فرنر هيرتزوغ، واحد من أهم وأشهر المخرجين
السينمائيين في ألمانيا.
ولد في ميونيخ بألمانيا في 1942. عاش طفولته في
قرية جبلية نائية تقع قرب الحدود النمساوية. بدأ في السفر مشياً على
القدمين وهو في الرابعة عشرة من عمره. وأجرى مكالمته الهاتفية الأولى عندما
كان في السابعة عشرة.
من أجل تمويل أفلامه القصيرة الأولى، في بداية
الستينيات، عمل ليلاً كلحّام في مصنع للصلب، فيما كان يدرس نهاراً.
قيل الكثير عن جنونه، وغرابة أطواره، وجنون العظمة
لديه. لكن المؤكد أنه موهوب برؤية استثنائية، ببصيرة رائعة، وإدراك حدسي.
مجموع أعماله، المؤلفة من أفلام درامية طويلة
وأخرى قصيرة، وأعمال وثائقية عديدة، هي المجموعة الأكثر أهمية في السينما
الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، وربما المفتاح لما اعتبرت الموجة
الجديدة في السينما الألمانية. من بين أفلامه: علامات الحياة (1968) حتى
الأقزام بدأوا صغاراً (1970) أغيري، غضب الرب (1972) لغز كاسبر هاوسر
(1974)، قلب الزجاج (1976) نوسفراتو (1979) فيتزكارالدو (1982).
الأحاديث التالية مأخوذة من كتاب
Herzog on Herzog، والذي أنوي إصداره قريباً.
********
لاشيء غير اعطاء وجودي معنى ما
* لم أكن أبداً واحداً من أولئك الذين يكترثون
بالسعادة. السعادة مفهوم غريب. أنا لست مخلوقاً لها، وهي لم تكن أبداً
هدفاً من أهدافي. لا أفكر كثيراً في تلك العبارات والمصطلحات. يبدو أن
السعادة غاية في الحياة للعديد من الناس، أما أنا فلا غاية لي في الحياة.
وأشك أنني أسعى وراء أي شيء آخر غير أن أعطي وجودي معنى ما. أعرف أنها
إجابة تبسيطية جداً، لكن سواء أ كنت سعيداً أم لا، فذلك لا يهم كثيراً. كنت
دائماً أستمتع بعملي السينمائي. ربما لا تكون كلمة "استمتاع" مناسبة، لنقل
أني دوماً أحببت عملي. العمل في هذه المهنة أعتبره امتيازاً، ويعني لي
الكثير، رغم أني ناضلت من أجل أن أحقق أفلامي بالطريقة التي أردتها حقاً،
وبجعلها قريبة من الرؤية التي أنشدها. بالطبع أنا مدرك تماماً بأن هناك
العديد من الأفراد الطموحين، الذين لديهم أفكارا جيدة، لكنهم لم يجدوا موطئ
قدم داخل النظام. لقد أخفقوا، وهذا شيء محزن. في سن الرابعة عشرة، حالما
أدركت بأن تحقيق الأفلام هو واجبي، لم يكن لدي خيار غير أن أنطلق وأشق
طريقي مع مشاريعي.
شفافية الرؤية
* عندما أجلس لكتابة سيناريو فأنا لا أحاول أبداً
أن أوضح أفكاري في تعبيرات تجريدية من خلال حجاب أيديولوجيا ما. أفلامي
تأتي إليّ وهي حية وناشطة جداً، مثل أحلام بلا أنماط منطقية أو شروحات
أكاديمية. سوف تكون لدي فكرة أساسية لفيلم ما ثم، عبر فترة من الزمن، عندما
أقود سيارتي أو ربما أتمشى، تصبح الفكرة أوضح فأوضح. أرى الفيلم أمامي كما
لو كنت في صالة سينما. سرعان ما يكون شفافاً تماماً إلى حد أني أستطيع أن
أجلس وأدوّنه كله.. كما لو أنسخ من شاشة سينما.
أميل أن أكتب بسرعة لأن ذلك يمنح القصة إلحاحية
معينة. إني أهمل كل الأشياء غير الضرورية وأركز على ما هو مهم فحسب. القصة
المكتوبة بهذه الطريقة سوف تملك، بالنسبة لي على الأقل، الكثير من التماسك
والديناميكية، وسوف تكون أيضاً مفعمة بالحياة. لهذه الأسباب، كتابة
السيناريو لا تأخذ مني أكثر من أربعة أو خمسة أيام. إني أجلس أمام الآلة
الكاتبة أو الكومبيوتر وأنقر المفاتيح فحسب.
أما بشأن الأيديولوجيا، فهذا أمر لا أعطيه الكثير
من التفكير والاهتمام. أنا أفهم العالم بطريقتي الخاصة، وأنا مؤهل وقادر
على توضيح هذا الفهم في قصص وصور تبدو متماسكة ومترابطة بالنسبة لآخرين.
حتى بعد مشاهدة أفلامي، يشعر البعض بالانزعاج لأنهم لا يستطيعون وضع أصبعهم
على ما يمكن أن تكونه الأيديولوجيا.
الأيديولوجيا هي الأفلام نفسها وقدرتي على
تحقيقها. هذا هو ما يفزع أولئك الذين يحاولون بمشقة واجتهاد بالغ أن
يحلّلوا وينتقدوا شخصي وأفلامي. لا أحب أن أذكر أسماء، لكن أي ضرب من
الأيديولوجيا يمكن أن تقحمها تحت قميص كونراد أو همنغواي أو كافكا؟ جويا أو
كاسبار ديفيد فريدريك؟
غالباً ما أتحدث عن ما أسميه اللغة التصويرية غير
الملائمة في حضارة اليوم. لدي انطباع بأن الصور التي تحيط بنا اليوم هي
بالية ومبتذلة، هي عقيمة ومستنزفة وأسئ استعمالها كثيراً. إنها تعرج وتجرجر
نفسها وراء بقية تطورنا الثقافي. عندما أنظر إلى البطاقات البريدية في
المحلات السياحية، وصور الإعلانات التي تحيط بنا في المجلات، أو عندما أفتح
التلفزيون وأدير محطاته، أو حين أدخل وكالة سفريات وأشاهد تلك الملصقات
الهائلة التي تُظهر تلك الصورة المضجرة لجراند كانيون، فإنني أشعر حقاً بأن
هناك شيئاً خطيراً ينشأ هنا. الخطر الأكبر في رأيي هو التلفزيون لأنه، إلى
مدى معيّن، يخرّب رؤيتنا ويسبّب لنا الحزن والعزلة والوحشة. أحفادنا سوف
يلوموننا لأننا لم نشن غارة بالقنابل اليدوية على محطات التلفزيون بسبب ما
تعرضه من إعلانات تجارية. التلفزيون يقتل مخيلتنا، وما نحصل عليه ليس سوى
صور مبتذلة ورثّة بسبب عدم قدرة العديد من الأفراد على البحث عن صور جديدة
وطرية.
كسلالة، نحن أصبحنا واعين لمخاطر معينة تحاصرنا.
نحن نفهم، على سبيل المثال، أن الطاقة النووية هي الخطر الحقيقي الذي يواجه
الجنس البشري، وأن التضخم السكاني على هذا الكوكب هو الأكثر خطورة. ونفهم
أن تدمير البيئة خطر شنيع آخر. غير أني أؤمن بالفعل أن الافتقار إلى الصورة
الملائمة يشكل خطورة بالقدْر والحجم نفسه. إنه خلل جدّي مثلما هو الحال
عندما تكون بلا ذاكرة.
ما الذي فعلناه بصورنا؟ ما الذي فعلناه بمناظرنا
الطبيعية المحرجة؟ لقد قلت هذا من قبل، وسوف أردده ثانيةً ما دمت قادراً
على الكلام: إذا نحن لا نكشف عن صور ملائمة فسوف ننقرض مثل الديناصورات.
أنظر إلى رسم المسيح في أيقوناتنا.. لم يتغيّر منذ أواخر القرن التاسع عشر.
هذه الصور وحدها هي برهان كاف على أن المسيحية في طور السُبات. نحن بحاجة
إلى صور تتوافق مع حضارتنا وحالتنا الأكثر عمقاً.. هذا هو السبب الذي
يجعلني أحب أي فيلم يبحث عن صور جديدة، أياً كان الاتجاه الذي يتحرك فيه أو
القصة التي يرويها. يجب على المرء أن يحفر مثل عالِم آثار وينقّب عن
مناظرنا الطبيعية المنتهَكة ليكتشف شيئاً جديداً. عليه أن يناضل من أجل
إيجاد صور جديدة، طازجة، لم يسبق التعامل معها ومعالجتها.
شخصيات بلا لغة ولا ظلال
* دائماً أشعر أن شخصياتي، منذ البدء، تنتسب إلى
العائلة ذاتها، سواء أكانت خيالية (أي قصصية) أو واقعية. ليس لها ظلال، بلا
ماضي، وهي جميعها تنبثق من الظلمة. كنت دوماً أنظر إلى أفلامي بوصفها أثراً
فنياً واحداً وكبيراً، أشتغل عليه بتركيز منذ أربعين عاماً. الشخصيات، في
هذه القصة الضخمة، مجموعة من الثوار اليائسين، الوحيدين، الذين بلا لغة
يتصلون بواسطتها مع الآخرين. حتماً هم يعانون من جراء ذلك. يعرفون أن
ثورتهم محكومة بالفشل لكنهم يستمرون بلا تأجيل أو أخذ فترة راحة. هم جرحى،
لكن يكافحون وحدهم من غير مساعدة أو عون من أحد.
غالباً ما يقولون لي أن شخصياتي الرئيسية هي من
الهامشيين واللامنتمين، غير أني أشعر بأن شخصيةً مثل كاسبر هاوسر ليس
لامنتمياً. هو في المركز. هو ينجح في صيانة كرامته الإنسانية من التشوّه
والمحافظة على نقائه، في حين أن كل شخص من حوله يبدو متكيّفاً على نحو شنيع
وشائن. هؤلاء الأفراد، المتحولون إلى خنازير مروّضة، إلى أشخاص خنوعين في
مجتمع بورجوازي، هم المخلوقات الشاذة الغريبة، وليس كاسبر.
يقولون عني أني مخرج أفلام هامشية وغريبة. مع إنك
عندما تنظر إلى أفلامي فسوف لن ترى أي شيء شاذ وغريب فيها.
سواء أكانوا جنوداً هاذين، أو من الصم والبكم، أو
من الأقزام، فإنهم ليسوا مسوخاً. ليسوا مجانين على نحو مرَضي، المجتمع هو
المجنون. إنها الأوضاع التي يجدون أنفسهم فيها، والأفراد الذين يحيطون بهم.
كل أفلامي تبدو متماثلة في شعورها تجاه الحياة،
بالتالي هي، بطريقة أو بأخرى، تشكّل وحدة كاملة. إنها جميعاً قريبة من
بعضها البعض مثل أطراف جسد ضخم. وعندما تكون مرئية معاً، على نحو متصل من
غير انقطاع، تبدو فيلماً واحداً ذا أبعاد مختلفة عديدة أكثر من كونها سلسلة
من الأفلام.
ليس للنخبة، لكن للأميّين
* أنا لست واحداً من أولئك المفكرين الذين
يمتلكون فلسفة أو بنية اجتماعية في أذهانهم ترشدهم، من البداية، إلى
الفيلم. أبداً لا أشرع في صبغ أفلامي بإشارات أدبية أو فلسفية. ينبغي النظر
إلى الفيلم على نحو مباشر، إنه ليس فناً للباحثين بل للأمّيين. يمكن وصفي
بالأمّي.. فأنا لا أقرأ كثيراً ولا أفكّر في الثيمات الفلسفية التي يمكن أن
أصوّرها من خلال هذه القصص التي أرويها. الفيلم، بالنسبة لي، هو عن الحياة
الحقيقية أكثر مما عن الفلسفة. كل أفلامي كانت مصنوعة من دون هذا النوع من
التأمل. التأمل دوماً يأتي بعد الفيلم.
الموقع كحالة ذهنية
*في أفلامي، المناظر الطبيعية لا تكون أبداً مجرد
خلفية تصويرية فاتنة أو مشهدية خلابة، كما هي غالباً في أفلام هوليوود.
الغابة في فيلم "أغيري" ليست أبداً بيئة جميلة، خضراء ومورقة، كما نراها في
الإعلانات التلفزيونية. أحياناً، عندما تشاهد الغابة في الفيلم فإنها تكون
واقعاً غريباً جداً إلى حد أنك لا تستطيع أن تثق بها، وربما تظن أنها مؤثر
بصري خاص. الغابة، في الواقع، تمثّل أحلامنا، عواطفنا الأكثر عمقاً،
كوابيسنا. هي ليست مجرد موقع، إنها حالة ذهنية. إن لها خاصيات وصفات
إنسانية تقريباً. هي جزء حيوي من مناظر الشخصيات الباطنية.
السؤال الذي طرحته على نفسي عندما جابهت الغابة
لأول مرّة كان: "كيف بوسعي أن أستخدم هذه المنطقة لتصوير المناظر الكائنة
في الذهن؟". أنا لم أسافر قط إلى بيرو قبل تصوير الفيلم، لكني تخيلت
المناظر والأجواء بدقة تامة. كان ذلك غريباً، لأنني عندما وصلت إلى هناك،
وجدت كل شيء كما تخيلته تماماً، كما لو أن المناظر لم يكن لديها أي خيار
غير أن تكون كذلك: أن تتوافق وتتلاءم مع خيالي، وتخضع نفسها لأفكاري بشأن
ما ينبغي أن تكونه.
أحب أن أدير وأوجّه المناظر الطبيعية تماماً مثلما
أدير الممثلين والحيوانات. البعض يظن أني أمزح، لكن ذلك حقيقي. في أحوال
كثيرة، أحاول أن أضع في المنظر جواً معيناً، مستخدماً الصوت والصورة لمنحه
خصيصة محددة. أغلب المخرجين يستثمرون المناظر من أجل تزيين أو زخرفة ما
يحدث في مقدمة الكادر. هذا أحد الأسباب التي تجعلني أحب بعض أفلام جون
فورد. هو لم يستخدم قط الوادي كخلفية فحسب، بل لكي يعبّر عن روح شخصياته.
المناظر الطبيعية دائماً تكيّف نفسها مع الحالات
والأوضاع المفروضة عليها. ما أبحث عنه في المناظر الطبيعية، بوجه عام، هو
الموضع البشري للإنسان، المنطقة الجديرة بالكائنات الإنسانية. البحث عن
المناظر المثالية، اليوتوبية، هو على الأرجح بحث لا نهائي، لكنني أعرف أن
ببقائي في مكان واحد سوف لن أعثر عليها أبداً.
يبدو لي أن نقطة انطلاق إنجمار بيرجمان، مع أنني
لا أحب أغلب أفلامه، هو الوجه البشري، بينما نقطة انطلاق العديد من أفلامي
هو المنظر الطبيعي، سواء أكان المكان حقيقياً أو متخيلاً أو هذيانياً من
حلم ما. عندما أكتب السيناريو فإنني غالباً أصف المناظر الطبيعية التي لم
أشاهدها قط، لكني أعرف أنها موجودة في مكان ما، وأبداً لم أخفق في العثور
عليها.
ربما يتعيّن عليّ القول بأن المناظر الطبيعية ليست
مجرّد قوة دافعة لفيلم ما، بل بالأحرى هي تصبح روح الفيلم، وأحياناً تأتي
الشخصيات والقصة في ما بعد، وعلى نحو طبيعي جداً.
المناظر الطبيعية في فيلم "أغيري" ليست هناك
بوصفها ديكوراً أو زخرفة، أو لتبدو غريبة جداً. ثمة حياة عميقة هناك، إحساس
بالقوة، كثافة لا تجدها في أفلام صناعة الترفيه والتسلية حيث الطبيعة دوماً
هي شيء اصطناعي ومتكلّف.
عندما أصوّر في موقع داخلي، على سبيل المثال،
فإنني دوماً أعمل مع مصمم المناظر في تعاون حميم، ومعاً قد نحرّك الكثير من
قطع الأثاث الثقيلة، كأن ننقل البيانو إلى تلك الزاوية أو إلى هذه الجهة
للتأكد من أن الأمور تبدو حسنة أو ملائمة، وإلا فسوف نحرّكه من جديد. إن
إعادة ترتيب الأثاث في الغرفة، على نحو جسماني، يمنحني المعرفة الفيزيائية
الضرورية للعمل ضمن تلك المساحة. إنه هذا النوع من المعرفة الذي حسم العديد
من المعارك الهامة. كمخرج في الموقع، من الحيوي والأساسي معرفة المكان الذي
تصور فيه بحيث، عندما يصل الممثلون وطاقم العمل، تعرف سلفاً وبدقة أي
العدسات تحتاج إليها لتصوير اللقطة وأين تحرّك الكاميرا. بالاعتناء بهذه
الأمور، أستطيع أن أدير الممثلين أمام الكاميرا على نحو سريع بحيث لا نبدّد
الكثير من الوقت.
لا مفاجآت في الأستوديو
*طوال عملي السينمائي كمخرج حاولت أن أتجنب
التصوير في الأستوديو، وهو الشيء الذي أشعر أنه يقضي على التلقائية التي هي
ضرورية جداً لذلك النوع من السينما التي أريد خلقها. إن طريقتي في صنع
الأفلام لا يمكن أن تكون متخلقة في جو الأستوديو الضيق والمنقبض.
عالم الأستوديو نادراً ما يوفر أي مفاجآت للمخرج،
جزئياً، لأنك تدير فقط الأفراد الذين دفعت لهم أجراً ليكونوا هناك. ليس ثمة
أي بيئة، مجرد أربعة حيطان وسقف. الشيء الآخر الذي يستحيل أن أفعله – الذي
يخرّب العفوية الضرورية في موقع التصوير – هو رسم المشهد (storyboard) مسبقاً. الصدف دوماً تحدث إذا أنت جعلت ذهنك
مفتوحاً، بينما رسم المشاهد تظل وسيلة الجبناء الذين لا يثقون بمخيلتهم،
والذين هم عبيد للقالب.
طريقة اقترابي من كل مشهد تعتمد بوجه عام على
معرفتي بما أريد من البداية، مع ذلك أتيح للحدث أن يتنامى على نحو طبيعي من
غير معرفة أي زوايا كاميرا وكم عدد اللقطات التي قد نحتاجها. إذا راح
المشهد ينمو على نحو مختلف عن فكرتي الأصلية بسبب عناصر "خارجية" ما –
الطقس، المحيط، عمل الممثلين مع بعضهم البعض، وأشياء من هذا القبيل – لكنني
أفعل ذلك على نحو عضوي، متناسق الأجزاء، من دون انحراف خطير عن القصة
الأصلية، فإنني سوف أحاول عموماً أن أدخل تلك العناصر الجديدة في المشهد.
كمخرج يجب أن تكون منفتحاً على كل أنواع الفرص.
لا ارتجال في ما أفعل
* مع أن ليس لدي أي رؤية تقنية، منجزة مقدماً،
للقطات معينة مطلوبة لمشهد ما، إلا أن لدي دائماً فكرة واضحة جداً في ما
يتصل بما يتحدث عنه المشهد. عادةً، أبدأ العمل مع الممثلين، أضعهم في
المشهد وأرى كيف يتحقق المشهد لو كان الممثل، على سبيل المثال، واقفاً هناك
وهي جالسة هنا، وما سوف يحدث لو أنهما تحركا هنا وهناك. بعد وضع الممثلين،
أعمل عن كثب مع المصور لتحديد موضع الكاميرا وحركات الكاميرا، إن كانت هناك
حركات مطلوبة، أثناء المشهد.
أنا لا أريد أن أوحي بأني أرتجل أفلامي، لأنني لا
أفعل ذلك. لكن ثمة، بطريقة ما، في أعمالي هامش لما هو غير متوقع أوسع من
المألوف والاعتيادي.
عندما أكتب السيناريو، أدرك دوماً أن الأشياء سوف
تتغيّر، وأن شخصيات قد تُضاف، حالما نشرع في التصوير، لذلك لا ألجأ إلى حشو
الصفحات بالحوارات. في سيناريوهاتي الأولى كنت أدوّن الحوارات الرئيسية،
بصورة عامة، وليس أكثر من ذلك. من المهم للحياة الحقيقية والصور الحقيقية
أن تملأ الفيلم في مرحلة لاحقة. بدلاً من أن يكون لديك الحوار كلمةً كلمةً،
السيناريو سوف "يصف" الحوار وقد يحتوي عناوين مشهد. بالنسبة لفيلم "لغز
كاسبر"، الكثير من الحوار كان يُكتب أثناء إعداد الإضاءة في الموقع
والتحضير لتصوير المشهد. إن ترك الكتابة حتى الدقيقة الأخيرة يعني أنها
حافلة بالحياة، وحتماً سوف تنسجم على نحو مريح مع الوضع الجسماني الذي هو
أمامنا: الممثل جالس هناك بملابس التمثيل وسط الموقع.
لا ألمس السيناريو حتى اليوم الأول من التصوير،
لأنني لا أريد أن أشغل ذهني، يوماً بعد يوم، بالكتابة. هذا يعني أنني حين
ألتقط النص في الموقع، أحياناً بعد شهور، فإن المادة تكون جديدة بالنسبة لي
مثلما هي لكل شخص آخر.
إني أصغي إلى الجُمل التي ينطقها الممثلون، وقد
أقرر أن أعدّلها أو أشرح للممثل كيفية إلقاء الجملة، أو أطلب منه إلقاءها
بمفرداته الخاصة. إني أثق بآرائهم وأحكامهم في أمور كهذه. والممثلون
متعاونون دائماً وعلى نحو نافع جداً. خلال هذه العملية تحدث أخطاء طفيفة في
الحوار، لكن الإحساس وروح المشهد يظل هو نفسه، عندئذ أستطيع أن أتقبل مثل
هذه الأخطاء.
اختيار الممثلين جزء أساسي جداً في عملي. عندما
يكون بحوزتك سيناريو جيد وممثلين جيدين فإنك بالكاد تحتاج إلى مخرج. محقٌ
كل من يقول أن اختيار الممثلين يشكّل 90 في المئة من عمل المخرج.
كلاوس كينسكي، كممثل، صاحب موهبة عظيمة، ولم أكن
أخشى أن أعطيه مساحة أكبر لتأليف حواراته. في أحوال كثيرة، هو يحتاج إلى
هذه المساحة. أحياناً، بالطبع، كان يحتاج إلى قيود قوية جداً تكبح جماحه.
العنصر الجمالي يأتي تالياً
*دعني أتحدث باختصار عن العمل مع مصوري. أنا أكره
الذين يريدون بلوغ حد الكمال خلف الكاميرا، أولئك الذين يقضون ساعات وهم
يهيئون كل شيء لتصوير لقطة واحدة. أنا في الواقع أحتاج أفراداً يرون
الأشياء، يشعرون بها كما هي، وليس شخصاً مهتماً فقط بالحصول على أكثر الصور
جمالاً. أنا دائماً أطلب من المصور أن يرافقني إلى المواقع قبل التصوير.
يتعيّن عليه أن يشعر بكل شيء فيزيائياً، بدنياً، حتى لو لم يستطع أن يلمس
أي شيء.
لستُ مهتماً بعلم الجمال. وعندما يتصل الأمر
بالعمل مع المصورين، يندر إجراء أي نوع من النقاش بشأن مظهر الفيلم. دائماً
أقول للمصور: "لا تقلق بشأن تحديد مركز الصورة، أو جعلها تبدو متقنة. لا
تبحث عن ألوان جذابة".
إذا أنت تعودت على تخطيط وتنظيم لقطاتك اعتماداً
فقط على الجماليات، فسوف لن تبتعد أبداً عن الأشياء النمطية المألوفة.
بالطبع، على الرغم من أني قلّما أحاول أن أحقن المشهد بعناصر جمالية، أنا
أدرك أن هذه العناصر تدخل لاشعورياً وبيسر من الباب الخلفي، وذلك ببساطة
لأن خياراتي تؤثر، على نحو محتوم، في القرارات التي أتّخذها.
بطريقة أو بأخرى، أنا أعرف كيف أربط الصور على
الفيلم دون اللجوء إلى نقاشات لا تنتهي بشأن الإضاءة أو هدر الملايين على
تصميم المناظر. ذلك أشبه بمعرفتك كيفية كتابة الرسائل. عندما تنظر إلى
رسالة مكتملة فأنت على الفور ترى أن للكتابة أسلوبا خاصا، من غير مساعدة أو
إرشاد، والذي بطريقة أو بأخرى يتسرّب طوعاً ومن غير إكراه. إذن فالعنصر
الجمالي، إن وُجد، لا ينبغي اكتشافه إلا بعد انجاز الفيلم. وأنا أترك ذلك
للمنظّرين في علم الجمال لتنويري بشأن أمور كهذه.
في الموقع، لا يدور أي نقاش بشأن ما "يعنيه" مشهد
ما أو لقطة ما أو سبب تنفيذنا للقطة بطريقة معينة. المهم هو وضع اللقطة في
البكرة، هذا كل شيء.
حكواتي مراكش
*أنا مجرد سارد للقصة وأعرف إن كانت القصة ستنجح
أم لا. ومن يكتب على نحو سريع، مثلي، لا يستطيع أن يتحمّل التفكير في بناء
الكتابة. هناك إلحاح على رواية الحكاية إلى حد أنها حتماً تخلق بناءها
الخاص. أفلام هوليوود لها "بنية"، وتعتمد على سيناريوهات تحضّر في الوقت
المناسب مع الضغط على الزر المناسب، وحيث الأفلام تُصنع بطريقة ميكانيكية.
هناك نظام إنتاج وتوزيع ضخم في هوليوود، نحسدهم عليها، نحن الذين في
أوروبا. أيضاً لديهم نظام نجوم راسخ، وقدرات استثنائية في المؤثرات الخاصة.
لكنك بالكاد تجد قصة جيدة حقاً. أغلب الذين يعملون هناك يقرّون بهذه
الحقيقة.
أنا أرى دور مخرج الفيلم مماثل للحكواتي في أسواق
مراكش، بينما يحيط به حشد يستمع إليه في اهتمام وفضول. هذا هو أنا.
عن الوثائقية
* أمر مضلل تسمية أفلام لي بوصفها "أعمالاً
وثائقية". هي تأتي تحت هيئة "وثائقية" فحسب. أنا لا أجلس وأفكر ملياً في ما
إذا ينبغي عليّ أن أوضح القصة بهذه الطريقة أم تلك. أعرف أن الميديا لا
تهتم كثيراً بالأعمال "الوثائقية"، لكنني لا أكترث لذلك كثيراً. أنا فقط
أنجز الأشياء التي تكون ملحة بالنسبة لي. لذلك لا توجد هناك حدود بين
الدرامي والوثائقي، كلها مجرد أفلام. كلاهما يتناولان "حقائق"، شخصيات،
قصصاً، ويتم التلاعب بها بالطريقة نفسها في كلا المجالين.
مثل الشعر
*السينما، مثل الشعر، قادرة، على نحو فطري، أن
تُظهر عدداً من الأبعاد أعمق بكثير من مستوى ما يسمى الصدق الذي نجده في
سينما الحقيقة، وحتى الواقع نفسه. هذه الأبعاد هي المجالات الأكثر خصوبة
لصانعي الأفلام.
طاقة الموسيقى
* الموسيقى هي دوماً هامة لي. كنت دائماً أشعر بأن
قلة من مخرجي السينما يفهمون حقاً كيفية استخدام الموسيقى في السينما.
اسمان يخطران بالبال عندما أفكر في هذا الشأن: ساتياجيت راي، المخرج الهندي
العظيم، خصوصاً فيلمه "حجرة الموسيقى"، والأخوان تافياني من إيطاليا. أرفع
قبعتي لهما. واضحان في توظيفهما الموسيقى إلى حد أنهما يجعلاني أشعر
بالخجل، خصوصاً فيلمهما "أبي، سيدي" حيث الموسيقى تبدأ فجأة وتبني حتى تجعل
المنظر كله يبدو كما لو أنه في حِداد.
ثمة خاصيات وأجواء معينة في الصور يمكن أن تكون
مرئية بوضوح أكثر حين تكون هناك موسيقى معينة. الموسيقى تغيّر منظور
الجمهور. إنهم يرون أشياء ويختبرون مشاعر لم تكن موجودة من قبل. بالطبع هذا
يمكن أن يعمل أيضاً بطريقة عكسية: إذا اخترت الصور المناسبة فإن مقطوعة من
الموسيقى، نحسب أننا نفهمها، يمكن أن تتحوّل تماماً وتحمل معنى جديداً
تماماً.
أبعاد الصوت
*الأمر الذي أدركته في وقت مبكر جداً، عملياً في
فيلمي الأول، كان أهمية نوعية الصوت، إذا أراد الفيلم أن ينجح. في أحوال
كثيرة، شاهدت مخرجين شباناً يتمكنون أخيراً من تحقيق فيلمهم الأول، متغلبين
على مشكلات التمويل والتنظيم وغير ذلك، لكن يخفقون في استخدام الصوت. بسبب
ذلك قضيت زمناً أركز في كيفية أداء الصوت في السينما.
كل أفلامي تقريباً مصورة مع استخدام الصوت
المباشر، والذي يعني أنه يستغرق وقتاً أطول وطاقة في التحضير. التحضير
للصوت يأخذ وقتاً أكثر من إعداد اللقطة وتقرير حركة الكاميرا. الصوت هو
الذي يحسم نتيجة الكثير من المعارك في موقع الفيلم. الصوت الجيد يضيف
أبعاداً إلى الفيلم والتي لم تكن تعرف أنها موجودة. شخص مثل بريسون كان
واعياً جداً لهذا، وفي كل أفلامه هو يقدّم لنا الكثير من لحظات الصمت، مع
ذلك كل لحظة مختلفة عن الأخرى، ومشحونة بالجلبة. قارن براعته ورهافته مع
فيلم مثل
Apocalypse Now حيث الصوت لم يعالَج بشكل جيد، والمؤثرات ساحقة
إلى حد أنك تشعر بأنها تضربك على الرأس بشكل مستمر. إنه أشبه بمشاهدة
الأفلام الملونة الأولى ذات الألوان الأساسية، غير المشتقة من ألوان أخرى،
والساطعة على نحو مضحك.
أفلامك مثل أطفالك
* أن تكون قادراً على تأسيس إيقاع للفيلم في
الموقع هو، بالنسبة لي، ما يكونه الإخراج الحقيقي، حيث أن الأخطاء الكبيرة
نادراً ما يمكن تصحيحها ومعالجتها في غرفة المونتاج، وهذا هو السبب الذي
يجعلني حريصاً وحذراً بشأن القيام بالخيارات الصحيحة في الموقع. أبداً لا
أصور كمّاً لا نهائياً من اللقطات.
أثناء مونتاج أي فيلم، يتعين عليك أن تكابد وتتحمل
قسوة انتزاع مشاهد وحذفها في النفاية. هذه واحدة من أكثر الدروس إيلاماً
التي ينبغي تعلمها كصانع للفيلم. في كل فيلم هناك نوع من التوقيت الداخلي
الفريد والذي يجب اكتشافه واحترامه حتى تعمل القصة على نحو لائق على
الشاشة.
حين تنظر إلى المادة التي لديك في غرفة المونتاج،
لابد أن تنسى نفسك، تنسى أي فكرة كنت تحملها قبل دخولك تلك الغرفة، تنسى
القصة والسيناريو. عندما تكون في مواجهة شريطك يجب أن تصبح أصغر من قزم،
أقل من اللطخة السوداء تحت الظفر. غالباً ما أرى المخرجين يخربون أفلامهم
بحشر لقطاتهم في فكرة متصورة سلفاً، مجلوبة من السيناريو إلى غرفة
المونتاج.
يجب أن تدع المادة تفلت من براثن السيناريو، دعها
توسّع أو تقلّص نفسها كما تشتهي. أفلامك مثل أطفالك. قد ترغب في طفل
بخاصيات وصفات معينة، لكنك لن تحصل أبداً على المواصفات الدقيقة المناسبة.
للفيلم امتياز لأنه يعيش حياته الخاصة، وينمّي شخصيته الخاصة. أن تقمع هذا
الشيء هو أمر خطير. الفيلم يعمل بطريقة أخرى. أحياناً تكون للقطات خاصيات
مدهشة قد لا تتوقعها. شخصياً أباشر العمل في الشريط كما لو أنني أمام
مفاجأة مبعوثة لي. إنها بهجة حقيقية أن تحفر وتكتشف الأحجار الكريمة.
من المهم إبقاء المونتير بعيداً عن الموقع قدر
الإمكان. من المهم للمونتير أن يكون قادراً على النظر إلى اللقطات بوضوح
وموضوعية، أما إذا كان شاهداً على كل المشاكل والجهود التي ترافق تصوير
المشهد (وهو الشيء الذي أحبه بشكل خاص) فقد يتعاطف مع المشهد ويقرر
الاحتفاظ باللقطات حتى لو كانت غير صالحة ضمن سياق الفيلم، فقط بسبب كل
العناء الذي صادفناه ونحن ننفذ تلك اللقطات.
عليك أن تقبل بالمتعاونين الأقوياء. أنا لا أحتاج
إلى طاقم فني طيّع، سهل الانقياد، يقولون لي بأن كل ما أفعله عظيم. أحتاج
إلى أشخاص مبدعين وخلاقين، لديهم موقف قوي ومستقل.
أعرف شيئاً يحتاج صانعو الأفلام الشباب أن يتعلموه
في مرحلة مبكرة: لا يوجد فيلم مثالي وكامل. صانعو الأفلام يشعرون دائماً
بأن هناك عيوباً وشوائب في أفلامهم، مهما اشتغلوا بجدّ وأناة في إصلاح هذا
المشهد أو ذاك الكادر، ويخشون أن تكون هذه الشوائب مضخمة ألف مرة أمام
الجمهور. كصانع فيلم، عليك ببساطة أن تتعلم كيف تتعايش مع هذا بالطريقة
نفسها التي يتعيّن على الأب (أو الأم) التعايش مع أطفالهم. قد تكون لدى أحد
الأبناء عاهة ما، أن يتلعثم، والآخر مصاب بالحوَل، والثالث يعرج.. لكنك
ربما تحبهم أكثر لأنهم ليسوا كاملين أو مثاليين. بالنسبة لك، ثمة كمال
معيّن ولا يهم ما قد يظنه أي شخص آخر.
ثمة قسوة في السينما
*كصانع فيلم، أحياناً أتساءل ما إذا كان ما أفعله
هو غير هام وغير أساسي تماماً. السينما قد تمنحنا استبصاراً في حيواتنا، قد
تغيّر نظرتنا للأشياء، لكن هناك الكثير مما يتصل بالسينما والذي يبدو
منافياً للعقل. السينما مجرد إسقاط للضوء. هي لا مادية. وهذه الحياة يمكن
بسهولة أن تحولّك إلى مهرج. حيوات صانعي الأفلام غالباً ما تنتهي بطريقة
سيئة، حتى أولئك الأكثر قوة ونفوذاً. فقط أنظر إلى ما حدث لـ أورسون ويلز
أو بستر كيتون. أجبروا الأقوى على الركوع في آخر الأمر. المزارع الذي يزرع
البطاطس يستحيل أن يرضخ لأحد أو يجعل من نفسه أضحوكة، كذلك الطباخ الذي يعد
ألوان الطعام. أنا رأيت عازفين على الفيولونسيل، بلغوا التسعين من العمر،
ولا يزالون محافظين على وقارهم وجلالهم.. كذلك المصورون الفوتوغرافيون، لكن
ليس صانع الفيلم. طريقتي في التعامل مع المحتوم هو أن أبتعد عن صنع الأفلام
متى ما أمكنني ذلك. أنا أسافر مشياً، أحقق أعمالاً للأوبرا، أربّي الأطفال،
أتعلم الطبخ على نحو احترافي، أكتب.. هي أشياء تمنحني حريةً واستقلالية
خارج عالم السينما.
مجلة البحرين الثقافية
ـ يناير
2012
|