يصور الفيلم فترة حرجة وحساسة في حياة إمرأة ورجلان (وهو ما تشير إليه
معلقة الفيلم)، وهي فترة طلاق المرأة من أحد الرجلين واستعدادها الزواج من
الثاني. وإذا علمنا أن الرجلين لهما أصول ثقافية "شرقية" والمرأة فرنسية
تعيش غير بعيد عن باريس وتعمل فيها فإنه يمكننا تصور حجم التزاحم النفسي
والثقافي والحضاري فيما بينهم. وحتى يكون التشويق والقبض على أشدهما عمل
أصغر فرهادي من خلال سيناريو جيد الصياغة على تجميع هذين الرجلين والمرأة
في بيت واحد وهو بيت هذه الأخيرة.
وفي الحقيقة كان هناك رجل ثالث في حياة المرأة الفرنسية، وهو الزوج الذي
أنجبت منه ابنتيها اللتين بقيتا معها بعد ذهاب الأب للعيش في "بروكسال"،
وكان لشخصية البنت الكبرى حضور فاعل في الفيلم، بحيث استحضرت الأب الغائب
وعبرت عن تمردها على أمها التي تعددت زيجاتها وطلاقاتها. ومن جهة أخرى
تسببت الفتاة "لوسي" في تعقيد الأمور أكثر في علاقة أمها بعشيقها وذلك
بسعيها إلى إخبار زوجته بالعلاقة التي تربط بينه وبينها.
من جهة أخرى كان لهذه المراهقة وأختها والطفل "فؤاد" ابن العشيق أهميتهم من
حيث التعبير عن أزمة الأبناء من خلال عدم استقرار الآباء عاطفيا وأسريا.
و"فؤاد" جاء إلى البيت بعد أن غادرت أمه إلى المستشفى على أثر محاولة
انتحار ليست دون صلة بأحداث الحكاية. ومع الأيام بات البيت الثاني أحب إلى
الصبي من بيتهم الأول لأنه وجد فيه الفتاة الصغيرة "ليا" التي بات يذهب
معها إلى المدرسة وحين يعودان يمرحان ويستأنسان.
لما وصل الزوج القادم من طهران، بعد غياب دام أربع سنوات، نكره الصبي خاصة
وقد أجبره حضوره على تغيير مكان نومه. وتفاجأ "أحمد" الزوج، بوجود الطفل
وأبيه في البيت، ووجد فيه احراجا افتعلته الزوجة لتغيظه.
في الغد، يوم الطلاق، علم أحمد من زوجته أنها حامل، فأحس أن حملها هو نوع
آخر من ابتزازه ووضعه أمام الأمر الواقع.
تفاعلات هذا الحمل لن تتوقف عند هذه الرمزية الإنشائية وإنما سوف تتفاقم
مع البنت المراهقة "لوسي" التي ما أن علمت به حتى كشفت عن كثير من الأسرار
الخافية على القادم من طهران.
هذه الأحداث المتواترة والمشحونة عاطفيا ونفسيا كانت تأتينا منجمة في توليف
دقيق نتعرف معه على خفايا شخصيات الفيلم الرئيسية والثانوية. فإلى جانب
الزوجة وابنتيها، والزوج "أحمد" العائد من طهران، والعشيق "سمير" وزوجته
الراقدة في المستشفى وابنيهما، نجد شخصية الايراني، صديق أحمد، وهو رجل
يدير مطعما في باريس ومتزوج من سيدة فرنسية هي الثانية بعد زواج أول تكلل
بالفشل. هناك أيضا شخصية العاملة بشكل غير قانوني في محل "سمير" لتنظيف
الملابس، وهذه الشخصية الثانوية أدخلها فرهادي ضمن شبكة تداخل العلائق
والعواطف في الحكاية وأناط بها دورا مهما في فك عقدة الفيلم.
وأصالة الشخصيات وقوتها هي من امتيازات أصغر فرهادي، فشخصياته، رغم
واقعيتها، لا تجيء منغمسة في الواقع بحيث تفقد استقلاليتها أو تصبح مبتذلة،
فالقيم الأخلاقية والمميزات الانسانية هي سمات شخصيات أصغر فرهادي كلها،
الرئيسية منها والثانوية، فالبطلان "أحمد" و"سمير"، كلاهما يتميزان بقيم
وسلوكيات فيها الرحمة والحب، وقد قالت البنت "لوسي" في حديث لها مع "أحمد"
متحدثة عن "سمير": "هل تدري لماذا اختارته أمي؟... لأنه يشبهك".
ونوع التزاحم والمواجهة بين طرفي الصراع في فيلم "الماضي" نجده في كل أفلام
أصغر فرهادي، فالصراع عند فرهادي لا يتم بين طريفين مختلفين، بحيث يكون
أحدهما ممثلا لقيم الخير والآخر ممثلا للشر، بل إنه صراع بين طرفين يمثل كل
واحد منهما عددا من قيم الخير. أما بالنسبة لدواعي الصراع فهي مرتبطة
بتناقضات الوجود الإنساني وكونه معقدا حد الصراع، وسببه أيضا تعلق الانسان
وارتباطه ببعض القضايا الحياتية اليومية التي تتملكه ولا ينجح دائما في
التحرر والفكاك منها. هذا بينما يكون الحل سهلا يسيرا، وهو بالنسبة
لـ"أحمد" مرهون بالابتعاد عن باريس حيث قال له صديقه الإيراني "شهريار":
"إنك لم تخلق لهذا المكان" ودعاه إلى ضرورة "القطع" عندما لا تسير الأمور
كما نريد.
في موضع آخر من الفيلم أشار الصديق الإيراني إلى بساطة مبررات اللقاء وفظ
الخلافات حيث قال إنه وزوجته الفرنسية تفاهما ولم يفترقا لتشابه ألوان علمي
بلديهما. إنه المبرر البسيط للقاء عندما يفتح الانسان عينيه على الواقع
الحقيقي.
وفي ظل هذه النظرة المختلفة بعيني أصغر فرهادي، فإننا وعلى الرغم من فشل
الزوج القادم من طهران في علاقته مع زوجته "ماري بيار"، فإننا نحس أنه ليس
فاشلا إنسانيا، وذلك حين نتحسس عطفه عليها هي بالذات منذ اللقاء في المطار،
بعد ذلك عندما علم بأنها على علاقة برجل ثان وتعرف على ولده، كان رؤوفا
بهذا الولد وبدا تصرفه معه تصرفا أبويا، كما أن علاقته ببنتي زوجته كانت
علاقة أب ببنتيه. وفي عدة مناسبات كانت الأم حين ينقطع معها حبل الحوار مع
ابنتها الكبرى تطلب منه التدخل لأنها، حسب قولها، تثق برأيه. وعندما خرجت
الزوجة للعمل يوم وصول "أحمد"، قام هذا الأخير صحبة الأطفال بالتسوق ثم
اعداد وجبة لذيذة للعشاء لجميع أفراد الأسرة. لم نكن نتابع كل هذا دون
انفعالات أو كظم للغيظ، ولكننا كنا نراه ونحسه.
هذه الانسانية رأيناها أيضا في "سمير" العشيق أو الزوج المرتقب، فهو خدوم
وكريم ومسؤول مثل "أحمد". في إحدى مشاهد الفيلم رأينا كيف أن سيارته كانت
مع عشيقته "ماري بيار" بينما قام هو بالعودة مع ابنه فؤاد إلى باريس في
الميترو. والأهم من ذلك كله قيامه بطلاء البيت وإعادة تأثيثه بنفسه وذلك
رغم حساسيته من مواد الطلاء ومتابعته في ذات الوقت عمله في محله لتنظيف
الملابس.
بالنسبة لـ"ماري بيير" "الزوجة" كان تعاملها مع "فؤاد" ابن سمير، لا يختلف
عن تعاملها مع ابنتها الصغرى "ليا". من جهة أخرى ورغم غيرتها، بسبب سلوك
سمير الرحيم بزوجته طريحة الفراش، فإن ذلك لم يجعلها تنفعل أو تقطع معه.
وبسبب هذا العمق الانساني في شخصيات أصغر فرهادي فإن المتابع لأفلامه لا
يخرج منها مكروبا بسبب كره أو نفور من هذه الشخصية أو تلك، وإنما يغادر
القاعة، على الرغم من حجم الصراع والقبض والبسط الذي يسود أفلامه، خفيفا
صافي القلب لا يحمل أي عداء أو ضغينة لأي من شخصيات الفيلم وما يمثلونه من
اصطفافات أيديولوجية أحيانا.
وهنا نأتي إلى الحديث عن مصادر الضغط والانفعال في فيلم أصغر فرهادي،
ونلاحظ أنها ليست مرتبطة فقط بالحكاية وشخصياتها وإنما تتعلق في كثير من
الأحيان بالتفاصيل والحيل الفيلمية. فمثلا البيت الذي التقى فيه الجميع لم
يكن بيتا عاديا، فمع كونه "البيت المشكل" الذي عاش فيه الزوج الأول ويعد
لاستقبال الزوجين الجديدين، لا يكتفي فرهادي بهذا فيتحرك على مستوى
التفصيل، فيجعل البيت عبارة عن ورشة طلاء وإعادة تأثيث، فالأبواب والجدران
لازال طلاؤها رطبا، ورغم تحذير الزوجة لأحمد فقد أصاب بعض الطلاء قميصه. ثم
حدث أن قلب الولد "فؤاد" الطلاء على الأرض وباتت حركة مستعملي البيت محكومة
ببقعة الطلاء التي اتفق أن كانت في البهو أمام باب الدخول والخروج.
وهذه التفاصيل المحدثة للشد والقبض، والتي هي عبارة عن دراما ثانوية، تملأ
الفيلم من أوله إلى آخره.
فمنذ وصول الزوج إلى المطار كنا على موعد مع هذه الدراما الثانوية ومع
الضغط، حيث تأخرت حقيبته واضطر إلى مغادرة المطار بدونها، بعد ذلك عندما
التقى زوجته انتبه إلى أنها تضع جبيرة في يدها وأخبرته أن السبب نقص
الكالسيوم لديها، تلاها طلب الزوج أن يقود عنها السيارة، عندما رفضت وأرادت
مغادرة الموقف لم تتريث وكادت أن تصدم السيارة التي خلفها. بسبب هذه
التفاصيل التي لم تدخل بنا بعد إلى صلب الموضوع أمسينا بلا شك على أعصابنا.
هناك أمثلة أخرى، فمن المطار في طريقهما إلى البيت مر الزوجان بالمدرسة
لأخذ الأطفال، توقفت الزوجة في مكان ممنوع فظهرت شرطية فجأة وكانت تريد
تسجيل مخالفة لولا نزول الزوج من السيارة وقيادتها بعيدا. عند الوصول إلى
البيت حدثت المشكلة مع فؤاد الذي قلب سطل الدهن ثم جرى إلى الشارع قائلا
أنه يريد العودة إلى بيتهم، ولما لحقت به "ماري بيار" وأمسكته بيدها
المصابة وعادت به، كان تأثرنا مضاعفا لأن الطفل كان يقاوم بعنف ولأن يدها
في الجبيرة.
بعدها، عندما غادرت الزوجة إلى العمل ووجد الزوج نفسه وحيدا مع فؤاد والبنت
"ليا"، وبينما هو يشوي لهما الذرة بهدف تهدئتهما وخلق جو حميمي، كان الطفل
فؤاد يقص إحداها، بعيدا عن نظر "أحمد"، وكان يستعمل سكينا بعنف والدم يسيل
من إحدى يديه. بعد ذلك وفي لقاء الرجلين في البيت كان هناك كثير من هذه
التفاصيل التي سميناها دراما ثانوية والتي تشحن الأجواء. أول لقاء لهما كان
في الصباح، في المطبخ، وقت الفطور والكل مجتمعون، فبينما كان "أحمد" يصلح
بالوعة الماء ويداه ملوثتان دخل "سمير" ومد إليه يده ليصافحه إلا أن الأول
أشار إليه بتلوث يده ولم يصافحه فاستعاد سمير يده المعلقة، وأحسسنا وكأن
الأول افتعل ما فعل.
في مشهد آخر في الليل وأثناء هطول المطر وتأخر البنت "لوسي" عن العودة إلى
البيت، وبعد صمت مطول بين الرجلين المنفردين في المطبخ، غادر "سمير" إلى
غرفة الأغراض القديمة ليطفئ ضوءها الذي تركه "أحمد" مشتعلا، فجاء سلوكه ذاك
وكأنه يوجه إليه لوما لم يبح به لسانه.
نرجع إلى حقيبة أحمد التي بقيت في المطار، لقد وصلت متأخرة، وتسلمها سمير
لأنه كان في البيت، ولكن هناك تفصيل مهم وهو أن الحقيبة وصلت مفتوحة ولم
يدري سمير إن كان عليه أن يقبلها أم يردها.
الحقيبة المفتوحة سوف تسبب إزعاجا آخر في المحكمة حين يطلب سمير "ماري
بيار" يستشيرها إن كان عليه أن يقبل الحقيبة لأنها مفتوحة أم يردها، رنة
محمول "ماري بيار" اتفقت مع تواجدها أمام القاضي والمحامية ما تسبب لها في
إزعاج وإحراج حقيقيين.
نفس مشكلة تفصيل الحقيبة المفتوحة ترجع إلينا ثانية عندما أراد "أحمد" أن
يقدم الهدايا للطفلين "ليا" و"فؤاد"، حينئذ رفض سمير أن يتسلم ابنه هدية
لأنه عبث بالأغراض التي في الحقيبة بحثا عن الهدايا التي فيها، وعندما برر
"أحمد" موقف فؤاد والبنية بأن الحقيبة كانت مفتوحة أصلا، قال سمير بأن
فؤاد لم تكن له هدية في الحقيبة، فأجابه "أحمد" بأنه لم يكن يعلم بوجوده
فاشترى له هدية من باريس. كل هذه التفاصيل التي تخلق التجاذبات التي أخذت
حيزا مهما من الفيلم كانت تأتي من خارج المواجهة التي ننتظرها وحتى من خارج
كنه شخصيات الحكاية، ولكنها كانت مهمة جدا في شد المشاهد وتصوير جو الفيلم
المتوتر والضاغط جدا.
كانت هناك تفاصيل أخرى من خارج الحكاية أيضا، وهي فنية وصوتية هذه المرة،
ولها أهميتها أيضا في صنع تلك الأجواء، إنه صوت المطر المتساقط بقوة، كانت
المطر ليلة اختفاء البنت "لوسي" قوية، وبسبب الاضطراب الذي ظهر على كل
الحاضرين، فقد كثر فيها خروج الرجلين والمرأة ودخولهم مبللين. وعندما غادر
أحمد في هذه الظروف المتوترة وحيدا لاستجلاب الفتاة من عند صديقه "شهريار"
تم ذلك تحت المطر حيث لم يسعفه الحظ للظفر بتاكسي.
في حديثنا عن جماليات الفيلم نحب أن نشير إلى نجاح أصغر فرهادي كالعادة في
حسن إدارة ممثليه الصغار منهم والكبار، أداء أبطال الفيلم الثلاثة كان
طبيعيا ومبدعا، والكاستينغ كان موفقا جدا، أداء البنت "لوسي" بدى أحيانا
مبالغا فيه ومفتعلا.
من جهة أخرى، استعمل أصغر فرهادي بعض جماليات باريس، ولكن ليس باريس
المجردة والمثالية كما في فيلم "وودي ألان" "ميد نايت إن باريس" (باريس في
منتصف الليل)، جاءت صورة فرهادي عن باريس واقعية جدا وربما تعكس زمن الأزمة
الاقتصادية، فهي "باري دون با" أي باريس الدنيا وأجواء "البون ليو" أي
الأطراف والضواحي.
بالنسبة لتصميم الصورة، اختصر فرهادي على المتاح والممكن ولم يستنزف
ميزانية كبيرة، وتمكن رغم ذلك من إعطائنا صورة جميلة استغل فيها كل
امكانيات المكان الضوئية والصوتية مع ندرة الأولى وتدفق الثانية، لذا لم
يبذر المخرج في استعمال الموسيقى التصويرية، فأحيانا كان يستغني عنها بصوت
السيارة وأحيانا بصوت الميترو وأحيانا كثيرة بصوت المطر. في إحدى المناسبات
أسمعنا حتى صوت الفوانيس الكهربية وسمير ينقلها من محل "الأنتيكا" إلى
البيت، سمعناها في الطريق عندما كان مترجلا وعندما استقال السيارة. هذا مع
تحفظنا على صفاء صوتها بسبب ابعاد ضجيج المدينة والسيارة في المونتاج.
في اختصاره لاطار الصورة اعتمد فرهادي سواء في مشاهد الداخل أو الخارج، عدى
بعض الاستثناءات عندما أرانا البيت أول مرة من بعيد، اعتمد فرهادي،(لأسباب
فنية وانتاجية أيضا)، على "الكلاوز آب"، وحتى مشاهد باريس رأيناها ضمن هذه
اللقطة القصيرة، وأجواء المكان العام تابعناها ضمن ما تبقى لنا من مساحة
خلفية وعمق الصورة.
ضمن سيناريو جيد الكتابة محبوك النسيج وضمن شخصيات مفعمة بالانسانية رغم
واقعيتها وخلفيتها الفرنسية، وضمن حركية ودينامية فيلمية لا تنضب طاقتها
بسبب زخم التفاصيل المثيرة والمشوقة، وفي إطار صورة جميلة تعددت فيها
الزوايا رغم اختصارها على اللقطات القصيرة والمتوسطة، ومع أداء تمثيلي
تكامل مع أسلوب وروح الفيلم، جاء "الماضي" لأصغر فرهادي جميلا ومؤثرا بحيث
قال مرافقي إلى قاعة سينما الشاطئ بمسقط: "لقد جعلنا الفيلم نعيش توترات لا
تتوقف ولكنه في الآخر أعادنا مخففين متصالحين مع أنفسنا".
محسن الهذيلي
http://betweenkairouanandkyoto.blogspot.com
سينماتك في 18
فبراير 2014
|