أهم ما يميز فیلم «سامي» للمخرج الاهوازي العربي حبيب
باوي ساجد، انتاج
2020م،
أنه ذو مصداقية فنية عالية؛ يرسخها سرد محبوك لقصة
حميمة. إنه من تلك الأفلام التي تقنع المشاهد بان ما
يراه ما هو الا نتاج كاميرا متخفية نقلت واقعاً
حقيقياً دون تجميل زائف او مبالغة درامية.
حرفية انتهجها المخرج في كل لقطة صوّرها وفي كل جملة
نطقها ممثلوه. تجربة مهمة لسينما مستقلة تسلط الضوء
على عالم لم نكن نعلم عنه الكثير. باعتباره أول فيلم
إيراني باللغة العربية، يسلط فيه الضوء على عادات
وتقاليد العرب الإيرانيين في محافظة خوزستان وثقافاتهم
الضاربة في جذور التاريخ.
سيناريو لا يستعطف المشاهد في ميلودراما مفتعلة؛ بل
يدعه للإيهام مع السرد المتأني؛ حتى يتوغل في دواخل
"سامي الكوراني" ووجدانه وعالمه؛ ومنه يمكن تلُمس
صراعه الذي عانى منه منذ فقده لزوجته 'دلال' التي
أحبها ولم يستطيع نسيانها في أي يوم من ايام حياته
بعدها، حتى بعد عشرين سنة لا زالت تحيا في يقظته ونومه
وأحلامه... إنها زوجته الحبيبة التي تركت له ابنتهما
'سعاد' والتي فقدت ساقها نتيجة الالغام التي زرعت في
فترة الحرب بمنطقة الأهواز، عاصمة إقليم خوزستان جنوب غربي إيران
المتاخم للحدود الجنوبية شرقية للعراقية، قرب مدينة
البصرة، والتي يقطنها الأهوازيون ذوي الثقافة العربية
الفارسية المختلطة. في تلك المنطقة الرازحة تحت ضغوط
خلافات وصراعات عديدة لها جذور تاريخية عميقة؛ حيث
نتابع كفاح سامي الفلاح العربي مع هذه الارض المزروعة
بالألغام والتي يسعى لتطهيرها ليتمكن من زراعتها بعد
ثلاثين سنة عقب حرب الخليج الثانية؛ ظلت قابعة وراء
الاسلاك الشائكة ولا أحد يستطيع الدخول اليها خشية
انفجار الألغام الرابضة هناك.
سرد بصري ثري ينقلنا الى تلك المنطقة المتنوعة
التضاريس والمكونات البيئة: الصحراء برمالها البيضاء
ومياه الخليج الدافئة والنخيل والجبال والأودية وهؤلاء
البسطاء الطيبون الهامشيون... هكذا هي حياة الشعب في
تلك المنطقة الثرية والفقيرة في نفس الوقت خليط بين
مؤثرات التضاريس والتاريخ.
انها منطقة الأهواز ذات الثقافة العربية والمتمسكة
بعروبتها أكثر من فارسيتها، بدءاً من لباس الدشداشة
والعمامة العربية التي يرتديها سامي طوال الفيلم في
دلالة قوية على العروبة، ومرورا باللغة والشعر
والأغنيات. لا يترك المخرج 'ساجد' مشاهد فيلمه دون ان
يدخل بحواسه في عالم سامي وأزمته. ولكي يصل به الى ذلك
فإنه يوظف اصوات ومؤثرات سمعية طبيعية تنساب طوال
الفيلم. صفير الرياح، هدير البحر، غناء الطيور، ووجه
'سامي' الجامد والمليء بالشحن والأسى؛ والمعبر عما
تركته الحرب في نفسه، وما سببه موت دلال في الحرب
وبقاء سعاد مبتورة الساق.
شاغل سامي الآن ان يطهر أرضه من الألغام وان يوفر ساق
صناعية لابنته التي تفرغ لرعايتها هي وجدتها(امه).
فيرفض ان يغادر هذه القرية كما اشارت عليه امه. انه
متمسك بأرضه وتراثه وحياته وآلامه أيضاً.
تذكرنا الكاميرا بين حين وآخر بمشهد أناس مهاجرون
يسيرون في الصحراء ومتجهون الى المجهول. تذكرنا بأطفال
يلعبون ليس لديهم مدارس يذهبون إليها. تذكرنا برجال
ونساء وأطفال يسيرون على عكازتين وقد فقدو أرجلهم
نتيجة حقول القنابل المزروعة في أرضهم... لقطات تنقل
تلك الهجرة المحملة بالضياع والهزيمة وصوت الريح
الصحراوية دائمة الصفير، وإن كانت في غير موضعها
أحياناً.
يواصل سامي بحثه لمن سيفسد مفعول الالغام، موت صامت
كما قال له مفسد الألغام المعتزل بعد أن فقد أصابع
يده: «يدك لو ترتعش؛ ترتعش الارض ويّاك...».
صور تنقل انابيب البترول المرصوصة فوق بعضها والمستعدة
لغزو هذه الاراضي التي ترقد عليها المدرعات الهرمة
والتي اصبحت ملاعباً للأطفال؛ لكنها تذكّر بوطأة
الحرب؛ وكيف صارت عشّا للحمائم تضع بيضها في جوفها...
تتلصص الكاميرا في زوايا نابهة للدخول الى قلب
الدبابة، فنرى زوج الحمام المختبئ والمرعوب وغير
القادر على الطيران. تلك رمزية شفيفة عن انحباس الحمام
وهو رمز السلام.
الفرس الذي يملكه سامي ايضاً محبوس في الاسطبل، الفرس
الذي هو من نسل اصيل لكنه سجين ولا يتخلى عنه رفيقه...
رمز عميق الدلالة. الفرس أيقونة الشهامة والعروبة
والاقدام والفتوحات والتقدم وإلى آخر الأوصاف التي
يعتز بها الانسان العربي؛ الأن أصبح محبوساً، سوف
يستغني عنه سامي ليدفع قيمة الرجل الصناعية التي
سيثبتها لابنته سعاد.
يأتي شيخ القرية ليتحدث مع سامي ليقنعه بالزواج، يدندن
السيخ بأبيات شعرية عربية، ويتحدث عما يجري في كلمات
بليغة... ثم يفاتحه بأن والدته طلبت منه أن يقنع سامي
بالزواج، ولكنه لا يستطيع.
يقول سامي: «شيخنا قلبي باب واتسكر»... حوار يحمل من
العمق الشيء الكثير، ويبين مدى أثر الأسى الذي يعيشه،
وفي ذات الوقت يدعو للتأمل في معاناة الحياة والألم
والتضحية وارضاء الأم... قيم حميمة يرسخها الفيلم
وتبين قوة أصالة هذا الشعب الأهوازي ومدى تمسكهم
بإنسانيتهم وارضهم.
الشيخ يبين لسامي انه لم يتزوج لأن جيله أراد ان يحرر
الشعوب: فلسطين. المغرب. الجزائر. جيل تأثر بجيفارا.
أراد ان يوحد الشعوب ولكنه تهمش ... هنا المفارقة
وسخرية القدر والمصير الخانق... «عدونا وراءنا والبحر
امامنا» ... بتلك العبارة يشير الشيخ الى ما لم تشير
إليه الكلمات. انها الرمزية الحذقة والحوار الذي يقول
أكثر من الكلام الصريح.
یزور سامي قبر دلال ويصب عليه الماء ويتذكر بكاء
النسوة عليها... ويهمس في خاطره: «إذا واحد من احبابك
يموت قدامك ينهد حيلك»...
نتعرف على نبض المدينة والحياة في الأسواق والشوارع
التي توحي بأنها قرية وليست مدينة، كما نشاهد أهل بلدة
سامي واطفالها، فنلمس كم هو بعد المنطقة عن التحضر
والحياة المعاصرة.
اغاني فیروز، عبدالحلیم، وأغان شعبية أهوازیة تنقل
الحس الحزين وفي نفس الوقت احساس الناس بالفرح الذي
تحول الى شجن لا يفارقهم... نشاهد أهل البلدة وقد
وقفوا على جنبات الطريق والجيش يعبر بينهم؛ يعزف
الموسيقى العسكرية ويستعرض رجاله ونسائه؛ بينما لا
تعابير فرح أو فخر أو احتفال على وجوه الناس. يقف سامي
كبقية الجمهور الواقف بلا تعابير وبلا روح، ثم يشيح
بوجهه عن هذا الجيش واستعراضه ويمضي في سبيله.
تتحدث ام سامي اليه في محاولة لجعله ينظر للحياة
بواقعيتها وينسى حزنه على دلال. «يمه روح السوق..بين
السوق والمقبرة حايط واحد.. يمه ليش بس تعاين للمقبرة
وعايف الدنيا؟»... يجيبها: «يمه، يوم انكتل أبويا أنا
چنت زغير، ومن لبستي العصّابة قلتي تظل هاي على راسي
لمّا ألتحي، وهاي عصّابتك سنين على راسك، وهسة تريديني
أنسى دلال؟»... أداء بارع وبليغ.
ممثلون بارعون غير محترفين لكهم يتحدثون ويأدون
ادوارهم بتلقائية وطبيعية. سعيد نكراوي (بدورسامی)،
سيد محمد ال مهدي. شاهرخ سخيراوي. أمينة عبيات. أمینة
دغاغلة. رضا نوری.
سينماتوغراف في
69
دقيقة ضمن مونتاج متوازن لا يغالي في مشهد إلا بما
يستحق من زمن؛ انسياب سردي يعرّف العالم العربي بشعب
عربي مهّمش له احلامه وآلامه ووجعه. يؤكد ان ام
المصائب هي الحروب وان الحب الصادق يبقى حتى لو توفيت
المحبوبة وحتى لو انزرعت الارض بالألغام والفساد. |