خاص بـ«سينماتك»

 

العوالم السينمائية الرمزية داخل فيلم "الثلث الخالي"

Les mondes cinématographiques symboliques dans le film « Déserts »

بقلم: أشرف عبدالمالك*/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 

إن الفضاء في السينما يشكل أحد أهم العناصر الأكثر تعبيرية في الفيلم، ويقصد به أماكن الأحداث وكيفية عرضها من خلال التأطير، حيث عبره يتم ترتيب الشخصيات بحسب أهميتها والمشاهد وفق الوظيفة التي يريد منحها المخرج لها، وعن طريقه يمكن معرفة حدود النزاع الدرامي المتولد في الفيلم. إضافة إلى هذا فإن الفضاء يستعمل غالبا في السينما كتأطير خلفي للشخصيات وكذا الدلالة التي تحملها وعلى ما تفكر فيه أيضا، كما أنه يحدد حتى نوعية الفيلم والزمن الذي يسعى للقبض عليه.

يعد فيلم “الثلث الخالي” من الأعمال السينمائية اللافتة في المشهد العربي الحديث عامة وفي المشهد المغربي على وجه الخصوص التي اهتمت بالفضاء (المدينة، الصحراء)، إذ يخرج من عباءة الحكاية الكلاسيكية ليُبحر في صحراء المعنى، متجاوزًا الصورة كمجرد إطار بصري إلى توظيفها كعلامة ثقافية وفلسفية تنسج عالماً رمزيًا معقدًا، يراوح بين المادي والمتخيل، وبين الوجودي والجغرافي.

ينتمي الفيلم إلى تلك الفئة من الأعمال التي لا تكتفي بنقل الحدث، بل تصنع الحدث نفسه من خلال فضاءاته، وأزمنته الصامتة، وتوتراته البصرية. وقد استطاع المخرج أن يقدّم الصحراء، أو ما يُعرف "بالثلث الخالي”، لا كمجرد منطقة معزولة جغرافيًا، بل كرمز للتيه الداخلي الذي يسكن الإنسان العربي المعاصر، في ظل فقدان المعنى وسط كثافة الفراغ.

الصحراء كائن حي:

لم تكن الصحراء في الفيلم مجرد خلفية طبيعية، بل بدت ككائن حي يراقب بصمت، يحتضن الشخصيات ويبتلعها، يختبر صبرها، ويكاد يُنطقها دون كلام. هي صحراء ممتدة بلا حدود، ترمز لا إلى الفقد المكاني فقط، بل إلى غربة الإنسان عن ذاته، وعجزه عن فهم واقعه أو الخروج من دائرته المغلقة. هذه الصحراء لا تُحتل بالمعنى الاستعماري، بل هي التي تحتل الإنسان، تفككه وتعيد تشكيله وفق قوانينها.

الشخصيات كأقنعة رمزية

تتجلى الرمزية أيضًا في بناء الشخصيات. فالبطل، الذي لم يُمنح اسماً واضحًا، لا يمثل فقط فردًا تائهًا، بل هو صورة مصغّرة لإنسان يبحث عن هويته في عالم يتلاشى فيه المعنى. تحركاته الصامتة، وحيرته أمام الأفق اللامتناهي، ليست سوى تعبير عن التمزق الداخلي الذي يعيشه، وعن القطيعة التي يشعر بها مع الزمن والمكان والذاكرة. أما الشخصيات الأخرى، فتبدو كأطياف، تحضر لتلقي بظلّها ثم تختفي، في ما يشبه لعبة وجودية كبرى.

الضوء والظل: بين الكشف والإخفاء

اعتمد المخرج بشكل جليّ على جدلية الضوء والظل، فكل مشهد يكاد يكون لوحة تشكيلية تعبّر عن مشاعر مكبوتة، وصراعات لا تُقال. كان الضوء في أحيان يسلط كاشفًا عن لحظة وعي أو انكشاف، وفي أحيان أخرى يحجب ما لا يُقال، ليترك للمشاهد حرية التأويل. إنها لغة بصرية توازي في ثقلها لغة الحوار، بل تتجاوزها في عمق التعبير.

السينما كتأمل وجودي

يمكن اعتبار “الثلث الخالي” جزءً من السينما التأملي Cinéma spéculatif ، التي لا تطرح إجابات بقدر ما تثير الأسئلة، كل مشهد فيه يبدو وكأنه سؤال مفتوح: من نحن وسط هذا الفراغ؟ هل نحن ماضون في طريق معلوم أم أن كل الاتجاهات تؤدي إلى لا شيء؟ هل الصحراء هنا عقاب، أم تطهير، أم مجرد انعكاس لصحراء داخلية أشد اتساعًا من الجغرافيا؟

وفي هذا السياق، يمكن ربط الفيلم بتقاليد سينمائية وفكرية كبرى، أبرزها السينما الوجودية الأوروبية، خاصة عند “أنطونيوني” و”تاركوفسكي”، حيث يتحول المكان إلى بطل، والزمان إلى بطء مقصود، والحكاية إلى ذريعة لتفكيك الإنسان أمام عينيه.

النهاية المفتوحة والفراغ المقصود

ولأن الفيلم يصرّ على الرمزية symboliques ، فقد جاءت نهايته مفتوحة، مقلقة، لا تمنح المشاهد أي نوع من الطمأنينة أو اليقين. تمامًا كما لم يكن البطل على يقين من وجهته، لم نكن نحن على يقين من نهاية رحلته. هل وصل؟ أم استسلم؟ أم اندمج مع الصحراء فصار منها؟

هنا يمكننا أن نطرح، على غرار ما يُطرح في “سارقو الدراجة”، تساؤلين يفتحان المجال لتأويلات متعددة: هل نحن من دخلنا الصحراء أم أن الصحراء هي من دخلت فينا؟ وهل الخروج منها ممكن أصلًا، أم أن من يدخل هذا “الثلث الخالي” يخلع عنه العالم، ويصبح بلا زمن؟

وعليه، يمكن القول في النهاية، إن “الثلث الخالي” ليس فيلمًا عن الصحراء، بل عملا بصريا رمزيا يحاور الأسئلة الكبرى بكلمات قليلة وصور كثيفة، يطرح الإنسان العربي أمام مرآته الكبرى، ويتركه هناك… يتأمل، وربما يتوه...

* (ناقد سينمائي مغربي)

 

سينماتك في ـ  28 يونيو 2025

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004