قرأ النقاد السياسيون (لوليتا -
ناباكوف) على إنها تمثيل رمزي للعلاقة الاغوائية الملتبسة بين
اوربا (همبرت) وأمريكا (لوليتا) وكان اتجاه القراءة مبنياً على
سعي اوربا العجوز إلى أفساد أمريكا الفتية التي تفاجئ الجميع
في إنها كانت فاسدة اصلاً وإذا اجاز لنا أن نعكس هذه القراءة
فأننا نجد (التانغو الاخير في باريس) بمثابة التناص المعكوس مع
(لوليتا)، فالأمريكي العجوز الفاقد للأمل يسعى إلى الاوربية
الشابة المثيرة، التي تبدو مليئة بالبشارة، ولكن الحوار
المقطوع يعكس خرافة هذا اللقاء لأن ما بدأ بشارةً وأملاً ما هو
إلا القتل المحتم لأن اوربا الفتية بلا أمل في خواء قيمها
وخوفها المتأصل ذي الطابع البرجوازي من أمريكا التي هي في
الاصل منفى الحثالة الاوربية من وجهة نظر البرجوازية.
وما يبعث الدلالة في هذه الرؤية إنها
تفسر سر التأزم الاصيل في العلاقة بين الطرفين ذلك التأزم
الذي يسبق الحوار الايروتيكي لأنه يبدأ تماماً منذ المشهد
الاول للفيلم، حين تلفت أمريكا التائهة المتصعلكة الغائبة عن
الوعي تقريباً (الرجل) انظار اوربا الواثقة المتجاوزة للمصاعب
والممتلئة بالقيم ظاهرياً (الفتاة).
ينبني فيلم (التانغو الاخير في باريس)
عن حكاية علاقة غريبة تبدأ مصادفة بين امريكي ارمل وفرنسية
شابة، ويقود استمرار العلاقة بشكلها الملتبس كلا الطرفين إلى
محاسبة ذاته بطريقة مدمرة كاشفة عن اختلاف الوعي والرؤية
ومعرية بنية الطرفين الزائفة، وواضعة اياهما في مواجهة مخيفة
مع كل ما يخفيانه في ظلمات النفوس العميقة، الامر الذي يتجاوز
حدود احتمالهما وطاقتهما، فيقود إلى نهاية مأساوية تقتل فيها
الشابة الفرنسية الامريكي الارمل، منكرة معرفتها به وانها
حسبته لصاً وخافت منه فقتلته، في محاولة لاستعادة توازنها الذي
خلخلته هذه العلاقة.
وحكاية (التانغو الاخير)، بهذا، الوصف،
تبدو مألوفة وممكنة الوقوع، ولها نظائرها في السينما السائدة
غير ان تفاصيلها الداخلية وتشابك بنى احداثها وتفرعاتها،
وتناغم معطيات الفلم كلها في صياغة الحكاية، ينقلها من المستوى
الاولي لعلاقة عابرة آثمة فيها الكثير من العدوانية ورد الفعل
السادي إلى حكاية خطرة جداً ومعقدة جداً عن الحوار الانساني
بين الذات والعالم، وبين الذات ومرآتها/الاخر الامر الذي يهمش
العنصر الحكائي بذاته، اذا ما نظر اليه بمعزل عن تفاصيله
المتشعبة وتداخلاته النصية وايماءاتها، ولذا فان (التانغو
الاخير في باريس) لا حكاية فعلية له، فهو من الافلام التي لا
توجد حكايتها خارج شكلها الفني، فالحكاية هي الفيلم كله،
وتلخيصها وفقاً لهذا، في خط حكائي ممتد، سيكون عبثاً لأنه لا
يلخص (التانغو الاخير) ولا يفسره ولا يروي حكايته. فالتلخيص
مهما كان واعياً وأميناً، ومحاولاً الامساك ببؤرة النص
الحكائية، سوف يخل بجزيئات الشكل الفني/ الحكائي ويفقده
حكايته. فالتانغو خليط فني/ ذهني، من تجليات وحالات ومواقف، لا
يربطها سوى امكان حدوثها هكذا، بوصفها سمة للعصر، وليست حكاية
لأحد ابناء العصر، وما دام كذلك فهو لا يعني بترتيب اتجاهاته
السردية، ولا يعنى بمنطقها، ولا تسلسل قصها قدر عنايته في
التعبير الحكائي عن هذه الاتجاهات وترتيبها حتى لو افضى هذا
التعبير إلى كسر بنية الخيط الحكائي وتهشيم استمرارها او
ترابطها، فالحكاية ليست في الاحداث والعلاقات بل هي الفلم نفسه
بكل عناصره وتكويناته وانتظامها في الصورة المخصوصة التي مزجت
فيها. واذا كانت الحكاية ملتبسة هكذا فان تأسيسها واصولها
ستكون اكثر التباساً فاذا كانت (لوليتا - نابوكوف) تمثل اصلاً
تناصياً للعلاقة في التانغو الاخير فان هذا الاصل لا يتجاوز
الظاهر الحسي غير المألوف وربما يتداخل مع التفسير السياسي
للوليتا، ولكن التانغو الاخير يتجاوز ثنائية لوليتا وانفصالها
عن المحيط عندما يؤسس حكايته على اسس المحيط نفسه، فلا تبدو
العلاقة بين البطلين الا تجلياً لخراب المحيط كماهي تجلٍ
لإمكاناته وبناه وتكويناته وهو ما يجعل التأصيل صعباً،
فبرتولوتشي يمزج في التانغو الاخير معارفه السياسية والحضارية
والثقافية والنفسية في بوتقة واحدة يشكلها افقه الشعري اولاً
والسينمائي ثانياً. ولذا فان التانغو الاخير له صلة بثورة
الطلاب كما له صلة بحرب الجزائر وتورط امريكا في آسيا وله صلة
بالسينما الجديدة والثلاثية الفكرية (الوجودية/ الماركسية/
الفرويدية) وآثار ازمة اليسار الاوربي كما له صلة بالنقاش
الساخن في الستينات حول مغزى الحضارة الاوربية وله صلة ايضاً
بهوس الحرية الجنسية الذي سيطر على الفلك وازمة الاغتراب العام
التي عانى منها الشباب الاوربي في ذلك العقد. كل هذا الخليط له
سهم في حكاية التانغو الاخير وتأسيسها، ويقيناً ان تفرد
(التانغو الاخير) لم يكن ناشئاً من حكاية ما او اصل بعينه
وانما من مصادفة اجتماع كل هذه الحكايا والاصول في شكل واحد،
وكأن برتولوتشي كان يحكي قصة عصر له مذاقه الخاص عنده شخصياً
قبل ان يحكي قصة شخصين في ذلك العصر وهو ما يجعل الشكل الفني
هو الحكاية وهو الاصل في آنٍ معاً، كما كان حال العصر نفسه
الذي كان في الوقت نفسه عصر الامل الكبير والخيبة العظمى وكان
شكل الحضاري بكل تجلياته وخطوطه هو الامل والخيبة الامر الذي
يجعل من الشكل الفني في (التانغو الاخير في باريس) مقابلاً في
الحكاية والاصل للشكل الحضاري في عصره. |