عندما استمعت إلى تسجيل هذا الحوار، اكتشفت أنني قاطعت
المخرج الكبير داوود عبد السيد كثيرا، وندمت على ذلك..
صوته الخفيض، تأنيه، لحظات صمته التي قد تطول ليبحث عن
أفضل تعبير عن فكرته، تغريك على مقاطعته، لكنك ستندم
على تعطيل استرسال " وطني كبير" عاشق لهذا البلد
ويتمنى له الأفضل، وستسعد بأن هذا العشق خرج بالحوار
إلى آفاق أبعد وأرحب من هموم السينما.
·
في ضوء ما يحمله "رسائل البحر" من قيم
ليبرالية تتعلق بالحرية وحقوق الإنسان، هل اختلف تلقيه
في العالم العربي عن الغرب؟
** لا.. استقباله في مهرجان "تاورمينا" بإيطاليا مثلا
كان مماثلا لاستقباله في الدول العربية.. إنه فيلم
يمكنك أن تعوم على وجهه كأنه بحر إذا تركت له نفسك
ومشاعرك، بشرط أن تتلقاه بشكل سليم، وألا تكون لديك
مواقف من الأفكار التي يطرحها.
·
لكن تقييم الفيلم قد يتأثر بحقيقة أن
هذه الأفكار الليبرالية محسومة في الغرب منذ زمن
بعيد..
** بالنسبة للجان التحكيم فقط.. وهذه لها حسابات كثيرة
قد تكون في بعض الأحيان سياسية، ولها تحيزات شخصية
وقومية، باستثناء أعضاء لجان التحكيم المصريين، الذين
عادة ما يكونون ضد الأفلام المصرية.
·
وهل يجعلك ذلك لا تتوقع الحصول على
جوائز؟
** لا أتوقع الجوائز أبدا.. ورأيي أن المهرجانات أسواق
توزيع تبيع فيها وتشترى، فهي سوق مثل سوق الثلاثاء..
أما الجوائز فشيء آخر تماما وأهم ما فيها أنها تزيد
مبيعات الأفلام.
·
هل تعتبر فيلمك انتصارا لحرية الإنسان؟
** الفيلم يتناول قيما أهملناها وتناسيناها حتى
نسيناها.. إنه مجرد محاولة للتذكير والتذكر.. فيلم
بسيط يدعوك لأن تتذكر أنك إنسان حر وتحترم الجانب
المرهف فيك، الذي يصنع الفارق بين الإنسان والحيوان،
يدعوك إلى أن تحب الآخرين وتحاول أن تفهمهم وليس أن
تدينهم، أن تكون لك حدود لا تتعداها في التعامل مع
الآخرين، وهى حدود القانون، وأن ترفض بيع نفسك.. هذا
كله نسيناه، والفيلم يحاول أن يذكر الناس بأننا لم نكن
كذلك ولابد أن نعود كما كنا.
·
ماذا تقول عن قضية الرقابة في ظل ما
يتردد عن ارتفاع سقف حرية التعبير؟
** شوف.. لا يمكن أن تكون لدينا صناعة سينما كبيرة في
ظل نوع الرقابة الحالي.. أقصد سينما تغزو العالم.. لأن
الرقابة الموجودة في مصر رقابة على الأفكار، وهناك
مناطق ترفع كما يقولون لافتة "ممنوع الاقتراب أو
التصوير".. تعال نتابع رحلة الإنسان: يولد.. يكبر.. ثم
تحدث له تحولات ويبدأ يفكر في الجنس ثم يمارسه.. من
أول "يمارس الجنس" ممنوع.. لا أقصد تصوير الممارسة
الجنسية على الشاشة، ولكن التعبير عن هذا الجانب المهم
من طبيعة واحتياجات الإنسان.. وهناك مشكلات اجتماعية
ممنوع الكلام فيها، مثل مشكلة الفتنة الطائفية الملحة
الآن.. ممنوع الكلام عنها إلا بالصيغة الإعلامية
المعروفة التي تردد تعبير الوحدة الوطنية.. وعندما
نأتي لموضوع الأديان، نجد أن الكثير من الخطابات
الدينية شديدة التخلف.. ممنوع أيضا الكلام عن ذلك إلا
بالصيغة الإعلامية.. وممنوع الكلام عن العلاقات بين
الأديان، وأقصد العلاقات الإنسانية والاجتماعية وليس
الدينية..
أما في السياسة، فتستطيع أن تنقد التفاصيل، لكن هل
تستطيع أن تنقد نظاما سياسيا كاملا؟ لا.. يمكن أن تصنع
أفلاما دمها خفيف "تلامس" السياسة مثل "عايز حقي"
و"طباخ الريس"، لكن أن تتكلم في السياسة، أن تسأل: هذا
النظام السياسي يعمل لمصلحة من؟ لا.. وأقول النظام،
وليس أن تتحدث مثلا عن "رجل أعمال فاسد"، لأن الظاهرة
متكررة في نظام سياسي واقتصادي معين.. هناك موضوعات
كثيرة ممنوع مناقشتها، حتى علاقة الإنسان بالله
والكون.
·
لكن هناك أفلاما تناولت هذه العلاقة
مثل "بحب السيما" و"بالألوان الطبيعية"..
** أنت هكذا تتكلم في التفاصيل، لكن أساس هذه
الموضوعات ممنوع.. مثلا في "رسائل البحر"، عندما يتحدث
البطل إلى البحر عن الرزق، قالوا لي في الرقابة: اجعله
ينظر إلى أسفل وليس إلى السماء حتى لا يبدو وكأنه يكلم
الله.. ما هذا؟ وماذا سيحدث عندما يتحدث إلى الله بهذا
الشكل؟ أنت عندما تتحدث إلى الله بحدة فذلك معناه أنك
مؤمن.
·
لماذا فيلمك وقد كانت هناك أحاديث من
هذا النوع في أفلام أخرى؟
** أحكى ما حدث معي وليس لي علاقة بغيري.. ولا أعرف
ماذا كانت اعتراضات الرقابة على هذه الأفلام وكيف
أجيزت.
·
هل تعتقد أن هذا موقف شخصي منك، في حين
وافقت الرقابة مثلا على حديث موجه إلى الله ينتهي
بعبارة "أنا مش بحبك.. أنا بخاف منك" في "بحب السيما"؟
** لا..لا.. لكن حتى العبارة التي ذكرتها تمثل رأى كل
الرقباء، فكلهم يخافون الله، وبالنسبة لهم ولكل
المتدينين فإن تقوى الله والخوف منه إيمان وفضيلة..
المشكلة أن الرقابة تتحول بعد ذلك - وهذه هي المشكلة -
إلى صنم داخلك، حيث تبدأ في أن تكون رقيبا على نفسك
بشكل ما.. يجب أن نتحرر.. المجتمع كله، وليس
السينمائيين فقط، لا يستطيع أن يتحرر.. راجع روايات
الجيل الجديد من الأدباء، ستجدها كلها مكتئبة شكاءة
بكاءة وتنطق بالكراهية للحياة.. هذا النوع من الأدب لا
يمكن أن تصنع منه سينما.. هناك اكتئاب قومي كما قال
الدكتور أحمد عكاشة.. في هذه الأجواء لا تستطيع أن
تصنع فنا، لأن الفن لا ينطلق إلا من حب قوى ومتدفق
للحياة، حتى النقد مهما كان قاسيا لا ينبع إلا من حب
للحياة.. لكن الظرف العام بعيد تماما عن ذلك.. البناء
الثقافي هرم يبدأ من التعليم الابتدائي وينتهي
بالثقافة والفن والفلسفة.. عندنا الهرم كله، البناء
كله مخوخ.. في الوقت الذي تعتمد فيه السينما على
الخيال يريدون أن يمنعوا "ألف ليلة وليلة" وهى رمز
الخيال، وإنجاز الشعوب الإسلامية في فترة ازدهار
حضارتها.. هذا غير الرقابة الاجتماعية.. صعب جدا أن
تعمل في هذه الظروف.. أنت تمشى على سلوك رفيعة وتحاول
أن تتوازن حتى لا تقع ولا تتم مصادرة سيناريو فيلمك..
راجع الأفلام الحلوة، الأفلام المهمة التي شاهدتها في
المهرجانات الدولية، وقل لي كم منها نستطيع أن نصنعه
في مصر.. قليل جدا..
نحن باختصار نعيش في جو عام يشعر فيه الناس أن القادم
أسوأ.. فاليوم أسوأ من أمس وغدا أسوأ من اليوم.. وأنا
رأيي أن وظيفة النظام السياسي أن يطرح شعلة الأمل عند
الناس، وهو لا يقوم بهذه الوظيفة، بل لعله يقوم
بعكسها.
·
كلامك معناه أنك غير متفائل على
الإطلاق..
** لا.. أنا متفائل بشكل عام.. متفائل بقدر الجهد الذي
أبذله لتحقيق الأفضل، وأرفض أن يجلس الناس في بيوتهم
ويكتئبون وينتظرون أن يحل لهم غيرهم مشكلاتهم أو أن
يحلها الله.. ربنا يقول "اسع يا عبد وأنا أسعى معك"،
وهناك كما هو معروف فرق بين التوكل والتواكل.. نحن
متواكلون.. لماذا؟ لأن ما أمامنا من صعوبات أكبر من
قدرتنا على الحل.. الطرق مسدودة.. وهذا كله بسبب مناخ
سياسي يمنعنا من الحركة، مثل شخص يقيدك ويعطيك الحد
الأدنى من الطعام.. حسنا.. متى ستفك الرباط؟ إن شاء
الله الديمقراطية ستأتي تدريجيا.. متى سأحصل على طعام
أفضل؟ إن شاء الله سنحسن المستوى.. لكن ماذا تفعل أنت؟
لا شيء.. تحرير إرادة الناس هو الذي يصنع التفاؤل،
وإلى جانب ذلك لابد من تعليم جيد وإعلام آخر مختلف عما
نعايشه حاليا..
صحيح أنهم حاولوا أن يحرروا الإعلام قليلا، لكنه مازال
متخلفا مثيرا للضحك أحيانا.. وعلى سبيل المثال شاهدت
حلقة من برنامج "مصر النهاردة" قدمتها المذيعة منى
الشرقاوي عن الفيس بوك، ولا أصفها سوى بأنها شيء عجيب
وغريب.. قالت مثلا: "يا جماعة احنا مش عارفين مين
بيكنب على الفيس بوك.. ما يمكن حد مش مننا.. وبتوع 6
أبريل اللي كسروا ميدان التحرير".. ما هذا الكلام؟ كيف
يمكن أن نواكب العالم بهذه الطريقة المتخلفة؟ لابد من
تحرير كامل، ورأيي أنه "ما ينفعش" أن تسير أمور
الإصلاح بهذا البطء.
·
فيلمك حصل على منحة من وزارة الثقافة..
هل ترى أن ذلك حل لأزمة السينما؟
** هذا هو الحل الأساسي للارتفاع بمستوى السينما.. لكن
رأيي أن تدعم الدولة ولا تنتج.. تدعم عددا من الأفلام
وكلما زاد العدد كلما كان أفضل.. دعم الدولة يعنى أن
هذه الأفلام لم تكن لترى النور من دون هذا الدعم
لأسباب تجارية.. الأفلام الأكثر فنية تجد فرصة نتيجة
دعم الدولة، الذي أدعو لزيادته، فمبلغ ال20 مليون
جنيه، الذي لا ينتظمون في تقديمه سنويا، أصبح زهيدا
جدا في عالم تمويل الأفلام حاليا..
·
وما رأيك في تجربة الإنتاج الكامل التي
أقدمت عليها الدولة في "المسافر" وحظيت بهجوم شديد بل
واتهامات بإهدار المال العام؟
** أولا: أنا لم أشاهد الفيلم، وبالتالي ليس لي أي حكم
عليه ولا على النتيجة الفنية للتجربة.. قد يكون عظيما
أو متوسطا أو سيئا.. هذا لا يخصني على الإطلاق.. ثم إن
اعتراضي سابق على عمل الفيلم، حيث اعترضت على فكرة أن
تنتج الدولة.. فعندما تنتج الدولة لابد أن يكون لها
استراتيجية.. أن تكون لديها أهداف واضحة تريد أن
تحققها.. هذه الأهداف لا أعتقد أنها كانت موجودة، وإن
كانت موجودة فهي لم تعلن.. ثانيا: هناك إجراءات عندما
تريد الدولة أن تنتج.. ثالثا: بدأ الكلام عن ميزانية
الفيلم حول 9ملايين جنيه، ثم وصل إلى 22 ميلون جنيه
وفق أقل التقديرات، وهذه مهزلة على أي حال وبكل
المقاييس.. مافيش منتج يبدأ ب 9 ملايين ويصل إلى 22
وإلا يبقى خراب بيوت.. والدولة طبعا بيتها مش هيتخرب..
يمكن أن تنتج الدولة في حالات خاصة، فيلم تاريخي أو
حربي أو ملحمي، والدولة ترى أنه موضوع مهم جدا ولن
ينتج حتى بدعم منها.. هذه حالات خاصة وليس نظاما
عاما.. وهذا ليس له علاقة بفيلم "المسافر" الذي لم
يعرض بعد عرضا عاما، بل له علاقة بالكلام النظري الذي
يسبق الإنتاج.. لماذا تنتج؟ ماذا تريد أن تحقق؟ |