هند رستم هي أقوى من حوّل الأداء النسوي في السينما العربية،
الى تحد للنظرة الذكورية الدونية عبر خلق "مشهدية " (spectacle) للاغراء الذي يعصى
على التطويع والسيطرة. ان تنوع قدراتها التمثيلة وغنى وعمق
الأبعاد التي تعطيها لشخصياتها هي من القوة بحيث تضع المشاهد
الذكوري أمام العجز عن ابقاء سطوته "المتلصصة" (voyeuristic) عليها. بل ان سطوة
ادائها وحضورها على الشاشة يرتد على المشاهد الذكوري تطويعا
لغريزته، وتفرض عليه تراجعا مؤقتا عن القدرة على لعب دور
المهيمن على المشهد كما تمرس من خلال سنين من الاعتياد على
تركيبة النظرة نحو المرأة والتي تطبع السينما التقليدية. فنظرة
هذه المراة نفسها، و"تكلفها"، وتعاليها المقرون بالتلاعب
المصطنع على عواطف وغرائز نظيرها المذكر في الفيلم، وتملكها
لضحكتها الشهيرة، وبغض النظر عن الشخصية التي تجسدها، تصبح
كلها المكون الأكثر هيمنة على الشاشة التي تلعب هند رستم في
حقلها وكل ما هو حولها بما في ذلك قاعة العرض.
وعلى الرغم من أن الاكثرية الساحقة للأفلام التي شاركت فيها
هند رستم(90 فيلم من1947 الى 1979) كانت تعيد تدوير نهاية
تراجيدية للشخصيات التي تقدمها؛ وعلى الرغم من ان هذه الخواتم
السردية بدت في اكثريتها الساحقة وكأنها تحاول تأكيد الأمثولات
"الاخلاقية" و"الدينية" والتي تجعل من عناوينها القصاص من اي
امرأة تتجرأ على تحدي الصورة والممارسة "المقبولة" اجتماعيا
لها، فان قوة هيمنة ووجود هند رستم على الشاشة كانا دائما
يفرضان ثيمة مختلفة، او بالاقل قيمة ثيمية اضافية لتلك التي
يقدمها الفيلم نفسه.
العديد من الباحثين والمنظرين في موضوع الصورة السينمائية
للمرأة في السينما كتبوا عن تعامل المخرج ألفريد هيتشكوك مع
النساء في أفلامه، وخاصة لجهة الطريقة التي يتعامل بها مع
المرأة "القوية". وركز هؤلاء على أن هيتشكوك في نهايات معظم
افلامه (كما في معظم أفلام السينما المهيمنة في الماضي وفي
الحاضر) جعل قدرا على هذه المرأة، بطريقة او باخرى، ان تعود
لترضخ لارادة المجتمع الذكوري وقيمه ومعاييره. فيعاد تأطير
دورها لتتحول اما الى ربة بيت مطيعة أو أم تقليدية، او الى
حبيبة ترى في "رجلها" شفيعا لما تبقى لها من حياة. وفي حال لم
ينجح هذا التحول لأي سبب، يصبح التخلص منها ضروريا وذلك اما
عبر تحويلها الى نكرة اجتماعية، او الى قتلها.
مع هند رستم، كان من الطبيعي لمخرجي الصف الاول في مصر ان
يتعاملوا في معظمهم مع قدر الشخصيات التي قدمتها هذه الفنانة
بطريقة مماثلة. ففيما عدا نهايات أفلام قليلة "باب الحديد"
و"بين السماء والأرض" وغيرها، تميزت مصائر الشخصيات التي
لعبتها هند رستم بالقدرية التراجيدية التي تأتي كنتيجة لحكم
الهي محتم. وهو بالواقع حكم يتناسب مع ما ينسجم مع ارادة الرجل
وما يعتبره منسجما مع طبيعة النظرة البطريركية التقليدية
للمرأة ودورها في المجتمع، في اطار ما هو "مخصص" لها وما لا
يمكن لها تجاوزه. لهذا فان معظم شخصيات هند رستم السينمائية
على الشاشة كانت تخضع بالنهاية لارادة القصة الميلودرامية
المحكومة اما بالزواج التقليدي، او بالرهبنة، او بالاستسلام
للحبيب والزواج. وكان طبعا يضاف الى هذا، مصائر الموت،
والتشوه، وخسارة الابناء، والحرقة الابدية، وكلها كبدائل لعدم
الانصياع لما كان من المفترض ان يكون قدرا لها كمرأة.
بيد أنه مع هند رستم، كان القسم الاول من أفلامها، ودائما،
يحتوي على ما يكفي لان يختبر المشاهد ما يتجاوز المصير العقابي
الذي ينتظر كل من يخالف الارادة البطريركية للمجتمع وحماتها من
أولئك الذين حترفوا ادعاء تمثيل الارادة الالهية على الأرض.
فشخصياتها ضمن الاطار العام لهذا القسم تلعب في حقل انوثتها
واغرائها واستقلالها الحرفي والعاطفي حتى الثمالة، بما يرسخ
للمشاهد الامكانيات المغايرة لحالة التسليم لما يراد له أن
يكون مصيرا لا بديل له للمرأة. فشخصيات هند رستم في الأجزاء
الأولى لهذه الأفلام تبدو وكأنها تروي شبق تذوق الحياة. وفي
نفس السياق، ترسم هذه الشخصيات السينمائية معالم من حرفية
الاستفادة من القوة الأنثوية، داخل مجتمع يهمش المرأة ولا يفسح
في المجال لها أن تؤمن حياتها وحقوقها كانسان مستقل. وهي تلعب
أحيانا في حيز الهجوم لتقوم بتركيع أقانيم تمثل الهيمنة
الرجعية الذكورية فتجبرهم على الامتثال لارادتها.
لهذا فان معظم الشخصيات التي قدمتها هند رستم لم تربط نفسها
كليا بتقديم أمثلة عن محاسن خضوع المرأة لما هو "مقدر" لها
اجتماعيا وشخصيا، بل رسمت أيضا مساحات واسعة بديلة ومحتملة
تفتح المجال، ولو جزئيا، لتخيل ومقاربة حالة: "وماذا لو" لم
تكن المرأة تخضع لهذا المصير الذي يقدم لها على أنه "مقدر" (الامومة
والخضوع والتبعية للرجل). ونلمس هذا تكرارا في معظم افلام هند
رستم، عبر شعور المشاهد بنوع من الحسرة، لكن ليس بسبب وقوع
الشخصية الرئيسية "بخطا افعالها"، بل بسبب اضطرارها للقبول
بالقواعد التقليدية المرسومة لها اجتماعيا.
ولعل التمسك الواضح لرستم بعدم القبول السهل بما كان يعرض
عليها من أدوار، كان وراء نجاحها بالحفاظ على صورة نجومية
محددة كانت تعتبرها جزءا أساسيا في عملها الفني: صورة المرأة
وهي في صراع مع واقع وجودها في كنف المجتمع الذكوري. وربما هذا
هو السبب الذي جعل هند رستم تعتبر عملها مع المخرج حسن الأمام
بمثابة النقطة الأعلى في تكوين رصيدها الفني خصوصا بعد
مشاركتها في "بنات الليل" (1955) و"الجسد (1955). وعلى الرغم
من اعتزازها بأعمالها مع يوسف شاهين وفطين عبد الوهاب ومحمود
ذو الفقار وغيرهم، فهي كانت تعتبر فيلم حسن الامام "شفيقة
القبطية" (1963) بمثابة العمل الأهم في تاريخها السينمائي لآنه
ساعدها على اطلاق جوانب أوسع وأعمق من قدراتها التمثيلية.
ونذكر هنا واحد من أقوى اللحظات الفنية وأكثرها جرأة في تاريخ
السينما المصرية والعربية، والذي يكمن في المشهد الذي تمتطي
فيه شفيقة (هند رستم) ظهر الباشا (حسين رياض) وتأمره بالمأمأة
تمثلا بصوت الخرفان وهو يحملها ويتنقل بها على يديه ورجليه في
بهو قصره. |