لقد اكتسب البناء المونتاجي لتلك
اللقطات أهميته وخصوصيته بنقله لنا صورة ذهنية عميقة
محملة بالدلالات عززت من رهبة الخطر والوضع غير
الطبيعي الذي تعيشه نوال من دون مشاهدة عملية مقتل
شكري، اذ استثمر المخرج ذلك الربط المتنوع بين اللقطات
لتحفيز المتلقي ضد الزوج السابق عندما يربط دخول نوال
تلك الغرفة في جانب الممر بلقطة كبيرة لباب ثلاجة
الموتى يفتح ويسحب منه أحد الممرضين جثة شكري وعلى
شريط الصوت نسمع عبارات الطبيب (وصلتنا امبارح بالليل
، الظاهر خبطتو عربية).
لقد استغل المخرج المونتاج ضمن اطار
الفيلم للتعبير عن مفاهيم عدة ارتبطت بقيمة المضمون
الفكري للعمل ككل ومن ثم عززت قيمة الحدث، فكان الربط
بين اللقطات وسيلة أساسية للمخرج للتأكيد على حرية
المرأة في العمل والتعلم، إذ وجد سياق الربط المونتاجي
بين المشهد الذي يبين تعلم نوال على الآلة الكاتبة
والمشهد التالي الذي يجسد مدى انشغالها بالعمل في مكتب
المحامي، عبر ربط اللقطة التي تبين تعلم نوال على
الآلة الكاتبة مع تاليتها عندما تدخل الى مكتب المحامي
تقدم له أوراق المطالعة في قمة انشغالها بالعمل مع
المشهد الحادي والعشرين في منزل والدتها تخبرها ان
العمل اخذ كل وقتها وباتت تشعر بقيمتها بعد ان بدأت
العمل.
استغل خان المكان الفيلمي بذكاء
للتعبير عن الحالة اللاإنسانية التي تعانيها نوال
واسهم في تعميق فكرته بإبراز التسلط الرجولي على
المرأة. عندما تأتي نوال الى مكتب زوجها بعد اخبار
والدتها انها سوف تطلب الطلاق منه تدخل نوال المصعد
ويدخل معها مجموعة كبيرة من الرجال وبعد اغلاق الباب
يبدأ المشهد بلقطة من فوق مستوى النظر قريبة تظهر وجوه
الرجال وهي تقف بينهم، ثم ينتقل الى لقطة بالحجم نفسه
تتحرك آلة التصوير من اليمين الى اليسار، ثم بالعكس من
اليسار الى اليمين، إذ تتوقف آلة التصوير عند نوال وهي
تتعرق وتشعر بالاختناق، ثم يربط الى لقطة متوسطة من
فتحة شباك باب المصعد وهي غائرة بينهم وتحاول بكل ما
اوتيت من قوة لفتح الباب، تفتحه وتخرج الى الحياة الى
الهواء بعد ان كانت محاطة بالرجال، ضمن اطار الصورة
جاء المكان معبراً عن فكرة عميقة احالت المتلقي الى
معنى اكبر جسد ما تعانيه المرأة في المجتمع من عدم
ادراك الرجل لها والتي من الممكن ان تتحول الى وحش
كاسر اذا بقيت على هذا الحال.
ايضا اشتغل المكان بشكل معبر عن مدى
الضيق والاختناق الذي تعانيه نوال بعد مقتل زوجها
الثاني شكري، عندما تذهب الى زوجها السابق عزت ابو
الروس لتقابله إذ كانت زاوية آلة التصوير جانبية عند
طرف الممر مما جعل الجدران وكأنها حجري رحى تنطبق على
نوال، فضلاً عن استغلال المخرج لأجزاء وعناصر المكان
في ابراز الفراغ وعدم التوافق بين نوال وزوجها عزت في
مشهد آخر تذهب نوال الى المطعم الذي يتواجد فيه زوجها
لطلب الطلاق يظهران في لقطة عامة داخل المطعم ونوال في
يسار الكادر وعزت في يمينه وبينهما حاجز من الأثاث
استغل وضعه المخرج إشارة الى الحاجز الذي يغلف حياتهم
ويفصل بينهم.
وهو ما قام به المخرج مستغلاً اجزاء
الشقة ليعبر عن مدى الاختلاف الذي يشوب علاقة نوال
بوالدتها ازاء زوجها الاول، عندما تأتي الام محاولة
اثناء نوال عن رغبتها في طلب الطلاق، تظهر لقطة متوسطة
نوال ووالدتها في عمق الكادر وباب شرفة الشقة في صدر
الكادر وحافة الباب الخشبية تقسم الكادر الى نصفين وفي
كل نصف تقف إحداهن، اشارة بارزة للخلاف وعدم الاتفاق
الذي يميز علاقة نوال بوالدتها والتي تتهمها فيه بانها
باعتها وانها تحب النقود اكثر من حبها لها.
في حين جاء اختيار المخرج لمدينة
الإسكندرية مكاناً واقعياً غاية في الأهمية ربطت
شخصياته بحياتها اليومية، فكان استغلاله للسوق والشارع
الرئيس في المدينة عبر اللقطات من زاوية عين الطائر
اثره في تعميق ارتباط نوال بالمجتمع، واستغلال شاطئ
البحر عندما تذهب اليه لترمي همومها، ما يعزز من أهمية
المدينة والبحر عند نوال ومدى ارتباطها بمكانها
ووجودها.
البناء الزمني لتسلسل الأحداث ادى
دوراً مهماً في التعبير عن واقع الحياة التي تعيشها
نوال مع زوجها عزت، فكان التكثيف الزمني نقطة بارزة
لخصت الكثير من المواقف وعززت من قيمة فهم طبيعة الحدث
بالنسبة للمتلقي امتزجت اثناء الفلم سواء باستغلال
العبارات التعريفية بمرور الزمن التي تظهر على الشاشة
او عبر الوسائل السينمائية التي كان استخدام تقنية
المزج فيها واضحاً ومؤثراً على مدار الفيلم لتقديم
الحالة.
يتميز شريط الصوت في فيلم (موعد على
العشاء) باشتغاله على مستويات عدة وحسب أنواعه مشكلاً
ترابطاً ملحوظاً مع الصورة ومساهماً في تعميق المضمون
الذي يريد خان إيصاله، ففي المشهد عندما تخرج نوال الى
شرفة شقتها تنظر خروج زوجها، جاء اشتغال الموسيقى
التصويرية الى جانب الصورة معبراً عن الوحدة والانعزال
الذي تعيشه عندما تنظر الى اسفل فتنقل لنا آلة التصوير
رؤيتها لفتاة وهي تلعب على الرصيف المقابل، تتحرك آلة
التصوير (zoom
in)
نحو الفتاة والموسيقى مستمرة، إذ تحيل تلك اللقطات مع
الموسيقى الى معنى اكبر، عما تحلم به هذه المرأة
(نوال) من حرية تعيدها الى حرية ايام الطفولة كحرية
هذه الطفلة التي تلعب على الرصيف لكن الرجل الذي يطل
على شقتها من الطرف الاخر ويحاول معاكستها يذكرها
بمعانتها من الرجل المتسلط.
في مشهد آخر استغل خان بشكل جميل
موسيقى الفلامينغو الواقعية داخل المشهد في اعطاء
مساحة واقعية للحدث ساهمت في التعبير عن الحالة
النفسية التي تمر بها نوال عبر التناغم بين اللقطات
والوصلة الموسيقية وبين اللقطات التي تبين صور المصارع
وهو يحاول غرز سيفه في ظهر الثور والصورة الثانية التي
تبين الثور وهو يسقط مصارعه وخروج نوال من الحفلة. في
حين جاء الحوار في مشهد المزاد على شريط الصوت عندما
تشاهد نوال اللوحة التي فشلت في شرائها ليعمق من معنى
اللوحة ومن المعنى الذي يريد المخرج ايصاله الى
المتلقي فهي تقول: (اول مرة شفت فيها الصورة دي حسيت
اني الطفل الى كواها، انا ماشية في طريق زي ما بكون
بحلم، بدايتو فين معرفش).
وتتداخل مع الحوار لقطات لساحل بحر
الاسكندرية ثم هي وزوجها الثاني شكري يجلسان على
الاريكة تكمل الحوار: (نهايتو فين معرفش وحيوصلني لفين
معرفش والتاجر اللي اخذها كأنو اخذ حياتي كلها).
وهذا يمثل لب الرسالة التي يريد المخرج
ايصالها الى المتلقي ليعبر عن واقع المرأة بصورة عامة
ضمن اطار المجتمع الذي تعيشه فكان تناغم الحوار مع
اللقطات مكملاً الواحد للآخر ضمن اطار المشهد لتعميق
فهم المضمون العام للقصة وللقضية التي يحاول معالجتها،
والتي يعززها في المشهد لاحق عندما تخرج نوال مع
والدتها من عند المحامي الى الشارع تخبرها والدتها ان
رفضها للشقة التي تركها لها زوجها وللنفقة سيؤثر على
معيشتها، تجاوبها نوال (ما تخفيش حشتغل) اشارة تؤكد ما
سوف تحققه لاحقاً والذي يتأكد حين تخبر والدتها ان
العمل قد وضع لها قيمة وانها تشعر بانها انسانة، فهي
مؤشرات يعمل المخرج على بثها لتؤكد القيمة الجمالية
لتعامله مع الحوار والموسيقى بالطريقة التي تكسبه صفة
التحديث الجديد، ومن ثم اكتساب صفة الخصوصية والتميز.
والتي عززها في استغلاله المميز للمؤثرات الصوتية بشكل
بارز حين جاء صوت نور الشريف عبر التلفزيون في احد
افلامه بوصفه مؤثراً يسهم في زيادة الاثر النفسي للوضع
الذي تعيشه نوال بعد وفاة والدتها عندما يقول (الحياة
وحشة) ليظهر لقطة فيها نوال وهي جالسة ترتدي السواد
صامتة اشارة من المخرج بالصعوبة التي تعيشها والقسوة
التي تفرضها عليها الحياة.
يكثف المخرج محمد خان من بلاغة لغته
الصورية ضمن إطار الفلم لتحصين الفكرة بمفاهيم دلالية
عميقة تتيح له تحقيق طفرة نوعية في معالجة قضيته
واكتساب الجدة والحداثة في الطرح لتحقيق واكتساب
الخصوصية الجمالية في التعبير عن المضمون العام للفيلم
مما يتيح للمتلقي أدراك مفهوم الفيلم ومن خلال:
أ- الاستعارة
في المشهد الإفتتاحي عند أستوديو
التصوير، يخلق المخرج عبر سياق الربط المونتاجي لوحة
استعارية تثير ذهن المتلقي وتسعى الى خلق صدمة فكرية -
صورية تتيح له ادراك حجم وطبيعة العلاقة غير المتجانسة
بين نوال وزوجها.
لقطة متوسطة الام وهي تضع وردة على
جاكيت بدلة العريس ثم تقبل ابنتها، تربط الى لقطة عامة
تكمل الام تقبيل ابنتها، ثم يتجه المصور ليضبط وقوفهما
تربط لقطة كبيرة لصورتهما منعكسة داخل آلة التصوير
الفوتوغرافي، إذ يبدو الاثنان راساً على عقب، ثم تربط
الى لقطة كبيرة لصورتهما بالوضع الطبيعي وقد بدأ تسلسل
اسماء المشاركين في اعداد وعمل الفيلم. لقد سمح ذلك
الترابط المادي بين اللقطات الى توليد معنى عميق نقل
المتلقي من حالة الاسترخاء لمشاهدة العريسين بملابسهما
الأنيقة عند المصور في اول بداية الفلم الى تشويه تلك
الصورة باللقطة الكبيرة للصورة المقلوبة التي اتاحت
فهم اكبر لطبيعة الحدث وتلك العلاقة.
في مشهد آخر كانت استعارة المخرج لصور
اللوحات المعلقة على الحائط للمصارع الذي يحاول غرز
سيفه في ظهر الثور مع صورة الثور الذي يصرع مصارعه،
متداخلة مع اللقطات المتوسطة التي تتحرك فيها عدسة آلة
التصوير
zoom in
نحو نوال، مساهمة في خلق دلالات فكرية عميقة عززت من
قيمة المضامين الجمالية للفكرة ودعمت من قيمة المعالجة
الصورية للمضمون بذلك الشكل الجديد والحديث مما أتاح
للمتلقي تأويلاً فكرياً يعزز من أدراك الحدث وطبيعة
موضوع الفيلم، فيما كانت استعارته لمنظر شاطئ البحر
اثناء حديث نوال مع زوجها الثاني شكري مكسور اليد بعد
تعرضه للضرب من قبل احد ازلام الزوج الاول عزت ابو
الروس عن اللوحة التي فشلت في شرائها اثناء المزاد
تأكيداً على الهوة والغربة السحيقة التي تعيشها في
ترابط تتناغم فيه الصورة مع الحوار للتعبير عن الحرية
المفقودة وتجسيد للحالة النفسية والاجتماعية، فهي غير
قادرة على ممارسة حريتها الشخصية، وهي من ابسط الحريات
العامة.
ب- الرموز
يُقدم خان أثناء ثنايا الفلم بتشكيل
رموز تعبيرية تحرز حيزاً كبيراً من الدعم للفكرة
الاساسية دون الاسهاب في التفاصيل الثانوية، بما يمنح
المتلقي من استبصار يوجه به مداركه العقلية والشعورية
نحو المعنى مباشرة، فنجد في هذا الفيلم استخدامات
حديثة لأجزاء من الواقع يوظفها المخرج في اثارة معاني
فكرية عميقة على الرغم من التماثل والتشابه لها من حيث
الشكل والتكوين، الا انها تأخذ معنى كبيراً هنا فجاء
استغلال المصعد كرمز متكرر في اكثر من مرة لتعميق
الاحساس بواقع الاضطهاد والبؤس الذي تعيشه نوال، فضلاً
عما يثيره في نفوسنا من حجم القسوة وسيطرة الرجل على
المرأة.
وكان استغلال المخرج للوتد الذي يعترض
سلك المصعد الذي تستقلهُ نوال مع والدتها أثناء نزولهم
من الدكتورة التي راجعتها بطلب من والدتها لغرض
المساعدة في الإنجاب متزامناً مع الكلمة (لا) رمزاً
بليغاً بين حجم ومنزلة زوجها عزت عندها فهو ليس سوى
عائق يعترض طريقها، عليها ان تتخطاه كما تخطى السلك
ذلك الوتد. فيما كان المصعد رمزاً بليغاً عن تسلط
الرجل على المرأة، فنوال داخل المصعد وحدها ويقف حولها
اكثر من عشرة رجال ، تبدو وكأنها تغرق بينهم.
كما ان استغلال الملابس وتسريحه الشعر
رمزاً معبراً عن الحرية التي تبحث عنها نوال فكان
الشعر المسدل على الكتفين والملابس بألوانها البراقة
تعبيراً عن الأمل والحب والحرية، وكان مشهد المرأة
المتعلقة في إحدى الشرفات، ومن ثم سقوطها رمزاً
تعبيرياً بين مصير المرأة الباحثة عن الحرية في هذا
المجتمع أولاً ورمزاً يحيل المتلقي الى ما ستواجه نوال
من مصير، فضلاً عن الدور الرمزي للمؤثرات الصوتية الذي
استغله المخرج في بث روح اليأس والاسى عندما كانت دقات
رقاص الساعة بديلاً بليغاً عن الزمن الذي يمضي والآلام
التي تستمر. |