قدم المخرج الإسرائيلي ناداف لبيد، الذي يعيش راهنا
معظم الوقت في فرنسا، رابع تجربة سينمائية له في اليوم
الثاني من عروض المسابقة الرسمية لمهرجان كان
السينمائي ال ٧٤ الأربعاء الماضي. الفيلم عبارة عن جزء
ثالث من ثلاثية تتناول علاقة المخرج الشخصية بإسرائيل،
البلد الذي ولد فيه، والذي هو شديد الانتقاد حياله في
أعماله. أعمال تصور عموما الانطباع الذي يتركه المكان
في نفسية الأشخاص وسلوكهم في ظل العلاقة مع السلطة
ونهج الحكم. وينسف المخرج فورا ومن البداية مقولة
إسرائيل "الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"، بل
هو يستبدل هذه المقولة بأخرى ترد على لسان الشخصية
الرئيسية: "إسرائيل دولة عنصرية، قومية". ناداف لبيد
يريد قول الحقيقة ويريد تصفية حسابه مع النظام القائم
ومع نفسه من خلال الفن، في فيلم يظل في جزء كبير منه
أوتوبيورافيا.
وقد صرح ناداف لبيد في المؤتمر الصحفي الذي أعقب عرض الفيلم،
بان الإسرائيليين " ليسوا سوى تفصيل في هذا المكان" كما استعاد
في الشريط عبارة أمه التي رحلت أخيرا: "في النهاية الجغرافيا
هي التي تنتصر". أمه كانت موظبة أفلامه، وفي الشريط يرسل لها
كل يوم رسالة من تلك الصحراء التي ذهب اليها لمناقشة عرض فيلمه
الذي فاز عام ٢٠١٩ في برلين. وللتذكير فقد سبق لهذا المخرج
نيله قبل عامين جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين عن شريطه
"سينونيم" (مرادف) الذي يتناول قصة شاب إسرائيلي غادر بلاده
محاولا العيش في باريس قبل ان يعود الى تل أبيب.
الإشارات مثل هذه حول مستقبل الدولة العبرية واخفاقها في تحقيق
الديمقراطية لها وللشعب الفلسطيني يحفل بها الفيلم. احدى
الشخصيات تشبه إسرائيل بـ "حقل من الفليفلة المعفنة والمهملة"
في الصحراء. حقل يصبح رمزا للبلد. أما عنوان الفيلم "ركبة عهد"
فمستوحى من نضال الشابة الفلسطينية عهد التميمي. وتحديدا ذلك
التصريح الذي دعا فيه أحد أعضاء الكنيست الى إطلاق النار على
ركبة عهد التميمي حتى يتم شلها وتصبح مقعدة الى الابد وذلك بعد
صفعتها المشهودة للجندي الإسرائيلي. العنوان فيه تلميح أيضاً
للسينما الفرنسية والى ذلك الفيلم الشهير لإريك روهمر "ركبة
كلير" (1970).
يستهل الفيلم بمشهد طويل لدراجة نارية تنطلق بسرعة هائلة في
طرقات تل أبيب، نكتشف بعدها ان من يقود بهذه السرعة صبية
إسرائيلية جاءت لأداء كاستينغ مع مخرج يريد انجاز فيديو او
فيلم أو عمل انشائي عن عهد التميمي، لكنه لم يرس بعد على خيار.
من هذه الزاوية تدخل عهد التميمي للفيلم حيث نرى لقطات فيديو
من وقوفها في مواجهة الجنود الإسرائيليين. لكن وبعد ذلك مباشرة
يغادر المخرج بناء على دعوة لعرض فيلمه في مكان منعزل قليل
السكان، وتنتقل احداث الفيلم معه الى ذلك المكان.
"ركبة عهد" مجموعة من الحكايات والذكريات تصب كلها في نفس
الخانة: الفن في مواجهة السلطة التي تحاول دائما وضع يدها على
الفن وخفض سقوف الحرية. الأمر يتعلق هنا بفاشية الدولة
وتعاطيها مع قضية الحريات. والأمر ينطبق على كل الأمكنة، فقد
شهد العالم مع القيود التي فرضها وباء الكورونا أيضا تراجعا
عاما للحريات، خصوصا في أوروبا موطن الحريات، مبدئيا.
هي اذن محاولة قمع السلطة لحرية الفنان او محاولتها اخضاع الفن
لمشيئتها وهو ما يحاول المخرج Y
الذي يؤدي دوره باقتدار
الكوريغراف أفشلوم بولاك فضحه. في مواجهة المخرج تقف موظفة
متألقة في قطاع حكومي تحاول تنفيذ ما تطلبه السلطة، دون ممانعة
ودون أسئلة، وتطلب من المخرج قبيل عرض شريطه ان يقوم بالتوقيع
على ورقة تقول بأنه لن يتطرق خلال النقاش لأي من المواضيع
الحساسة التي تمس إسرائيل، وهو ما يثور عليه المخرج في الشريط
بعد ان خضع للأمر في الحياة. وحتى يغري الشابة ويكسب ثقتها حتى
تبوح له بأن الأوامر تأتي من وزارة الثقافة، يتحدث لها عن
تجربته كجندي، يخترع بطولات لم يخضها حتى يكبر في عينها ثم
يسجل أقوالها دون علمها كي يكشف للإعلام هذا الواقع. والمخرج
في الفيلم، يقوم بما لم يقم به في الواقع، في زمن سابق على
الفيلم، حيث خضع للسلطة.
قد يكون أهم عنصر يميز سينما ناداف لبيد، هو هذا النسغ
التجريبي الذي يقوم من خلاله بنسف القوالب الجاهزة للسينما،
مثل اللقطة الطويلة الافتتاحية في الفيلم، أو ذلك الخطاب -
المونولوج الذي يستغرق قرابة التسع دقائق في نهاية الفيلم حين
يقول المخرج أمام أهل المكان كل ما يفكر به، وفي النهاية،
حقيقتهم، حقيقة الموظفة، وحقيقة دولتهم. كما أن عملية السرد،
يتم كسرها بسرد معارض باستمرار، والحكاية تفضي الى أخرى مختلفة
لكنها تكمل الصورة العامة التي لا تكف عن ادانة الدولة العبرية
في جو يسيطر عليه التشاؤم والقلق من المستقبل.
يستفيد الشريط الى أقصى درجة من جماليات الصحراء قرب غزة، من
الضوء حيث يتحول المكان المفتوح الى ديكور لفيلم يسائل الفراغ
والرمال والعبث، مازجا في أسلوبه بين المسرح والرقص والشاعرية
والبيان السياسي أو المانيفستو في آخر الفيلم، فتأتي قوية دون
فلاتر مثل شمس الصحراء.
سينما ناداف لبيد، سينما تولد من الغضب وهي تكمل مدرسة في
السينما الإسرائيلية بدأت من سنوات طويلة والمخرج ينتمي
لِمجموعة من السينمائيين الإسرائيليين شديدي الانتقاد للدولة
العبرية وسياساتها وخدموا كلهم سابقا كجنود في جيشها من هؤلاء
مثلا: آفي مغربي، عاموس غيتاي او ايال سيفان في مجال الوثائقي
أوآري فولمان وعيران كوليرين الحاضرين أيضا في مهرجان كان هذا
العام حيث تتمثل السينما الإسرائيلية بخمسة أفلام.