه!
أسس هذا التناغم لغة مشتركة بين المليجي وبين شاهين، غابت فيها تعليمات
المخرج حول الأداء، وهذه تجربة فريدة في مسيرة مخرج اعتاد الانفعال والغضب،
وإعادة المشهد لأكثر من مرة. لكن الأمر اختلف مع المليجي، وبات شاهين
يعدِّل في حركة الكاميرا، كي لا يفوت المشاهد ملمحاً ولو بسيطاً من عبقرية
ممثل فارق الموهبة، وطالما افتقد حضوره في أفلامه، بعد رحيله عام 1983.
ذات يوم أراد شاهين، أن يثبت لعملاق التمثيل أنه مخرج يقظ، ولا تفوته أية
تفاصيل حتى لو كانت صغيرة، وذلك عند تصويره أحد المشاهد المهمة في فيلم
«الأرض». ارتدى المليجي ثوب الفلاح «محمد أبو سويلم» كأنه يمثل على خشبة
المسرح، وتحلق حوله أهل القرية، وهو يذكرهم بمواقفهم الوطنية ضد الاحتلال
البريطاني، ويحفزهم لحماية أرضهم من البوار، ويردد عبارته الشهيرة «كنا
رجالة ووقفنا وقفة رجالة».
وخطف «سارق الكاميرا» أنظار العاملين في الاستوديو، بعينيه المعبرتين
وأدائه المبهر. وفور انتهائه، دوت عاصفة من التصفيق، بينما ظل شاهين
صامتاً، ثم قال: «حلو لكن هانعيد تاني»، فقال المليجي بعتاب: «وماله نعيد
تاني... أصلها مابانتش (لم تظهر) والناس صقفت (صفقت)»، فقال شاهين: «أصلهم
مافهموش»، وكان «محمد أبوسويلم» قد نسى جملة من الحوار، وباحترافيته لم
يلحظها أحد سوى المخرج.
وبات «الأرض» أيقونة سينمائية فريدة، وصنف في المركز الثاني ضمن قائمة أفضل
100 فيلم مصري، ونال المليجي جائزة التمثيل الأولى بعد عرضه في مهرجان
«طشقند السينمائي الدولي».
آنذاك، انتبه النقاد الأجانب لأداء هذا الممثل، وبدوره وثق الناقد الفرنسي
جورج سادول لأهم المشاهد في السينما العربية، ومن بينها مشهد النهاية في
الفيلم، الذي جسده المليجي من دون الاستعانة بـ{دوبلير»، فتشبثت يداه
بالتراب، ونزفت دماؤه لتروي الأرض العطشى، ببصمة أداء متفرد لممثل عملاق.
الناس والنيل
عاد المليجي إلى الظهور في «الناس والنيل» 1972، وبدأ دوره كأنه استراحة
المحارب بعد فيلم «الأرض» وأيضاً للسيناريست حسن فؤاد. وجد الأخير قصة
مختلفة من تأليف الكاتب الروسي فيغورو فسكي، ودامت جلسات النقاش أسابيع
طويلة، حول فكرة سينمائية في إطار درامي وثائقي عن تحويل مجرى نهر النيل
عام 1964، وبناء السد العالي. وبدأ شاهين التصوير في الأماكن الحقيقية،
مستعيناً ببعض الممثلين الروس مع كل من المليجي، وسعاد حسني، وعزت
العلايلي، وصلاح ذو الفقار.
وفي «العصفور» 1974 أدى المليجي دور «جوني» الرجل الغارق في الماضي،
بعباراته التهكمية، وهو يعيش على هامش الأحداث التالية لحرب 1967، وتنحي
الرئيس جمال عبدالناصر، وعودته بعد خروج التظاهرات الرافضة لتنحيه. وتتوالى
الأحداث مع بهية (محسنة توفيق) والصحافي (صلاح قابيل) والضابط (سيف الدين)
وتتشابك الخيوط الدرامية، لتسقط الأقنعة عن السلبيات الاجتماعية، وتستشرف
انتصار أكتوبر 1973.
واصطدم يوسف شاهين مع الرقابة، إذ حذفت مشاهد مؤثرة عدة، ولم يصمد الفيلم
في دور العرض سوى أيام قليلة، فقد استشعر المشاهدون أن ثمة خللاً في التسلل
الدرامي لقصة لطفي الخولي، وكأنهم يشاهدون فيلماً سوريالياً يكتنفه الغموض
الشديد، والمزج بين الأجواء البوليسية المثيرة، والنقد السياسي لمرحلة ما
بعد 1967، ما دفع النقاد إلى التوقف عند شخصية «جوني» التي طاولها مقص
الرقيب، وظهور نجم بحجم المليجي في دور ثانوي، بعد بطولته لفيلم «الأرض».
ولكن تجاوز شاهين أزمة «العصفور» وعاد المليجي إلى التألق في فيلم «عودة
الابن الضال» 1976، حيث جسد شخصية الأب الحائر بين زوجته المتسلطة (هدى
سلطان) وبين ابنه الأكبر طلبة (شكري سرحان) وبين الأصغر علي (أحمد محرز)
الغائب منذ سنوات، قبل أن يعود محطماً، ويخيِّب آمال العاملين في مصنع
شقيقه الطاغية، ولا يجد الأب أملاً سوى في حفيده إبراهيم (هشام سليم)
فيساعده على السفر لاستكمال دراسته الجامعية، ومعه الفتاة التي يحبها
(ماجدة الرومي).
حدوتة مصرية
وضع المليجي كلمة النهاية مع أفلام شاهين، بالجزأين الأول والثاني من
ثلاثية سينمائية، تناغمت مع السيرة الذاتية للمخرج. أدى دور الأب «شكري
مراد» والد «يحيى» الحالم بالسفر إلى أميركا لدراسة الإخراج السينمائي.
بدأت الثلاثية بفيلم «اسكندرية ليه» 1979، سيناريو محسن زايد، وشارك في
البطولة كل من عزت العلايلي، ومحسنة توفيق، ونجلاء فتحي، وأحمد زكي، ويوسف
وهبي، ومحسن محيي الدين، وظهر النجمان فريد شوقي ويحيى شاهين ضيفي شرف.
واستكمل المليجي دور «شكري مراد» في «حدوتة مصرية» 1982، المأخوذ عن قصة
ليوسف إدريس ورؤية سينمائية وإخراج يوسف شاهين. يتناول الفيلم طبيعة الحياة
الاجتماعية في مدينة الإسكندرية خلال فترة نشوب الحرب العالمية الثانية،
بأسلوب «الفلاش باك» وتقاطعه مع حادثة حقيقية وهي تعرض شاهين لأزمة قلبية
أثناء إخراجه فيلم «العصفور»، وخضوعه لجراحة عاجلة أجراها له الطبيب
العالمي مجدي يعقوب.
وفي التوقيت نفسه، أجرى الكاتب يوسف إدريس جراحة مماثلة، وكتب سلسلة مقالات
في جريدة «الأهرام» المصرية بعنوان «فتح القلب» ليلتقي مع شاهين لأول مرة
في تجربة سينمائية، ويواصل المليجي تجسيد دور «شكري مراد» في إطار فانتازي
من خلال وقائع محاكمة داخل القفص الصدري لابنه «يحيى» في مراحل عمرية
مختلفة. وقام بهذا الدور النجم نور الشريف (المخرج يحيى)، بينما جسد محسن
محي الدين هذا الدور في مرحلة الصبا، وأسامة ندير «الطفل يحيى»، وقامت
النجمة يسرا بدور «زوجة يحيى» فيما كانت الأم «سهير البابلي» والشقيقة
«ماجدة الخطيب». ويفيق «يحيى» في نهاية هذه المحاكمة، ليجد نفسه راقداً في
المشفى، ويعود إلى قلبه الطفل المشاغب مُجدداً.
تنتهي رحلة المليجي مع شاهين برصيد يتضمن أهم أدواره تألقاً على الشاشة،
ومن بينها «المعلم كامل» في «ابن النيل» 1951، والمحامي الفرنسي في «جميلة»
1958، و{كونراد» في «الناصر صلاح الدين» 1963، ومحمد أبوسويلم في «الأرض»
1970، والأب في «عودة الابن الضال» 1976، وأخيراً «شكري مراد» في «اسكندرية
ليه» 1979 و{حدوتة مصرية» 1982، ليترك فراغاً هائلاً كممثل شهد له شاهين
بالأستاذية وعبقرية الأداء، وقال عنه: «كنت أجد فيه صورة أبي».
القط الأسود
تحولت أنظار «شرير السينما» إلى التلفزيون المصري، وقدم أكثر من 50 مسلسلاً
وسهرة درامية، من بينها «القط الأسود» 1964، تأليف محمد عبدالقادر المازني،
وإخراج عادل صادق، وشارك في بطولته كل من علوية جميل، وعمر الحريري، وتوفيق
الدقن، ومديحة سالم، وسامي سرحان، ومحمد صبيح. وحقق المسلسل نجاجاً هائلاً،
واختير ضمن أفضل الأعمال التلفزيونية في الستينيات.
تبدأ الأحداث بجريمة قتل يرتكبها أحد أفراد عصابة «القط الأسود». يحقق مفتش
المباحث ممدوح (عمر الحريري) في القضية، ويتلقى خاله رحمي (محمود المليجي)
رسالة تهديد من القط يطلب فيها الزواج من سهير (مديحة سالم) ويتمكن «القط»
من خطفها، وتنهار الأم (علوية جميل)، ويكتشف المفتش أن ثمة أكثر من مجرم
ينتحل شخصية القط، ويكثف جهوده للقبض على المجرم الحقيقي وأعوانه.
سمارة والعنكبوت
في الدراما الإذاعية، شارك المليجي في أعمال عدة من بينها «سمارة» 1956
الذي نال شهرة واسعة وقام ببطولته كل من سميحة أيوب، ومحسن سرحان، وسعد
أردش. وفي نفس العام، قدَّم المخرج حسن الصيفي هذا المسلسل في فيلم
سينمائي، وأسند دور «سمارة» إلى تحية كاريوكا، فيما تولى محمود إسماعيل
«المعلم سلطان» وعاد محسن سرحان ليجسد دور «الضابط فؤاد المتخفي في شخصية
سيد أبوشفة» للإيقاع بأفراد العصابة، والقبض على زعيمهم نبيه بك (محمود
المليجي).
وخاض المليجي تجربة أخرى أكثر إثارة، عندما جسد شخصية «الدكتور مصطفى داود»
في المسلسل الإذاعي الناجح «العنكبوت» 1973 وانتقل بها إلى التلفزيون مع
المخرج يحيى العلمي 1977، وهو أول عمل درامي مصري من الخيال العلمي، عن قصة
للدكتور مصطفى محمود، حول الشاب راغب دميان (عزت العلايلي) الذي يتوصل إلى
اختراع آلة الزمن، ويسافر إلى أزمنة بعيدة. من ثم، يجد نفسه شخصاً آخر
ويتكلم بلغات لا يعرفها، ويعيش في لحظات محمومة، وحين يفيق يسجل مشاهداته،
وتختلط في رأسه الحقيقة بالأوهام، ويكتشف الدكتور داود (محمود المليجي) هذا
السر، وتتتابع الأحداث.
الفتى الطائر
تعددت لقاءات النجمين محمود المليجي وعادل إمام. بدأت عام 1965 في «العقلاء
الثلاثة» و{البحث عن المتاعب» 1975 للمخرج محمود فريد، و{الخروج من الجنة»
1967 للمخرج محمود ذو الفقار، فيما جمعهما المخرج أحمد فؤاد في «ليلة شتاء
دافئة» 1981، وهو آخر لقاء بينهما على شاشة السينما.
في هذه الأفلام صنع المليجي مع إمام مفارقة كوميدية صارخة، بين ممثل تمرس
على أدوار الشر، وآخر يفجر الضحك، وتناغم لقاؤهما في مسرحية «غراميات
عفيفي» 1970 إعداد عبدالله فرغلي وإخراج نور الدمرداش، وشارك في بطولتها كل
من أمين الهنيدي، وليلى طاهر، وزهرة العلا، ونظيم شعراوي. وحققت المسرحية
نجاحاً جماهيرياً، وطافت عروضها عواصم عربية عدة.
وجمعهما المخرج محمد فاضل في «أحلام الفتى الطائر» 1978، قصة وحيد حامد،
وشارك في بطولته كل من عمر الحريري، ورجاء الجداوي، فيما ظهر بعض النجوم
ضيوف شرف، ومن بينهم محمود المليجي، وسعيد صالح، وصلاح منصور، وعبدالوارث
عسر، وأمينة رزق، وجميل راتب، وزيزي مصطفى. وحقق المسلسل نجاحاً كبيراً،
وما زالت قنوات الدراما تعيد عرضه حتى الآن.
تدور أحداث المسلسل حول خروج إبراهيم الطائر (عادل إمام) من السجن، وعودته
إلى نشاطه الإجرامي في السرقة. يقوم بعملية ضخمة لتهريب الأموال لصالح إحدى
العصابات، ويخبئها في مكان آمن، ويتفق مع الدكتور فضالي (محمود المليجي)
على الاختباء في مشفى للأمراض العقلية. هناك يلتقي بالمؤلف (عمر الحريري)
وبعد موت فضالي، يهربان من المشفى، وتطاردهما الشرطة والعصابة مع مدير
المشفى. يموت الأخير، فيهرب إبراهيم الطائر بصحبة المؤلف، وتطاردهما الشرطة
والعصابة التي تريد استرادد الأموال المهربة.
زينب والعرش
شهد مسلسل «زينب والعرش» 1979، مباراة في الأداء التمثيلي بين العملاقين
محمود المليجي ومحمود مرسي، أدارها المخرج يحيى العلمي عن قصة للكاتب فتحي
غانم، وسيناريو صلاح حافظ، وبطولة كوكبة من النجوم، من بينهم كمال الشناوي،
وحسن يوسف، وسهير رمزي، وهدى سلطان، وصلاح قابيل، وعبد المنعم إبراهيم،
وحسن مصطفى، وعايدة عبد العزيز، وأسامة عباس.
بدأت أحداث «زينب والعرش» في الأربعينيات، وتناولت قصة صعود الصحافي
عبدالهادي النجار (محمود مرسي) عندما استدعاه مدكور باشا (محمود المليجي)
وعرض عليه تمويل دار للصحافة والنشر (العصر الجديد) وبعد قيام ثورة يوليو
1952، يتنكر النجار للباشا، ويتعامل بانتهازية مع المرحلة الجديدة، ويلتقي
بزينب (سهير رمزي) التي تتطلع إلى العمل في الصحافة، ولكنها تكتشف
انتهازيته، وتتزوج من الصحافي الشريف يوسف منصور (حسن يوسف).
وفي عام 1981، عاد المليجي للتعاون مع المخرج محمد فاضل في المسلسل
الكوميدي «صيام صيام» تأليف صالح مرسي، وقام بدور عبدالحميد والد صيام
الفنان يحيى الفخراني، وشاركت في البطولة كوكبة من النجوم، منهم يوسف وهبي
ومريم فخر الدين وفردوس عبدالحميد وآثار الحكيم وصلاح السعدني وفاروق
الفيشاوي، ودارت أحداثه في إطار مفارقات طريفة، وكشف العادات السيئة خلال
شهر رمضان، وأن الصوم عن الطعام ليس هو كل الصيام.
عملاق الشر يذهب مع غاري كوبر إلى نيويورك
محطات مهمة أغفلها الفنان محمود المليجي، وعبرها كأحداث غير مؤثرة في حياته
الفنية، رغم أنها وضعته على أعتاب السينما العالمية. بدأت في العصر الذهبي
للفن السابع، عندما أنشأ أنيس عبيد في عام 1940، معمله في منطقة حدائق
القبة بالقاهرة، لترجمة وطباعة العناوين على الأفلام باللغات كافة، وانطلقت
خلال هذه المرحلة «حركة تعريب الأفلام الأجنبية». آنذاك، شهدت دور العرض
الفيلم الأول «غاري كوبر في نيويورك» وعنوانه الأصلي «مستر ديدز يذهب إلى
المدينة» للمخرج فرانك كابرا، من بطولة غاري كوبر وجين آرثر، بينما قام
بتسجيل الأصوات العربية (الدوبلاج) كل من محمود المليجي وأمينة نور الدين.
·
المخرج الكبير يودع الأب الروحي في «حدوتة مصرية»
·
«القط الأسود» يختطف علوية جميل وزوجها من السينما
·
قام ببطولة «العنكبوت» أول عمل درامي مصري من الخيال العلمي |