ستانلي كوبريك هو واحد من القلة
بين المخرجين الأمريكان، الذين استطاعوا العمل ضمن نظام الأستوديو في صناعة
السينما الأمريكية متمتعين باستقلالية وسيطرة فنية كاملة على نتاجاتهم
بعيداً عن شروط المنتج أو الموزع، وتدخلات الآخرين، في وقت كان الأستوديو
يهيمن على كل شيء، ويقوم – عبر لجنة إدارية وفنية – باختيار المادة
والعناصر الفنية ومونتاج الفيلم. الفيلم بالنسبة لهم، وفي الدرجة الأولى،
مشروع استثماري. لذلك لا تتاح للمخرجين، إلا في حدود ضيقة، حرية تحقيق فيلم
يعبّر عن رؤاهم الذاتية.
كان كوبريك من المخرجين القلائل،
آنذاك، الذين يشرفون على كل مراحل صناعة الفيلم من اختيار المادة وكتابة
(أو المشاركة في كتابة) السيناريو إلى التخطيط والإشراف على إنتاج العمل،
واختيار الممثلين والفنيين، واختيار الموسيقى، والإشراف على الإضاءة
وانتقاء الملابس، والمشاركة في تصوير الفيلم وفي المونتاج، وحتى مرحلة ما
بعد الإنتاج. كان القوة المتحركة والمتحكمة في عملية تحقيق الفيلم. بهذا
صار، وهو في الثلاثين من العمر، نموذجاً للمخرجين الشبان الطموحين.. حتى
قال عنه أورسون ويلز: "من بين الجيل الشاب من المخرجين، لفت كوبريك انتباهي
كمخرج عملاق".
أفلامه تكشف عن براعة تقنية، حس
ملحمي، رؤية فلسفية، توجه ساخر، شاعرية بصرية.
تعلّم كوبريك مهنته من الصفر.
وهو بخلاف غيره من المخرجين، لم يدرس ولم يتدرّب بالعمل في مهمات ووظائف
فنية في الاستوديوهات السينمائية بحيث يشق طريقه من الخطوة الأولى عبر
امتهان الأعمال المعتادة، بل علّم نفسه تقنيات الإخراج السينمائي والمظاهر
المتنوعة لعملية تحقيق الفيلم، حتى اكتسب سمعة كمخرج مؤلف، مبدع لعمله،
يتميّز بالبراعة في تكوين اللقطة واستخدام الإضاءة وتوظيف الصوت. وقد بلغ
مكانة بارزة ضمن أهم السينمائيين في العالم.
وهو مقل في الإنتاج، بين الفيلم
والآخر سنوات، ذلك لأن أعماله تستغرق وقتاً طويلاً في الإعداد والتحضير
والتنفيذ، ولأنه يشرف شخصياً على كل مراحل إنتاج الفيلم وتسويقه.
ولد كوبريك في 26 يوليو 1928، في
برونكس بنيويورك. تخرج من المدرسة الثانوية في 1945. في صباه كان يحلم بأن
يشارك في فرقة جاز كعازف. مارس الألعاب الرياضية، وارتاد صالات السينما مع
أمه، ومن أبيه استمد شغفه بلعبة الشطرنج والتصوير الفوتوغرافي.. كلاهما –
كما يقول - ساهما في تحوّله إلى الإخراج السينمائي.. وعن هذا يقول (Photoplay,
Oct. 1987 ): "الشطرنج يساعدك في التحلي
بالصبر والانضباط في وقت يبدو فيه القرار المتهور جذاباً جداً".
عمل مصوراً في مجلة
Look وهو في السادسة عشرة من عمره. يقول (The Queen Magazine, 13.3 1963
): "عملت في مجلة
Look مصوراً فوتوغرافياً خلال الأربعينيات، وقد اعتدت
أن أرتاد السينما وأشاهد الأفلام طوال الوقت".
ويقال أنه شاهد كل الأفلام
الموجودة في متحف الفن الحديث. وقد وظّف ما ادخره من عمله في المجلة لتحقيق
فيلمه الوثائقي الأول في 1950، وهو قصير بعنوان "يوم الملاكمة" عن قصة
مصورة كتبها لمجلة
Look عن ملاكم من الوزن المتوسط. صوّر الفيلم بكاميرا استأجرها، معتنياً
بكل جزء من العملية الإنتاجية، إذ يقول: "فعلت كل شيء بنفسي، من مسك
الدفاتر الحسابية إلى تسجيل الصوت. لم تكن لدي أي فكرة عما كنت أفعله،
لكنني كنت أعلم بأنني سوف أنجز ما هو أفضل من أغلب الأفلام التي كنت
أشاهدها في ذلك الحين".
لصنع هذا الفيلم صرف كل مدخراته،
التي بلغت 3900 دولاراً. ثم تمكن من بيعه على شركة
RKO بأربعة آلاف دولار، أي لم يربح من الفيلم غير مئة
دولار. لكي يحقق فيلمه الوثائقي الثاني، في العام التالي، كان عليه أن
يستقيل من المجلة. وهو أيضاً فيلم قصير بعنوان "القسيس الطائر" عن قسيس
يسافر عبر الجنوب الغربي، متنقلاً من أبرشية إلى أخرى. بعد تنفيذه، لم يحصل
على عروض شراء من الأستوديوهات.
كان يقضي أغلب أوقاته في لعب
الشطرنج، في أماكن معينة من الحديقة العامة، حيث من خلال هذه المباريات كان
يكسب بعض النقود بسبب مهارته في اللعبة.
عندما أدرك أن الأفلام الوثائقية
غير مربحة، بدأ يفكر في تحقيق أفلام درامية.. "الأفلام السيئة شجعتني أكثر
من الجيدة، فقد كان بإمكاني القول: أنا لا أعرف الكثير عن صنع الأفلام لكن
بوسعي أن أرى كيف أجعل من فيلمي أفضل من تلك التي شاهدتها.. لقد شعرت بيقين
من أنني لن أحقق فيلماً أسوأ من تلك التي كنت أشاهدها كل أسبوع" (المصدر
نفسه)
انتقل كوبريك إلى بريطانيا قبل
الشروع في تصوير فيلمه "لوليتا" هناك في العام 1962. عندما وجد أن العيش
والعمل قرب لندن ملائم لطبيعته ومزاجه وحاجاته، وتتوفر فيه التسهيلات
المطلوبة، قرر الاستقرار على نحو دائم، والعيش مع عائلته في الريف
الإنجليزي، حيث يعمل في مراحل ما قبل وما بعد الإنتاج في بيت يصفه كوبريك
بأنه "ريفي جميل يقع خارج لندن. البيت يحتوي على 25 حجرة، 15 منها مخصصة
للعمل السينمائي: المونتاج، العرض، المكاتب. بوابة البيت الوحيدة ارتفاعها
أربعة أقدام لمنع كلابنا من الخروج". (Chicago Tribune, 21 June 1987)
ويضيف قائلاً (المصدر نفسه):
"هناك الكثير من المعلومات الخاطئة عني. والقصص تزداد توسعاً فيما هي تتكرر
في الصحف. قرأت مرة أنني أرتدي خوذة لاعبي كرة القدم وأنا جالس في السيارة،
وأنني لا أسمح لسائقي أن تتجاوز سرعة السيارة 30 ميلاً في الساعة. الحقيقة
أنني أقود بنفسي سيارة بورش بيضاء، وأشعر بمتعة كبيرة في السياقة. كما أنني
لا أرتدي أية خوذة. وليس لدي سائق. لذا فإن القصة برمتها غير صحيحة.
عملياً، كل ما أقرأه عن نفسي باطل على نحو غريب. مرّة قرأت قصة رواها شخص
يقول بأني استأجرت طائرة هليكوبتر لرشّ حديقتي لأنني لا أحب البعوض. أولاً،
ليس هناك بعوض في حديقتي. ثانياً، القصة منافية للعقل تماماً. وقد كتبوا
مراراً زاعمين بأني شخص متوحد ومنعزل عن العالم. وهذا غير صحيح، فأنا أعيش
حياة طبيعية نسبياً. القصة الوحيدة عني، التي هي حقيقية، أني لا أحب ركوب
الطائرة".
ويقول (Time,
15 December 1975): "انجلترا ساعدتني على
ألا أكون مكشوفاً أمام الخوف والقلق الذي يسود في عالم الفيلم".
لكن رغم إقامته الطويلة في
بريطانيا، التي تمتد لثلاثة عقود، إلا أنه لم يتخل عن هويته كمخرج أمريكي
يصوّر أغلب أفلامه في أمريكا.
توفى ستانلي كوبريك في 7 مارس
1999.
الوطن
البحرينية
ـ 19
فبراير
2012
|