(هذه ترجمة لمقالة نشرها المخرج والناقد السويدي
ستيج بيوركمان في مجلة "شابلن" السويدية)
يقول المخرج في فيلم إنجمار بيرجمان "بعد
البروفة":
"أعشق الممثلين. أحبهم بوصفهم ظاهرة، أشخاصاً
استثنائيين. أحب مهنتهم. أحب شجاعتهم. أحب بغضهم للموت. أفهم نوازعهم
الهروبية. أيضاً صدقهم القاتم الموجع. أهيم بهم حين يحاولون التلاعب بي.
أحسدهم على سذاجتهم وذكائهم الحاد. ولأني أعشق الممثلين، فإنني أبداً لا
أستطيع أن أجرحهم وأسئ إليهم".
* * *
الممثلون يختلفون عن الآخرين.
إنهم لا يبدون حقيقيين. وهم بالطبع يشبهونك ويشبهون العديد من الأفراد، لكن
في الوقت ذاته يتعذّر الوصول إليهم والإمساك بهويتهم. إنهم هناك، في مكان
ما.. ناءٍ وبعيد: على خشبة المسرح حيث يؤدون عملاً دراميا أو يرفّهون عنا
بعمل كوميدي، أو ينتقلون إلى الشاشة – الموقع الأكثر بعداً – ليظهروا في
أشكال متضخمة حيناً، وضئيلة حيناً.
هذا يتماثل مع ما نحس به، نحن
الذين نؤدي أدوارنا الخاصة كل يوم، حين ننظر إلى ذواتنا في الصور
الفوتوغرافية. في بعضها نشعر بأننا أكثر حقيقية وأكثر ذاتية، بلا تكلّف ولا
زيف. وأخرى ننظر إليها بلا اكتراث وبغطرسة، فنتجاهل الصور أو نرميها
جانباً.
الممثلون مرغمون على القيام
بمجابهات مشابهة في آلاف المشاهد والصور. عمل الممثل (أو الممثلة) يفضي إلى
تحقيق التطابق مع الدور. معيار مدى نجاح هذه المحاولة يمكن أن يتأثر ببواعث
اعتباطية كتلك التي تحثنا على إيثار صورة معينة لجواز السفر دون غيرها. ذلك
لأن الممثل لا يستطيع أن يجني فائدة من جهوده إلا حين يلتقي بالجمهور حيث
يواجه توقعات المتفرج وأهواءه وتحيّزه وأحكامه المسبقة ومطالبه أو إعجابه
الذي يبديه بلا تردد أو مناقشة.
الممثل يلج دوره، يغيّر الشكل
والمظهر. يوماً يكون بطلاً، في اليوم التالي يصبح شريراً. ولا واحدة من هذه
الأدوار تتطابق مع ذات الممثل الحقيقية.
الممثلون يبتكرون النماذج من أجل
مخيلتنا، لتغذية مخيلتنا. لكن أكثر وظائفهم حيوية عندما يكونون أداة لإثارة
وتحريك مشاعرنا، تحريك الرغبات والعواطف والأهواء والميول العدوانية، كل
درجات الألم والمتعة. إنهم يفسروننا ويترجموننا، يمارسون الإغواء لإدخالنا
في عوالم يمكن أن تكون هي أحلامنا الخاصة.
أساس وجود الممثل متقلقل ومشكوك
فيه، ذلك لأن هذا الوجود يستدعي مشاركة الجمهور الذي يتألف من أشخاص متعددي
الطبيعة والتوجه والأهواء. التآلف باستمرار مع مطالب هذا الجمهور لابد أن
يشكّل تحدياً، وبالدرجة ذاتها، يكون محفوفاً بالمخاطر.
لكن استجابةً لتوق مبهم وسرّي،
أو لقوة إلزامية، فإن الممثلين يكشفون أنفسهم لهذه المجازفات المرّة تلو
الأخرى. بعدئذ يغادرون الأستوديو أو خشبة المسرح ليمارسوا حياتهم اليومية
مثلك أو مثلي. لكن العديد من الناس لا يعتقدون ذلك بل يفترضون بأن الممثلين
والممثلات، حتى في حياتهم الخاصة، يستمرون في تجسيد أحلامنا بحياة أخرى.
حتى في حياتهم الخاصة لا يتاح لهم بأن يكونوا أنفسهم، أي أن يكونوا
حقيقيين. أفعالهم الشخصية من المفترض أن تكون مكشوفة أمام تحديقة وانتهاك
الناس مثلما هي أماكنهم في الأعمال السينمائية أو المسرحية.
وسائل الاتصال والإعلانات
التجارية تفعل ما بوسعها لإقناعنا بمكانة الممثلة أو الممثل بوصفه الشخص
المصطفى الجدير بالحسد والافتتان.
الممثلون والممثلات غير مسموح
لهم بأن يكونوا مثل الآخرين.
* * *
في فيلم الإيطالي إيتوري سكولا
"نحن جميعاً أحببنا بعضنا البعض كثيراً"، ذو الطابع النوستالجي والكوميديا
الإنسانية، ثمة العديد من الإشارات إلى أحد المشاهد في فيلم فيتوريو دي
سيكا "سارقو الدراجة". أحد الشخصيات الأربع الرئيسية في فيلم سكولا، المدرس
نيكولا المدمن على مشاهدة الأفلام، يشترك في مسابقة، وعندما يسألونه عن سبب
بكاء الصبي (في: سارقو الدراجة) على نحو فاجع في أحد أكثر المشاهد
السينمائية تحريكاً للمشاعر، فإن المدرس يقدم تحليلاً مطولاً عن مهارة دي
سيكا كصانع فيلم، ويؤكد على براعته في التعامل مع الممثلين الهواة. بعد ذلك
يرجع سبب بكاء الصبي إلى أن دي سيكا قد دسّ بعض السجائر في جيب سرواله
القصير ثم اتهمه ظلماً بأنه سرقها، وذلك لكي يحصل منه على الانفعال ومن ثم
البكاء الذي يحتاجه للمشهد. لكن السائل يرفض إجابة المدرّس، الذي يحتج
بعنف، ويخرجه من المسابقة موضحاً بأن الصبي كان يبكي لأن والده في الفيلم
تعرّض للاعتداء والإذلال بعد أن حاول سرقة دراجة.
لقد أساء المدرّس فهم السؤال،
وخلط بين المنهج والمحتوى. في الحكم على أداء ممثل هناك عادةً مجال ضئيل
جداً للتحليل التصنيفي للمناهج. إن النقاد والجمهور - على حد سواء –
يفترضون، بشكل عام، في محاولات الممثل مع نفسه والدور أن تكون مركّبة من
أجزاء متساوية من الحدس والإلهام. إن ثمرة تأمل الممثل للدور غالباً ما
توصف بكليشيهات مشبّعة عاطفياً.
إجمالاً، هل يمكن تحديد قيمة عمل
الممثل؟ إن كيفية توصّل الممثل إلى تحليله للدور، ونموذجه البدئي للشخصية،
يظل في أغلب الأحوال سراً مصوناً. إما أن يلتزم الصمت بشأن أدائه، أو
يستهين به، وغالباً ما يبدو أن هناك نوعاً من الميثاق غير المعلن، رغم أنه
واضح، بين المؤدي والمخرج.. الميثاق الذي يكفل الحماية من الفضول العام.
الممثل يعير نفسه للآخرين، ويمنح
نفسه لنفسه.
* * *
لا أزال أذكر جيداً الحدث بأكمله:
المشهد يدور في مقهى صغير بوسط ستوكهولم، وكنا
نصور أحد المشاهد الأخيرة من فيلمي "الجدار الأبيض"، في يوم سبت بارد وكئيب
من شهر مارس 1974. لم يكن الموقع مزدحماً، كنا فقط نحن فريق العمل مع بعض
الكومبارس والممثلة هارييت أندرسون وشريكها الممثل.
كانت درجة حرارة هارييت مرتفعة، تبلغ 39 درجة.
وعندما اتصلنا بها في الصباح الباكر مقترحين تأجيل تصوير المشهد إلى يوم
آخر، رفضت هي ذلك بإصرار، فقد كانت تنتمي إلى تلك الفئة من الممثلين الذين
يلتزمون، في عناد وصرامة، بالمواعيد واحترام العمل. إنها مثال حيّ للممثلة
التي تؤمن بأن "العرض يجب أن يستمر" مهما كانت الظروف.
المشهد الذي كنا على وشك تصويره لم يكن صعباً
ومعقداً. شخصان جالسان في مقهى، والكاميرا تصورهما في لقطة عامة، لقطة
متوسطة، لقطة قريبة. المرأة تتحدث والرجل يصغي. مونيكا (هارييت أندرسون)،
الشخصية الرئيسية في الفيلم، ربّة بيت مطلقة، مكبوحة وعاجزة عن الإفصاح عن
مشاعرها، وهي للمرة الأولى منذ زمن طويل تلتقي بشخص معه تجرؤ على الكلام،
على نحو لائق، وفي أمور شخصية جداً.
في ما يتعلق بالحوار، المشهد قاس جداً ويتطلب
عناية وبراعة فائقة. وقد آثرت أن أصور اعتراف مونيكا في لقطة قريبة طويلة
بحيث لا شيء يعوق أو يشوش صورة وجه الممثلة في المونتاج، وكان يتعيّن على
هارييت أن تحفظ الكثير من الحوار عن ظهر قلب.
جرى الاستعداد لتنفيذ المشهد كما هو معتاد: تضبيط
الإضاءة، الإشراف على المكياج، ضبط البعد البؤري، ثم تركيز تام. صمت.
كلاكيت. أكشن. وتبدأ هارييت (أي مونيكا) في الكلام، واثقة أمام زميلها
الممثل كما هي أمام الكاميرا.
إنه تذكّر مأساوي ذلك الذي تستحضره. هي تخبره عن
المرة الأولى التي غادرت فيها بلدتها في شمال السويد متجهة إلى العاصمة
(ستوكهولم) وكيف أنها، أثناء انتظارها لقطار آخر في بلدة ريفية، قامت
بزيارة قبر حبيبها السابق الذي مات مؤخراً في حادث سيارة لكنها تشعر في
قرارة نفسها، وعلى نحو غامض، بأن الحادث كان انتحاراً.
فجأة حدث شيء استثنائي وملفت للنظر جعلني أشعر
بجفاف في حلقي، واغرورقت عيناي. الصفحات الثلاث أو الأربع من النص تحولت في
فم هارييت إلى تجربة حية وذكرى شخصية. لم يعد النص ينتسب إلىّ، فقد انتزعته
مني هارييت واحتلته، وفي الوقت ذاته، نقلته إلى مونيكا. التفاصيل في
المونولوج انتحلت توكيداً وقيمةً ومدلولاً غير متوقع. كل شيء كان حقيقياً
وثابتاً: التأجج، البحث اليائس عن القبر، الألم المبرّح، الوجع.
الدموع أخذت تسيل على خدّيّ هارييت فيما هي تحاول
النفاذ إلى ذكريات مونيكا قبل عشرين سنة ربما، ذات يوم صيفي دافئ. والمشهد
أثّر فينا جميعاً بقوة وعمق.
عندما انتهى التصوير، وخفّ التركيز، وزال التوتر،
عانقت هارييت ثم استدرت لأقول شيئاً لملاحظة السيناريو لكنها كانت قد
اختفت، رغم أنها لم تكن تغادر مكانها على الإطلاق. بعد دقائق عادت حاملة
باقة كبيرة من الزهور قدمتها إلى هارييت باسم الفنيين الذين شعروا بامتنان
بالغ للحالة الفريدة والإعجازية التي عاشوها بفضل أدائها.
كيف حدث كل هذا؟ لا أعرف. لم أطّلع على نسخة
هارييت من السيناريو لأرى كيف نظمت ونسّقت إيقاع المونولوج أثناء الحفظ.
ثمة بالطبع تقنية واعية تدعم وتوطد الشيء برمته. لكن وراء نطاق ذلك، أعتقد
أن هناك شيئين يحتاج إليهما الممثل: الثقة والحب.
الثقة بالمادة التي يتعامل معها الممثل، والثقة
بالأفراد الذين يعمل معهم. والإدراك بأن ما ينقله الممثل، عارياً وصادقاً،
سوف لن يتعرض للتحريف والتشويه في مرحلة تالية من عملية الخلق.
الحب يوجد في علاقة الممثل بالكاميرا. بعض المؤدين
– وهارييت من ضمنهم – يباشرون مصاهرة جديدة في كل مرة مع هذه الآلة
السحرية. إنه نوع من الغزل المنظم والمحفوف بالمخاطر، حيث الأعين تبحث
للاقتراب بخطورة من الإطار الداخلي للكاميرا، الحد الأكثر طبيعية لتحديقة
الممثل. ربما في أفلام جودار فقط يتاح للممثل أن ينمّي علاقات، مفعمة أكثر
بالمجازفة، مع عين الكاميرا.
إذن على أي أساس ينبني فن التمثيل؟ الملاحظة ربما.
مثلما ننظر إليهم – على الخشبة أو الشاشة – ونتعرّف في تمثيلهم، أسلوبهم في
الأداء، على سمات من ذواتنا، فإن الممثلين أيضا قد رصدونا ذات مرة من نقطة
المراقبة. لقد دوّنوا ودرسوا وجمعوا ملاحظاتهم في مخزون الذاكرة التي منها
يمكن في ما بعد أن يلتقطوا حركة نموذجية أو إيماءة وجهية ليستفيدوا منها في
التشخيص التالي. ذلك يشبه إخراج الساحر أرنباً من قبعته.. إنه يبدو فعلاً
بسيطاً جداً، لكن في الوقت ذاته هو محيّر ومتعذّر تفسيره.
* * *
ما يميّز علاقة إنجمار بيرجمان بممثليه هو، قبل كل
شيء، الاحترام والثقة. يبدو أنه يعرف جيداً كيف يخلق باستمرار عالماً
محكماً من الأمان للممثلين أينما كانوا، سواء في الأستوديو الوضاء الحار أو
في موقع صاخب حيث يحتشد حولهم متفرجون فاغري الأفواه.
ثمة العديد من الصور الفوتوغرافية التي تُظهر
بيرجمان جالساً وسط الممثلين، واضعاً على أكتافهم ذراعه الرحيمة، الحنونة،
كنوع من الحماية. إنه يخلق لهم واحات دافئة وسط فوضى تصوير الفيلم. بألفةٍ
ومودةٍ يوجّه لهم النصيحة أو كلمة تشجيع هادئة. بيرجمان يبني صوراً دقيقة
جداً للممثلين في كل مشهد وحالة. إحساسه بالإيقاع والنبرات ولحظات الصمت لا
يخذله أبداً. قد يظن المرء بأن هذه الدقة يمكن أن تقيّد الممثلين، لكن عند
بيرجمان هي تعطيهم الإحساس بالثقة والأمان، ذلك لأنهم أيضاً يحتاجون إلى
تخوم تحدّ نشاطهم، والممثل الذي يواجه حدوده يملك الشجاعة على تسليط الضوء
على نفسه بكل عريه وطيشه.
هناك تماثل بين الممثل واللاعب الذي يسير على حبل
مشدود. بدون الحبل نكفّ عن الافتتان باللاعب. على الأرض هو مجرد فرد عادي
مثلي أو مثلك.
أحد أكثر وسائل تعبير بيرجمان فعاليةً هي اللقطة
القريبة. هذا الاتصال القريب، الحميمي على نحو لا يصدّق، مع الآلة المحدّقة
(الكاميرا) يعني الكثير من التحدي وأيضاً الكثير من الإغواء بالنسبة
للممثل. حين يسمح الممثل لوجهه بأن يكون مكشوفاً ومباحاً عن قرب على الشاشة
فإنه يجتاز الامتحان الأساسي والنهائي. إنها المجابهة المباشرة التي فيها
لا يعود التظاهر ممكناً. هنا فقط شكل التعبير الأكثر دقةً وحذقاً، الأكثر
تحفظاً، يكون فعالاً. الفوارق الدقيقة، المستترة على نحو رائع للعيون
والشفاه والصوت، وكل تغيّر في التعبير الوجهي للممثل يجب أن يكون مرصوداً
ومراقباً بقصد التكبير الذي سوف يخلقه جهاز العرض السينمائي.
كاميرا بيرجمان الموضوعة أمام وجه الممثل تكون
أشبه بمرآة للروح. من منا لم ينطبع في ذاكرته وجه أنجريد ثولين المفعم
بالعاطفة في "ضوء الشتاء" والذي يذكّرنا بالفرص المهمَلة ووخزات حب تعرّض
للخيانة؟ أو يأس ليف أولمان حين تتذكر، بتفاصيل رهيبة، موت زوجها وابنها
الصغير في "عاطفة أنّا"؟ أو انفجار بيبي أندرسون الأكثر يأساً وتحدياً في
"برسونا"؟ أو مواجهات أنجريد بيرجمان المروعة والصادمة مع ذاتها الباطنية
في "سوناتا الخريف"؟
الصور المديدة، المتواصلة، الثابتة، لهذه الوجوه
التي تبدو موسومة بثورات داخلية عنيفة وضارية، لا تبدو جامدة – بالرغم من
بساطتها – إنما طبيعية محضة. إنها تثير عدداً وافراً من الأفكار والرغبات
والصور الذهنية.
* * *
النظريات بشأن الممثل ومجال تأثيره، بشأن وظيفته
كأداة مستقلة، أو تابعة وخاضعة لمزاج المخرج، تتفاوت من سينمائي إلى آخر.
روبير بريسون (الفرنسي) يرى الممثل كوسيط محايد
والذي ينبغي أن يكتفي بإلقاء حواراته فحسب دون محاولة تأويلها، بل وحتى دون
أن يُظهر بأنه يفهمها. لا شيء ينبغي أن يُؤدى، لا شيء يُفسَر. الكلمات
بذاتها يجب أن تحث على التفكير. وفقاً لذلك فإن عمل بريسون اقتصر تقريباً
مع ممثلين هواة، مع مواهب جديدة وغير خبيرة سينمائياً، والذين يعملون
كوسائط مثالية لمبادئ المخرج الصارمة في التأويل. لكن المفارقة أن العديد
من هؤلاء الممثلين والممثلات قد تحولوا في ما بعد إلى محترفين يؤدون
الشخصيات وفق مفاهيم مختلفة ومتعارضة مع مفهوم بريسون الذي، بالرغم من
آرائه الصارمة، لم يخذله إحساسه بالموهبة الشابة وقدراتها التعبيرية.
راينر فرنر فاسبندر (الألماني) كان يبحث عن نوع
آخر من الأسلبة في الأداء. كان يفضّل العمل مع ممثلين لا يمتلكون الحساسية،
ليس هذا فحسب بل حتى القدرة على التحكم، أو الاستسلام، لهذه الحساسية. لقد
حاول فاسبندر أن يبتكر أداءً غير واقعي، حيث اشتغال الممثل على النص يكشف
عن نقد وتعليق معاً. الممثل هنا يجسد أفكاراً بدلاً من تقديم تأويل أو
ترجمة واقعية لحواراته. هذا المنهج يتطلب التزاماً ومشاركة غير عادية. وقد
جمع فاسبندر حوله مجموعة من الممثلين والممثلات الذين يتكرر حضورهم في
أفلامه، لا ليكونوا مفسرين مثاليين لرؤاه النقدية إجتماعياً فقط وإنما
أيضاً كممثلين لأسلوب ديالكتيكي في التمثيل على نهج بريشت.
جان لوك جودار ينظر إلى الممثل كمادة للمقابلة
والتحاور.. شخص يجب أن يلاحقه لكي يطرح أسئلته الذاتية جداً. لكن في الوقت
نفسه، يسجل جودار هذه الملاحقة، ويحدّد درجة التوتر أو الارتخاء المطلوبة
لتحقيق التوازن بين الحالة والفيلم.
جودار، بريسون، وفاسبندر لا يسعون وراء تطابق
الجمهور مع شخصيات أفلامهم، والاستسلام الكلي لإغواء الجسد والوجه على
الشاشة. إنهم ينكبّون على التحليل والجدل، ويرغبون – من خلال التمثيل –
التوكيد على موقف نقدي، جدلي، خلافي.. أخلاقياً وسياسياً.
* * *
للتقليد الأمريكي نقاط انطلاق مختلفة. إنهم يعطون
أهمية متساوية للتشخيص (خلق الشخصية) والذاتية (تمثيل الذات). جون
كازافيتيس وهتشكوك يقدمان مثالين متطرفين لـ "أن يكون أو لا يكون" الممثل
على الشاشة.
شخصيات كازافيتيس تبدو وكأنها تعيش تحت ضغط يأس
متواصل، في أفلام مثل: امرأة تحت التأثير، ليلة الافتتاح، أزواج، وجوه.
الممثلة جينا رولاندز (زوجته وبطلة أفلامه) وصفت منهج كازافيتيس في العمل
بأنه إخراج في الذروة الهائجة المتواصلة.
الفيلم يعيد إنتاج الزمن الماضي. المسرح يظهر نفسه
في الحاضر. وطريقة كازافيتيس في الإخراج عبارة عن تركيب لهذين النوعين من
الفن. تفجّر أكثر عنفاً (من الممثلين) من المفترض إحداثه من أجل تجربة أكثر
عمقاً (بين الجمهور).
من المربك تسليم الذات إلى فيلم حققه كازافيتيس،
ذلك لأن مغامرة كهذه تقتضي ضمناً الاستسلام إلى تأثير مباشر ومشحون
بالعاطفة. إنه صادم، ضاج، انفعالي، مناكد، مفاجئ، وغامر تماماً.
كازافيتيس يستخدم اللقطات الطويلة. حيّز المشهد
كله مضاء. العلامات المرسومة بالطباشير مطموسة. الممثلون يُتاح لهم الأداء
بأقصى درجة ممكنة من الحرية. هذا يخلق حالة من المباشرية والحميمية. إنه
يقدم مجالاً لاندلاع كبير، عاصف عاطفياً، وأيضاً لكل تلك التفاصيل الصغيرة
الهامة والملاحظات التي تبني تشخيصاً وتجعل الدراما الإنسانية هامة ومشوقة.
أحد أسرار منهج كازافيتيس هو فكرته أو إستراتيجيته
بشأن دمج ممثلين محترفين مع هواة. غالباً ما ينتسب الهواة إلى عائلة
كازافيتيس الكبيرة، فهم من الأهل والأقارب: أمه وحماته ظهرتا في العديد من
أفلامه، كذلك الآباء والأشقاء والشقيقات والأبناء ومن يتصلون بقرابة أو
نسب.
موهبة الممثل ليست سكونية ولا راكدة. إنها تستل
غذاءها من التحديات التي تجبرها على الاتصال بأساليب أخرى في التمثيل (أو
انعدام التمثيل في حالة الهواة). من المفيد ملاحظة كيف أن التمثيل يتفاوت
ويتنوّع، يصبح أكثر ثراءً، في المواجهات بين فريق الممثلين المحترفين الذين
يعملون عادةً مع كازافيتيس (جينا رولاندز، بن جازارا، بيتر فولك، سيمور
كاسيل، كازافيتيس نفسه) والأصدقاء والأقارب.
* * *
هتشكوك أيضاً ينتمي إلى أولئك المخرجين الذين لا
يحيطون شخصياتهم بمحاباة أو انحياز شخصي، حتى عندما يكبح جماح الممثلين على
نحو أكثر إحكاماً مما يفعله كازافيتيس. العنصر الأساسي في فن الفيلم عند
هتشكوك كان بحثه عن التطابق أو التماهي بين الممثل على الشاشة وجمهوره.
ربما كان هتشكوك يعتبر الممثلين قطيعاً، لكن كاري جرانت وجيمس ستيوارت كانا
أفراداً من العائلة.
هتشكوك شيّد أعماله حول ذوات كاريزماتية ذات
جاذبية وشعبية، والجمهور كان يعرف جيداً هؤلاء النجوم، ويشعر تجاههم بثقة
بالغة بحيث كان يرافقهم في اطمئنان ويشاركهم بثقة في الأحداث العنيفة التي
تدور على الشاشة. لذا لم يكن الممثلون مطالبين بالتمثيل، بالمعنى الطبيعي
والقياسي للكلمة، بل بتجسيد السلوك الطبيعي فحسب.
طرائق هتشكوك في العمل، وتأثيرها، يمكن تقديرها
مباشرة من خلال رد فعل الجمهور تجاه أفلامه. هذا يفسر نجاح أفلام مثل:
النافذة الخلفية، الرجل الذي كان يعرف الكثير. أيضا الاستقبال الفاتر
لأفلام مثل: الرجل الخطأ.
فيلمه "دوار"
Vertigo، الذي استقبل باللامبالاة، إلى حد ما، عند عرضه
الأول، هو حالة مثيرة للاهتمام في هذا السياق. هذه الاستجابة يعود سببها
ربما إلى أن جيمس ستيوارت هو بطل الفيلم وضحيته في الوقت ذاته. المتفرج
يرفض قبول المصير المغلّف بالوحدة واليأس، ولا يعود إلى الأوضاع الطبيعية
إلا عندما يتعرّض للاحتيال والتلاعب.
إن أسطع دليل على قسوة هتشكوك تجاه جمهوره الوفي
يكمن في فيلم "سايكو"، الذي يترك المتفرج في حالة من اللاأمان وعدم
الاستقرار والفزع. خلال نصف الساعة الأولى من الفيلم نتابع الممثلة جانيت
لي وهي تسرق مبلغاً من المال ثم تهرب بالسيارة. ورغم أنها سارقة، إلا أن
المتفرج – الذي لا يجد خياراً ولا يجد أحداً آخر يرافقه – يسمح لنفسه
تدريجياً (وإلزامياً إلى حد ما) بأن يتماهى معها. إن انفصال هذه المرأة عن
العالم اليومي وعن المسؤوليات الدنيوية، ناشئ من الرغبة في ترك المعضلة
المعقدة التي تعجز عن حلّها. وحين تقطع رحلتها مرغمةً وتخلد إلى الراحة
والأمان في نزل
motel، يطرح المتفرج جانباً كل التحفظات الممكنة ويغمره
التعاطف مع ذاته الأخرى (بطلة الفيلم) على الشاشة. الممثلة هنا تقنع
المتفرج بأنها ستعود إلى الحياة الطبيعية وبأنه سيعود معها. لكن في اللحظة
التي يقبل المتفرج الوضع والبطلة بلا شروط، تذهب المرأة ضحية جريمة عنيفة
وبشعة أمام أعيننا. بقسوة يسلب هتشكوك من المتفرج التماثل أو التطابق ليهبه
هوية أخرى يمكن التماهي معها. وسرعان ما يكشف المتفرج عن عدم ولائه. إنه
ينسى الوجود الأول ويعهد بوحدته إلى أول فرد يمنحه العزاء والمؤاساة: قاتل
المرأة نفسه.
في فيلم "سايكو" يرغم هتشكوك المتفرج على وضع نفسه
في دورين يرفض، في الأحوال الطبيعية، أن يتماثل معهما. لكنه يقبل الدعوة
بفضل الأداء الصادق. الشخصيات المخترعة لا تحمل سمات أو ميزات خاصة يمكن أن
تحوز ولاءنا. وحدها الخاصيات الباطنية للمؤدين تضلل خيالنا.
* * *
هل بإمكان شخص لا يشعر بجاذبية الممثلة (الفرنسية)
أنوك إيميه أن يعجب بفيلم جاك دومي "لولا"؟ هل بإمكان شخص لا يفتتن
بالحسيّة الغامضة للممثلة (الإيطالية) مونيكا فيتي أن يرافق أنتونيوني عبر
فيلمه "المغامرة"؟ هل بإمكان شخص يستقبل بفتور أداء الممثلة (الفرنسية) آنا
كارينا أن يهتم بفيلم جودار "عاشت حياتها"؟
صرّح المخرج ماكس أوفولس، ذات مرّة، بأن مهنة صنع
الأفلام هي مباشرة وواضحة المعالم.. "كل ما تحتاجه هو ممثلة موهوبة جميلة،
وكاميرا خفيفة الحركة ورشيقة تلاحق الممثلة وتتابع حركاتها وأفعالها".
أوفولس نفسه عبّر عن نظريته في أفلام مثل: مدام
دي، لولا مونتيز.. وهي أفلام وفّرت مجالات لعب حرّة ومفتوحة للممثلين.
الممثل يجد نفسه في وضع ليس مقيداً ومحدوداً زمنياً أو مكانياً، مع كاميرا
متحركة ترافق أكثر مما تعلّق، وذلك من أجل توصيل التجربة والمعرفة المتصلة
بالذاتية السينمائية للممثل أو الممثلة.
منهج العمل هذا يميّز العديد من السينمائيين
الكبار الذين يرغبون في فتح حوار بين الشاشة والجمهور، والذين علاقتهم
بالممثلين مؤسسة على الثقة والاحترام.. مخرجون مثل: رينوار، روسيلليني،
فيسكونتي، لوزي، بازوليني، برتولوتشي، تاركوفسكي.
القناعة الدينية أو السياسية لدى هؤلاء قد ساعدتهم
على خلق مجال أكبر من العادي للممثل كي يفسّر ويعمّق مقاصد شخصيته. بعض
الممثلين، المحاطين بجو من الحنان والرقة، قد تجاسروا بغبطة على ترك الدور
يعيش حياته، ومن ثَم أظهروا لحظة الصدق الحقيقية.
فيلم جوزيف لوزي "إيفا" يقدم لنا أفضل الإيضاحات
بشأن الإخراج الذي يلتزم الموضوعية، ولا يحاكم الممثل وشخصيته سلفاً بواسطة
مونتاج يوجّه ويتلاعب في تعاطف أو نفور الجمهور بأسلوب ضيق وهزيل.
أيّ تحليل رائع، إيضاحي، صادق على نحو لا يرحم،
قدمته الممثلة (الفرنسية) جين مورو – بمعونة لوزي – وهي تؤدي شخصية المرأة
المعقّدة خلال اللقطات المتعاقبة، التي تستغرق، أربع أو خمس دقائق من بداية
فيلم "إيفا"، والتي فيها تدخل فيللا بطل الفيلم بلا دعوة وتتجه مباشرة إلى
غرفة نومه ثم إلى الحمّام.
في هذا الأداء الصامت والمنفرد، يصبح جسدها وحركات
الكاميرا عناصر السرد الوحيدة. إننا نضطر إلى المراقبة والإصغاء، التعليق
والجدل، للانسجام مع هذه المرأة على الشاشة، بشروطها الخاصة. إن علاقتها
الودّية بالمتفرج قد تفضي إلى أحداث نجدها لاعقلانية ويصعب فهمها. لكنها
أيضاً قد تهب تأويل الدور حياةً بذاتها، وتحرّره من مغبة أن يصبح مجرد
بورتريه مكتمل ونهائي.
* * *
جين مورو أيضاً من الممثلات اللواتي يفهمن على نحو
جيد كيف يستثمرن ويطورن الإمكانيات التي تستطيع أن تقدمها العلاقة المفعمة
بالثقة مع الكاميرا. في تأويلاتها (عبر أفلامها: العشاق، الليل، جول وجيم،
يوميات خادمة، ناتالي جرانجييه، قصة خالدة) هناك هذا الإدراك والوعي
بالعوامل الثلاثة التي تؤخذ بعين الاعتبار في أي أداء: تمثيل الشخص،
الموضوع (الثيمة)، الدافع.. إضافة إلى الفرد الذي يمثّل له. هناك هذا
التزامن من الاتصال والقرابة بين المفسّر والنص والمتفرج في كل ما تفعله
جين مورو.
لذا ليس مستغرباً أن تختار جين مورو في أول
أفلامها كمخرجة "إضاءة" أن تناقش مهنة التمثيل كفكرة وكوظيفة معاً. في هذا
الفيلم هي تتعامل مع أربع ممثلات من أعمار مختلفة وعلى مستويات مختلفة في
مسيرتهن الفنية. الممثلات الأربع يمكن النظر إليهن، في المقام الأول،
بوصفهن امرأة واحدة.. ممثلة واحدة في مراحل مختلفة من حياتها.
الفيلم هو مزيج من الملاحظات والتجارب من حياة
خلاّقة على الصعيدين المهني والشخصي معاً. المشهدان الأخيران في الفيلم
يوضحان بفصاحة الجدلية الجوهرية المتضمنة في عمل الممثل والانفصام الذي
يتجلى في التعارض بين الحياة المهنية والخاصة.
في كلا المشهدين، جين مورو نفسها هي البطلة
الرئيسية. المشهد الأول ربما هو الأقوى عاطفياً في الفيلم. لورا (لوسيا
بوسي) تأتي لتخبر ساره (مورو) بأن صديقها الحميم جريجوار قد انتحر. هذا
الصديق لم يكن حميماً وحافظاً لأسرارها فحسب، إنما أيضاً كان لها بمثابة
الأب.
ساره كانت قد صحت تواً من النوم، ولورا تجلس إلى
جوارها على السرير، محتضنة إياها بشدّة. النبأ يكون فجائياً وصادماً إلى حد
أنه يشلّ أية استجابة أو ردة فعل عندها. الصدمة تجعلها غير قادرة على
النطق، ووجهها يتجرّد كلياً من أي تعبير.
لدقيقة مثيرة ومدهشة، يُتاح للمتفرج أن يترجم
ويتقاسم كل المشاعر التي تصطخب وتجيش، وتؤثر في ساره، في هذا الظرف. إن
غياب أي "تمثيل"، غياب أي تفجّر قوي وعنيف للعاطفة، يخلق إحساساً حاداً
بالتماهي والتطابق، وأيضاً يحقق تنفيساً للجمهور.
المشهد الثاني، وهو المشهد الختامي في الفيلم،
يُظهر ساره في محيط عمل جديد. إنهم على وشك التحقق من المكياج والأزياء
لفيلمها التالي. هي تدخل الأستوديو بلباس أسود وتجلس على كرسي أمام
الكاميرا تحت إضاءة مسلطة عليها. إنها تشعّ هدوءاً ورزانة وقوةً وضبطاً
للنفس. يناولونها مسدساً يتعيّن عليها أن تصوبه وتطلق الرصاص، إنه المسدس
ذاته الذي استخدمته في اللقطات الأولى من الفيلم في ميدان الرمي، والذي به
كانت تحث جريجوار على إظهار مهارته.
فجأة تنهار ساره. ونحن لا نعرف ما إذا كان هذا
وارداً في السيناريو أم أنها مجرد بروفة أفضت إلى هذه الحالة وتم تصويرها.
ينهي المخرج التصوير، وسرعان ما يحيط بها تقنيو الفيلم والعاملون، محتشدين
حولها مثل سور يحميها، وفي الوقت ذاته تتراجع الكاميرا بحذر نحو الجانب
المعتم من الأستوديو.
في رقعة الضوء التي تحبس ساره، يكفلون لها،
بالكلمات والإيماءات، الحماية التي تنشدها جين مورو، المخرجة، والتي هي في
لبّ الوجود الفعلي للممثلة.
على المخرج، كما تقول مورو، أن يخلق الأمان
والحماية للذات الحقيقية للممثل، لحياته الباطنية، ذلك لأن الممثل مخلوق
خائف دوماً، حساس وسريع التأثر وغير حصين.. على المرء أن يدعمه ويعينه بكل
الوسائل الممكنة. يجب أن يشعر بأنه محبوب ومرغوب فيه.
المشهد الختامي في فيلم "إضاءة" هو حاسم. الممثل
لا يستطيع أن يخلق الحلم للمتفرج إلا إذا كان محاطاً بأولئك الذين يثق
بهم.. من أصدقائه العاملين معه في الفيلم إلى أصدقائه في صالة السينما.
* * *
ستانيسلافسكي نصح جميع الممثلين بأن يمثلوا
ذواتهم. مورناو قال: "لا تمثل، فكر". لكن "تفكير" الممثل في الفيلم يعني
أنه "موجود". إن حضور الممثل السينمائي أمام الكاميرا يجب أن يُظهر، قبل كل
شيء، الولاء لذاته الخاصة.
الفيلم يخلق ذواتاً مميزة. الفن السابع يستثمرها
ويبيع أعمالها. إنه يوفّر نقطة الانطلاق لعبادة النجم (رودولف فالنتينو،
جريتا جاربو، بريجيت باردو، مارلين مونرو، جيمس دين). ممثلون وممثلات في
أفلامهم يمضون مباشرة إلى لبّ تخيلاتنا، والذين يُجبرون على تمثيل الحكايات
الخرافية الوجدانية والاصطناعية في الحياة الواقعية.
لكن الأساطير لا تستطيع أن تقبل أي دور، والشخص
الواقف خلف الكاميرا، الراغب في فتح أعين الجمهور على واقع لا تسكنه
العذراوات والرجال الجذابون، يلتقط – أي هذا المخرج – رجلاً أو امرأة من
الشارع، ذلك لأن كل شخص يستطيع أن يؤدي شخصيته الواقعية على الشاشة مرةً
واحدةً على الأقل. العديد فعلوا ذلك، وعرضوا قطاعاً صغيراً من الحياة
انتخبه المخرج من أجل استنطاقه. لقد أباحوا وجوههم وأجسادهم وأصواتهم لأن
ثمة – كما هو الحال مع الممثل المحترف – متطلبات بدنية واختيارات معينة
تنسجم مع كل شخصية مخترَعة.
الدور يحدّد الممثل، والممثل يتحكم في الدور.
الفيلم يبحث عن موديلاته في الوجوه المدموغة بختم باطني من القوة أو الضعف،
البراءة أو التجربة. الأقنعة المتناغمة المستثمرة في محيط متناسق أو هيولي
ومشوّش.
بينما يمرّر المسرح حكاياته وأفكاره بواسطة
الممثل، يعمل المؤدي السينمائي كما لو كان عابر نهر.. إنه هناك، في منتصف
دوامة القصة أو في المياه الساكنة.
وفقاً لمارلو، المسرح يقدّم رأساً صغيراً في
الفضاء الشاسع، والسينما تقدّم رأساً كبيراً في فضاء صغير. في تلك الخلوات
التي توفرّها صالات السينما نكون وحدنا مع هذا الوجه الإنساني الهائل، قناع
للقراءة والتأويل، شخص في حضوره نستطيع أن نعكس أو نتبادل انعكاساتنا
وتجاربنا.
* * *
ممثلتان في مرحلتين مختلفتين نجحتا، بأكثر السبل
غموضاً وتوليداً للوهم، في إبراز النجمة السينمائية في مظهرها الأكثر
كمالاً، كأسطورة وكفرد معاً: جريتا جاربو، مارلين مونرو.
كانتا على الدوام ترسمان صوراً ذاتية جديدة على
الشاشة، وفي الوقت نفسه، تطمسان الأدوار العادية المبتذلة التي تضطران إلى
المشاركة فيها. لقد وهبت كل منهما وجهها وجسدها وجمالها، والجمهور لمح
الروح، الوعود، الآمال، النشوة، القسمات التي تكشفت في لقاءاتهما المستمرة
والمباشرة معنا.
كلتاهما تطوعتا لتجسيد أحلامنا.. أحلامٍ من أجل
عهود مختلفة. لقد تحدثتا إلينا بالمزيج المركّب ذاته من الصراحة والتحفّظ.
بينما صدّقت جاربو، بكياسة سوداوية ونفاذ بصيرة،
على وحدة الروح التي لا شفاء منها والعذابات الحادة للحب الرومانسي، فإن
مونرو كانت تروق لرغبتنا في إطلاق تخيلاتنا الجنسية دون تحفّظ. كل منهما
حاولت أن تجعل توقنا الخفيّ ملموساً أكثر.
لكن في الوقت نفسه، كل منهما رأت وفزعت من الوجوه
الضارية بين الأعداد الغفيرة والمجهولة من المعجبين. لقد شعرتا بالمطالب
والحاجات الملّحة الكامنة خلف الإعجاب والتأليه. هناك أيضاً الصحافة التي
صوّرت هاتين الممثلتين بالصورة التي يرغب فيها صنّاع السينما (والجمهور):
جاربو الغريبة، الناسكة، المتوحّدة مع ذاتها، المفعمة بالعاطفة. ومونرو
المغوية، المثيرة، المشوشة، المدمرة لذاتها.
أخيراً، في العمر ذاته، قررتا أن تهجرا أضواء
الشهرة وبريقها، متبرئتين من استبدادية التكرار وطقوس الافتتان، لتتحدا مع
الصورة المنسوبة إليهما: جاربو لاذت بالصمت والعزلة التامة، ومونرو اختارت
التضحية النهائية والأكثر كمالاً من بين جميع التضحيات.. الانتحار.
مجلة البحرين الثقافية
ـ أغسطس
2012
|