(الأسطورة
عندما تترجم إلى واقع تصبح تاريخا)... هيجل
المخرج
اليوناني ثيو أنجيلوبولوس يعي بأن اليونان الحديثة محاطة بأجزاء وقطع
وأصداء من الماضي. لكن ما الذي يمكن فعله معها؟ أي دلالة يمكن منحها لها؟
مثل هذا السؤال لا ينشأ في واقع اليقظة، لكن في الحلم. ونتيجة ميتا الواقع
(ما وراء الواقع) نجد اتحاد الماضي ووعي الحاضر، وسيكون من الصعب فصلهما.
في
اليونان، هناك الكثير الذي يذكّر الناس بالماضي، من نواح عديدة، بحيث
يتعيّن على كل فرد أن يعقد الصلح مع كيفية التفاعل مع ذلك الماضي في
الحاضر، وفي تخطيط المستقبل. وليس هناك أي طريقة موحّدة لرؤية أو استخدام
هذا الماضي.
طوال
مسيرته كان أنجيلوبولوس مفتونا كليا بالتاريخ. وبما أن كل أفلامه حققها في
اليونان، فإن التاريخ المصور في أفلامه هو التاريخ اليوناني. لكن في
الأحداث "الحقيقية" – الاحتلال الألماني لليونان في فيلمه "الممثلون
الجوالون"، على سبيل المثال - هو يتفادى أي تصوير بسيط أو تقليدي للتاريخ،
ذلك لأن سينما أنجيلوبولوس تفضي بنا إلى استجواب ما يكونه التاريخ نفسه،
وما يعنيه أن تكون يونانيا، ووضع الفرد في كلا الحالتين.
في حين
يلتحم التاريخ والأسطورة الإغريقية بطرق غالبا ما تكون مفاجئة وحاذقة في
هذه الأفلام، فإن أنجيلوبولوس لا يضفي على علاقاتها مع، أو تأثيراتها على،
المصائر الفردية المصورة معان تبسيطية أو اختزالية.
إنه يدمج
المستويات الميثولوجية والثقافية، وحتى الروحية، للتجربة اليونانية
مستنطقاً التاريخ والزمن خارج التخوم المألوفة للمفاهيم السردية والتقليدية
لما هو تاريخي.
التاريخ
والأسطورة الإغريقية هما حضور للأفراد الذين نتابعهم، لكن هذا الحضور يشير
إلى غياب الصلة، القوة، الاستمرارية الثقافية/ التاريخية.. ذلك لأن اليونان
– حسب الناقد فاسيليس رافاليديس – هي "أشبه بدائرة ذات نقاط تقاطع عديدة
لكن بدون مركز".
أفلام
أنجيلوبولوس هي تأمل في التاريخ اليوناني في القرن العشرين. في ثلاثيته:
أيام 36، الممثلون الجوالون، الصيادون.. هو تناول التاريخ اليوناني من 1936
إلى أوائل السبعينيات. في فيلمه "الإسكندر" ركّز على الثقافة والتاريخ
اليونانيين منذ فجر القرن العشرين.
فيلم
"الممثلون الجوالون" لا يُظهر تجريب أنجيلوبولوس مع اللغة السينمائية فحسب،
بل يتميّز أيضا باهتمامه العميق بالتاريخ عموما، وتاريخ اليونان خصوصا، كما
يُرى من خلال مصائر الأفراد. التاريخ نفسه يصبح شخصية رئيسية بالنسبة
لأنجيلوبولوس. في الواقع، نحن لا نجد إلا قلة من المخرجين المشغولين
والمهتمين إلى حد الاستغراق بالتاريخ، المنظور إليه من زوايا متعددة
ومتنوعة.
أفلام
أنجيلوبولوس ليست تاريخية في ذاتها، إنما هي تأملات في التاريخ. في الواقع،
هي ليست مجرد تأملات فقط، بل أنها أفعال تحرر استكشافية معنية بأحداث
تاريخية وراء ما كان في السابق مسلّما به كتاريخ يوناني.
بفيلمه
"الممثلون الجوالون"، على سبيل المثال، قدّم المعالجة السينمائية الأولى
للحرب الأهلية اليونانية (1944- 1950) من وجهة نظر اليسار. بهذا المعنى،
أنجيلوبولوس ليس مهتما فقط بالتاريخ المعترف به، لكن بالأحداث التاريخية
المسكوت عنها، والتي ينبغي أن تصبح، عبر السينما، جزءا من الوعي الثقافي.
حين يستحضر على الشاشة التاريخ المنسي فإنه يرغمنا على إعادة النظر في
مفهوم التاريخ. في أعماله يستفيد من الحكايات الشعبية والأساطير والأحداث
الواقعية، ويقدمها معاً بحيث يدفعنا إلى تجاوز الأحداث نفسها للسؤال عن
أهميتها ومعناها.
مخرجون من
كل مكان حققوا أفلاما "تاريخية"، بمعنى أنها تروي قصصا تدور في الماضي، هي
إما عبارة عن سيرة حياة أفراد مشهورين، مثل لينكولن أو ستالين، أو تكون
القصة مبنية حول أبطال غير موثقين تاريخيا لكن عاشوا في زمن معيّن من
الماضي. ما ينبغي أن نلاحظه في مثل هذه الأفلام، خصوصا تلك التي تصنعها
هوليوود، أنها تركّز البؤرة على مصائر فردية، وإن كانت تدور في الماضي
متأثرة بتلك الأزمنة.
في أفضل
الأحوال، كما في فيلم ديفيد لين "دكتور زيفاجو"، مثلا، نستطيع أن نلمح قوى
التاريخ الاجتماعية والسياسية والثقافية تعمل بقوة من خلال المصائر
الفردية. في أسوأ الأحوال، التاريخ يصبح خلفية ذات أهمية قليلة نسبيا، مادة
للديكور والأزياء.
أنجيلوبولوس ليس مؤرخاً يحقق أفلاماً بل هو فنان يتعامل مع التاريخ انطلاقا
من رؤية خاصة ومنظور مختلف. بخلاف المؤرخين، هو لا يحاول استنباط أو تقديم
نتائج أو أحكام نهائية. هو معنيّ أكثر بأسر شيء من الفيض المتحرّك للصور،
تاركاً تقرير المعاني للمتفرجين.
التاريخ،
كما نختبره في أفلامه، هو مزيج من عدة قوى فيها تتفاعل التخوم المألوفة بين
الواقع والخيال، الفرد والجماعة، المقدمة والخلفية.
أنجيلوبولوس أطلق تسمية "الثلاثية التاريخية" على ثلاثة من أفلامه هي: أيام
سنة 36، الممثلون الجوالون، الإسكندر الأعظم..
أفلامه
غالبا ما تقترح محاولة للرؤية بوضوح من خلال النافذة المعتمة إلى التاريخ
اليوناني في القرن العشرين بكل صراعاته الداخلية، الضغوط الخارجية، المراحل
الماضية، بحيث يختبر المتفرج إلى أي مدى تكون مصائر الأفراد متناسجة داخل
بنية ثقافتهم وزمنهم.
أفلامه
ليست وثائق تاريخية، إنما هي معالجات "قصصية"، قصص خيالية، تعكس وجهة نظره
في النسيج المركّب من التاريخ اليوناني، مستفيدا من القصص والأساطير
والحوادث المعروفة.
العنصر
المتكرر في أغلب أعمال أنجيلوبولوس هو الإحالة المعتادة إلى الميثولوجيا
الإغريقية، وتحديدا "الأوديسة"، التي وفرت البنية الدرامية الأساسية للعديد
من أفلامه. والتي منها، ومن أسطورة أوريست، المسؤولة عن العديد من
التراجيديات الإغريقية الكلاسيكية، استل مادته.
لديه
افتتان عميق بالأسطورة الإغريقية، وبأصداء من ماضي اليونان: الكلاسيكي،
البيزنطي، وغيرهما. إن رحلات أوديسيوس (أو يوليسيس)، وأسطورة أجاممنون
وعودته المأساوية إلى الوطن، هما من أكثر الموضوعات الموظفة في أفلامه على
نحو متكرر.. سواء في تماثل الأحداث، أو اختيار أسماء الشخصيات الميثولوجية،
أو في الأجزاء البصرية المستقاة من تلك الأساطير. أفلامه حافلة بأصداء
وشظايا من ماضي اليونان الكلاسيكي.
هو لا
يقدم رسما متسما بالتقليد أو المحاكاة لأي من الأساطير الإغريقية التي
يلمّح إليها في أفلامه، إنما هو يعيد كتابة الأسطورة الأصلية التي دوّنها
هوميروس وغيره من مؤلفي التراجيديا الكلاسيكية.
إن مشهد
الافتتاحية في فيلمه "إعادة بناء" هو بمثابة إعادة تمثيل عصرية ليوليسيس
العائد من رحلاته إلى وطنه. في فيلمه "رحلة إلى كيثيرا" يقدم لنا قصة
يوليسيس وبنيلوب. وفي "تحديقة يوليسيس" يكشف العنوان نفسه الإحالة
الميثولوجية. في "الممثلون الجوالون" نجد توظيفا دراميا وسياسيا لأسطورة
أوريست. التشابه موجود لكنه غير قسري على الإطلاق. الاسم الوحيد من
الأسطورة، الذي يستخدمه، هو اسم الابن أوريست. أما في ما يتعلق ببقية
الشخصيات، فإنه يسلّم بأن دوافعها مختلفة والحالات ليست نفسها.
* * *
يقول
أنجيلوبولوس:
* في
أفلامي الملحمية، التاريخ يكون في المركز، في قلب المسرح. بينما في أفلامي
الأخرى، منذ "رحلة إلى كيثيرا"، التاريخ يصبح شيئا من اللوحة الجدارية في
الخلفية. بتعبير آخر، ما كان يعتبر تاريخا، يصير صدى للتاريخ.
* التاريخ
يؤثر في الشخصيات، يغيرها ويحوّلها. كل ما فعلته هو أنني رسمتها، وضعت لها
رسما تخطيطيا. هذا ساعدني في تحديد، على نحو صحيح ودقيق، الفضاء التاريخي
الذي فيه يكون مسموحا للشخصيات التحرك والانتقال.
* لو
نتذكر الكلاسيكيات الإغريقية، فإننا نلاحظ أن أغلبها تستخدم أساطير تشير
إلى مراحل غابرة، موغلة في القدم. في هذا السياق، التاريخ موظف كخلفية
متواصلة، مستقلة عن أي اهتمامات تتصل بالموضوع. ارتباطي بتاريخي ناشئ من
حقيقة أنني يوناني، من علاقة التاريخ عموما بالفن اليوناني، وخصوصا
بالأدب.. وفي هذا القرن، بالسينما اليونانية.
* حضور
الأسطورة (في فيلم: الممثلون الجوالون) ليس جليا إلى حد أنها قد تدفع البعض
إلى قراءة الفيلم كتأويل آخر للأسطورة. نحن لا نستخدم ذات الأسماء الواردة
في الأسطورة، إذ لا يوجد لدينا هنا أجاممنون أو إليكترا أو بيلاد وغيرهم.
الاسم الوحيد المستخدم هو أوريست والذي، بالنسبة لي، يمثل مفهوما أكثر من
تمثيله شخصية محددة.. مفهوم الثورة التي حلم بها الكثيرون، التوق إلى
المفهوم المثالي للثورة. أوريست هو الوحيد، من بين شخصيات الفيلم، الذي يظل
صادقا مع نفسه وأهدافه، وهو مستعد أن يموت في سبيلها.
* الشعب
اليوناني نشأ وكبر وهو يلاطف أحجارا جامدة. لقد حاولت أن أجلب الميثولوجيا
من الأعالي وأضعها مباشرة بين الناس.
* في
الحقيقة، ليس هناك من جديد. كل ما نفعله هو مجرد زيارة نقوم بها ثانية، أو
إعادة نظر في أفكار تأملها وعالجها القدماء أولا.
* إني
أستخدم ثيمة يوليسيس (أو أوديسيوس) كمرجع لا تصميم صارم والذي يحتاج أن
يكون متحققا كليا. إنها، كما الحال مع أسطورة أجاممنون وغيرها، جزء من
الثقافة الأوروبية.
* في
فيلمي "الممثلون الجوالون" التسلسل الزمني للفيلم يعتمد على أحداث تاريخية
هامة، ومألوفة لدى العديد من الناس هنا. في فيلم "الصيادون" نجد أن الفترات
العديدة مقدمة من خلال مظاهر من السياسة اليونانية الداخلية التي يجد
الأجنبي، غير اليوناني، صعوبة في تحديد هويتها.
على أية
حال، أنا شخصيا لا أوجّه اهتماما كبيرا إلى تواريخ معينة.
(المادة
معدّة ومترجمة من مصادر متعددة ومختلفة)
الوطن
البحرينية
في 1 يونيو 2008
|