هنا أيها القارئ الكريم لن تجد الأسطورة الأشد رواجًا
في السينما المصريَّة مؤخرًا "أسطورة البلطجيّ
والراقصة". ولن تجد أيضًا الأسطورة الأخرى عن المجرم
الخالد الذِّكر -وفَّقْ الله مساعيه- الذي تطالعك به
الشاشات في السينما، وفي التلفاز. ولن تجد ما جرت عليه
العادة في السنوات الأخيرة من أسلحة وذخائر وإطلاق نار
بين الممثلين؛ حتى يأتي البطل الخارق لينقذ الجميع.
تحت توجيه المخرج اللوذعيّ الذي يخرج عليك في الجرائد
ليبلغك بمدى عبقريَّة إخراجه، وكم وفَّقه الله إلى أن
خرج هذا العمل العبقريّ أمام ناظريْك غير المقدِّريْن
للفن الأصيل.
فيلمنا يحكي عن أناس طبيعيين -ليسوا أبطالاً- شغوفين
بالعلم والفكر، مخلصين لأفكارهم وما يؤمنون به،
مستعدين أن يضحوا من أجل هذا. ولا تظن في الفيلم روح
الرتابة، أو أنك ستشعر بالملل خلاله؛ لا .. إنه فيلم
غموض وتشويق وخيال علميّ. الفيلم إنتاج عام 1987م. من
إخراج "كمال الشيخ"، والقصة للروائيّ المصريّ "نهاد
شريف" الذي امتاز إنتاجه القصصيّ والروائيّ بتتبع
الخيال العلميّ. وكتب السيناريو والحوار "أحمد عبد
الوهاب". ومن تمثيل: نور الشريف، جميل راتب، حسين
الشربيني، آثار الحكيم، خالد زكي، وغيرهم.
الفيلم يحكي قصة عدد من الاختفاءات الغريبة التي تحدث
في مدينة "حلوان"؛ حيث فجأةً في أحد الأيام يختفي مريض
من مَشفَى "الدكتور حليم". وتقف أمه أمام باب المشفى
تطلب البحث عن ولدها. في هذا الوقت كان "كامل" (نور
الشريف) الصحفيّ الشغوف بالعلم وتاريخه ومستقبله،
والذي كان يُجري بحوثًا عن تاريخ علم "الفَلَك" في
"مَرصَد حلوان" الشهير؛ كان قد أتى إلى المشفى نفسه
ليزور مريضًا آخر، فرأى الأم وهي تشتكي. ثم يذهب
"كامل" إلى جريدته ليقابل قريبه وهو أحد الصحفيين
المبتدئين والمتحمسين إلى إثبات الذات "فكري" (خالد
زكي). ويجد أن "فكري" يبحث مع رئيس التحرير القضية
نفسها، بل يكتشف أنّ هذا لمْ يكن أول اختفاء يحدث في
هذا المشفى، بل حدث قبله بفترة.
ثم يبدأ هذا الصحفيّ البحث عن الأمر، والاهتمام به
بشدة. ويصرّ على مقابلة "الدكتور حليم" (جميل راتب)،
ولكنه لا يفلح. فيقرر التسلل إلى بيته الملاصق للجبل
ليلاً لاستكشاف الأمر، ومقابلة الرجل. أخبر "كامل" عن
رغبته، وذهب. ثم يكتشف "كامل" في صباح اليوم التالي
أنَّ قريبه قد اختفى هو الآخر؛ ليصبح ثالث قضية اختفاء
تحدث في نطاق المشفى، وصاحبها "حليم". يبدأ في التحري
عن الأمر فيجد إنكارًا من "الدكتور حليم". فيقرر
"كامل" إكمال البحث في الأمر بنفسه للوصول إلى قريبه،
ومعرفة ما يدور في مشفى وبيت "الدكتور حليم". فماذا
سيجد؟ وما حقيقة اختفاء الناس في البيت الجبليّ؟ وأيّ
شيء يحدث لهم؟
يكاد يكون هذا الفيلم من أجود ما أتت به السينما
المصريَّة. ذلك لأسباب منها:
1-
أنَّه فيلم فريد في تصنيفه؛ حيث ينتمي إلى نوع "الخيال
العلميّ". ويكاد يكون الفيلم الوحيد -تقريبًا- في
السينما المصريَّة الذي ينتمي لهذا التصنيف. لا يشاركه
في هذا إلا فيلم آخر هو "الرقص مع الشيطان" -بطولة
"نور الشريف" كذلك-. ولا تندهش من هذه الحقيقة فسينما
العرب قد أضاعت كثيرًا من الوقت والجهد تحت تصنيف آخر
هو تصنيف "اللاشيء"!! وقد يتعجب بعض النقاد من أنه
الفيلم الوحيد بالاشتراك؛ قائلين: هناك أفلام أخرى
تنتمي للخيال العلميّ مثل "رحلة إلى القمر"، "هـ 3"،
"آدم بدون غطاء" وبعض آخر. فأقول: هذه ليست أفلام خيال
علميّ. بل أفلام "خيال" وحسب؛ أيْ بلا دخول في تصنيف
"العلميّ"، كما أنّها تمتاز بالكثير من ملامح
الهزليَّة، وهي من الصنف الجماهيريّ التجاريّ
(باستثناء فيلم "آدم بلا غطاء" من عنصر الهزليَّة
الفارغة). ومن هنا يجب أن يكتسب "قاهر الزمن" أهميَّة
خاصةً في ذاكرة العرب. من حيث هو فيلم "خيال علميّ"
جيد الصنع، غنيّ بالأفكار والمناقشات.
2-
غنى الفيلم بالكثير من الأفكار الهامة التي سيأتي
ذكرها.
3-
قدرة الفيلم على المحافظة على الشقّ الدراميّ، بل
الفيلميّ. من حيث تكوين الشخصيات وخطوط الأحداث، وخلق
روح الغموض والترقُّب طوال الفيلم -تقريبًا-.
تصنيف الفيلم من حيث هو "خيال علميّ" لا يعني أنّه
فيلم علميّ محض. بل يعني قيام الفيلم على دعامة
علميَّة. وقد انتقص الفيلم من ذكر المصطلحات العلميَّة
إلا من نوادر مثل "التشقُّق الخَلَويّ" -قالوها: تشقق
الخليَّة-، ومن التصور الإخراجيّ للمعمل البحثيّ الذي
لا نجد فيه إلا القليل من الموجود في المعامل التي
تطالعنا في الأفلام الغربيَّة. وقد يبدو هذا معيبًا
لكنّ الفيلم استغلّ هذه الدعامة لمناقشة قضايا أشد
فائدةً في حالنا العربيّ. فهو وإنْ كان فيلم خيال
علميّ، إلا أنه -في الحقيقة- فيلم أفكار يحلم بمستقبل
أفضل.
استطاع الفيلم بناء قصة قويَّة البناء، متنوعة
الشخصيات. قادرة بدفعات كثيرة من الغموض والتشويق على
كسر حاجز مشاهدة "الخيال العلميّ" الذي قد تبدو
مشاهدتُه عقبةً أمام بعض المتلقين. لكن هذه عناصر ما
كان لها أن ترتفع بالفيلم إلى هذا الحد من دون
المناقشات القويَّة التي دارت بين جنبات حواراته. هذه
المناقشات حول قضايا في غاية الجديَّة والخطورة صاغها
المؤلف على لسان شخصيات في جو من الغموض الكافي لجذب
انتباه المشاهد.
وأهمّ ما ناقشه الفيلم من قضايا هو:
1-
هل تجوز التضحية ببعض البشر ليولد اختراع جديد؟! وهذه
القضية لها العديد من المناقشات في كتب الأدبيات
العلميَّة، وعلى أقلام كثير من المخترعين القُدامى
والمحدثين. وقد شغلت المجتمع -ومازالت- لأنها على درجة
عظيمة من الخطر. فتخيَّلْ أن شخصًا يضرّ بك، أو قد
يُوْدِي بك إلى الموت حتى في سبيل إنجاز علميّ
للبشريَّة؛ ولتسألْ نفسك ساعتها: هل سترضى بذلك؟ ونرى
في الفيلم هذه القضيَّة تطرح بين وجهتَيْ نظر: وجهة
نظر العلم البحتة "الدكتور حليم" وهو يؤيد بذل بعض
التضحيات في سبيل نفع المجموع، ووجهة نظر الإنسان
"الصحفيّ كامل" وهو يقول إن حياة بشريّ واحد تساوي ألف
اكتشاف علميّ.
2-
مواجهة الرأي العامّ باكتشافات قد تصدم المجتمع، وقد
تسبب مشكلات في نظر بعض قِيَمه. وقد وقف مجتمعنا
كثيرًا بعد الفيلم بسنوات أمام مثل هذه القضيّة. مثل
المناقشات الواسعة حول قضيّة "الاستنساخ"، و"زراعة
الأعضاء" التي شغلت حقبة العقد الأول من الألفيَّة
الحالية. لكنّ فيلمنا لمْ يخترْ موقف العنتريَّة
الزائفة التي تبدو في كثير من الأفلام بلا داعٍ فيما
يشبه الحفر في البحر -كما يُقال-. بل اختار الجانب
الصحيح من المعالجة وهو جانب المجتمع نفسه. عن طريق
مراعاة قِيَمه وخلفياته، والقيام بتوضيح الأمر له؛ من
أنّ هذه الاكتشافات لا تحيي أحدًا طالما لمْ يمُتْ
إنها فقط تقوم بدور الوسائل لغايات أسمى وأشد إفادة
للمجتمع. وهنا طرح قويّ لقضيَّة (المسئوليَّة
الاجتماعيَّة للعلم). ولا أعتقد -على حد العلم- أن
فيلمًا عربيًّا قد قام بهذا في عُمق كمثل هذا الفيلم.
وقد امتاز إخراج الفيلم في عدد من المحاور لكنّ أهمها
-دون كشف للأحداث- هو الأداء المتوازن لإيقاع الفيلم.
حيث جاء مُعتدلاً غير متسارع وغير متباطئ. فالمخرج قد
حافظ على لحظات الغموض من أول الفيلم في أداء مُتنامٍ
حتى تصل إلى درجة الاختمار الأولى. وعندها يبدأ البطل
في التدخل بنفسه في قلب الأحداث؛ عندما يقرر الذهاب
إلى بيت الطبيب باحثًا عن قريبه. ثم تحدث بعض الأحداث
الشيِّقة، التي توقف سيل الغموض قليلاً، ثم سرعان ما
يعود الغموض مسيطرًا على الجو العامّ. وعندما يتضح
للبطل ملامح ما يحدث جميعًا يعود التشويق إلى الظهور
مرةً أخرى؛ فالكل ينتظر ما ستكشف عنه تلك التجربة التي
ستغيِّر تاريخ البشريَّة من وجهة نظرهم. وقد كان هذا
أهمّ ما يمكن للمخرج فعله حتى يحتفظ للفيلم بأداء عامّ
متوازن، وحتى يضمن التأثير في المشاهد، والاحتفاظ
بانتباهه إلى آخر تجربة المشاهدة.
جاء الأداء التمثيليّ جيدًا ومتوازنًا. إلا أن
الامتياز الأكبر والأشد بروزًا كان للممثل المبدع
"جميل راتب" في دور "الدكتور حليم"، ثم نجد أداء جيدًا
من الأستاذ "نور الشريف"، وأداء به بعض المبالغة
التمثيليَّة من "آثار الحكيم".
مثل هذه التجارب هي التي تبني وعي المجتمع، وتحقق
الهدف الأكمل من الفنّ -عمومًا-، والفنّ السينمائيّ
-على الخصوص-. هذه هي التجارب التي يجب أن يتبناها
صانعو الأفلام العرب، بدلاً من إضاعة الوقت في
"اللاشيء"، وإغراق المجتمع في سلبيات لا يمكن الخروج
منها. فلنُصفِّقْ لهؤلاء المبدعين، فلنحترمْ تلك
النماذج المشرقة من تاريخ السينما العربيَّة. |