الرحلة
والحاجة إلى وطن – شخصي، سياسي، جمالي، تاريخي، جغرافي – ثيمة تحتل موقعا
مركزيا في كل أفلام أنجيلوبولوس. إنه يبني أغلب أفلامه كرحلات فيزيائية
وروحية في آن، جغرافية وزمنية في آن. الرحلة تأخذ شكل السفر الداخلي،
الباطني. أو أن الشخصيات ترحل بحثا عن إحساس بالغاية أو المستقبل.
في بعض
أفلامه، الرحلة تتجلى في العنوان: الممثلون الجوالون، رحلة إلى كيثيرا (وهي
الجزيرة التي لا يمكن بلوغها أبدا).
في
"الممثلون الجوالون" يقوم الممثلون برحلة تشكّل بحثا عن هوية وطنية، إضافة
إلى البحث الشخصي عن الهوية والقيم في اليونان المعاصرة.
في "رحلة
إلى كيثيرا" يعود الشيوعي العجوز، سبايروس، من منفاه في الاتحاد السوفيتي
فلا يجد وطنا. كذلك المدرّس المتقاعد، سبايروس، في "مربّي النحل" يحاول أن
يعود إلى بيته الذي يصير أشبه بـ إيثاكا بالمعنى الهوميروسي.
"منظر في
السديم" أيضا يتخذ ثيمة الأوديسة حيث الرحلة من وجهة نظر كائنين صغيرين
يبحثان عن أب لم يرياه ولم يعرفاه قط، ومن المحتمل أنه غير موجود.
في "تحديقة
يوليسيس" يقوم ثيو بعبور الحدود، واقعيا ومجازيا، ليرتاد بقية أمم البلقان،
رابطا هذا برحلة البطل الخاصة. في أحد مشاهد الفيلم يقول البطل: "اعتدت أن
أحلم بأن هذا سيكون نهاية الرحلة، لكن أليس هذا غريبا؟ أليس هكذا تبدو
الأمور دوما؟ في نهايتي تكون بدايتي". وفي موضع آخر يقول: "هذه رحلتي
الذاتية". وفي موضع آخر يقول له صديق قديم، وهو مراسل حربي: "عندما خلق
الله العالم، فإن أول ما خلق هو الأسفار." والبطل يكمل: "ثم جاء الشك
والحنين إلى الوطن".
للرحلة
امتداد في الميثولوجيا اليونانية: لنأخذ حكاية أجاممنون ويوليسيس، كلاهما
يعود من الحرب باحثاً عن الوطن، عن البيت. الأول يعود من طروادة ليلقي
مصرعه على يد زوجته، والثاني يقوم برحلة تدوم سنوات.
لكن
الرحلة في أفلام أنجيلوبولوس لا تنتهي نهاية سعيدة. الشخصيات إما أن تظل في
حالة تجوال دائم (الممثلون الجوالون) أو لا تصل أبدا الى المكان الذي تريده
(رحلة الى كيثيرا) أو أنها تعود لكنها تجد نفسها منبوذة ومرغمة على العودة
الى المنفى (رحلة الى كيثيرا) أو تواجه الموت (مربّي النحل).
كل سفر هو
بحث.. بحث شائك محفوف بالوجع: بحث عن الوطن، عن البيت، عن الأب، عن الهوية.
* * * *
يقول
أنجيلوبولوس:
* أبطال
أفلامي الأخيرة هم من المنفيين، إما بالمعنى الحقيقي أو الوجودي للمنفى
الداخلي. الوطن، بالنسبة لي، هو المكان الذي نشعر فيه بالتوازن داخل
أنفسنا، والوئام بين ذواتنا والعالم. الإحساس بأننا وجدنا أخيرا مكانا نكون
فيه مطمئنين ومتحررين من القلق.. ذلك هو ما تبحث عنه الشخصيات في أفلامي
الأخيرة.
* عادة،
في أفلام الطريق، تلك التي تدور أحداثها في الطرقات، نرى الشخصيات تجول من
مكان إلى مكان بلا غاية واضحة ومحددة. في أفلامي، هذه الرحلات لها هدف على
الدوام. فيلمي "رحلة إلى كيثيرا"، مثلا، هي رحلة إلى الجزيرة المتخيلة،
جزيرة الحلم، جزيرة الأمن والسعادة. في "منظر في السديم" يبحث الطفلان عن
أبيهما. المراسل الصحفي في "خطوة اللقلق المعلقة" يتنقل هنا وهناك لسبب
محدد، إنه يحاول أن يكشف النقاب عن لغز السياسي الذي اختفى. في "تحديقة
يوليسيس" الرحلة بأسرها، عبر دول البلقان، تكون مقرّرة من قِبل الرغبة في
إيجاد بعض الأجزاء من فيلم مفقود.
* فيلمي
"منظر في السديم" ليس مجرد عن طفلين يبحثان عن أبيهما. إنها رحلة، والتي هي
دخول في الحياة. في الطريق، هما يتعلمان كل شيء: الحب والموت، الصدق
والأكاذيب، الجمال والدمار. الرحلة، ببساطة، هي وسيلة لتركيز البؤرة على ما
تمنحنا الحياة جميعا.
في "رحلة
إلى كيثيرا"، الرحلة في الواقع إعادة اشتغال على أسطورة عودة يوليسيس وفقاً
للأسطورة التي سبقت هوميروس. هي مماثلة لنسخة دانتي. ثمة رواية وجدت قبل أن
يكتب هوميروس ملحمته تقول أن يوليسيس أبحر ثانية بعد وصوله إلي إيثاكا
(الروائي نيكوس كازانتزاكيس أيضا اختار هذه الأسطورة ليصور في كتابه
"الأوديسة" تكملة عصرية). لذا فإن الفيلم يصبح عن المغادرة أكثر مما عن
العودة إلى الوطن.
*
هوميروس أشار إلى "الرحلة إلى الوطن" لسبب ما. اليونانيون كانوا دائما في
حالة "شتات". اليونانيون رحّالون بالفطرة. وكلما حلّوا في مكان، بدأوا في
إنشاء جالية.
* الرحلات
تحث على التغيير، تحرّض على المعرفة. يتعيّن عليك أن تعرف نفسك على نحو
أفضل. عندما أسافر، فإني أسافر عبر عالمي الداخلي. دافعي للسفر أيضا يعبّر
عن رغبتي في العودة إلى بيتي مرّة أخرى.
* أظن أن
أفلامي هي عن الرحلات التي نقوم بها جميعاً في أي مكان في العالم. المشكلة
هي كونية: افتقاد المكان، البيت، الوطن الخاص بنا.
* كل فيلم
من أفلامي عبارة عن سفر جديد، رحلة خاصة. عندما أشرع في هذه الرحلات
السينمائية فإنني أتعلم أشياء أبدا لم أتعلمها ولم أرها من قبل. صرت أعرف،
على سبيل المثال، طريقة أخرى للحياة، حياة الناس في المرافئ أو في الجبال.
شيء مختلف تماما عن حياتي في المدينة.
لكن
الرحلات تكون عبر التاريخ مثلما هي عبر المنظر الطبيعي.. كما في "الممثلون
الجوالون". والرحلة تشمل كل العواطف والأحاسيس الإنسانية من الحب والنشاط
الجنسي إلى الكراهية والحرب.
* حتى إذا
كان الفيلم يدور في مدينة واحدة، كما في فيلمي "الأبد ويوم واحد"، فإنه
عبارة عن رحلة. بحث. المعرفة تأتي إليّ أثناء الرحلة، عندئذ أتمكن من فهم
أشياء معينة لا يمكن أن أفهمها دون القيام برحلة ما.. بالمعنى الموسع.
* في
اليونان أشعر بأني مثل الغريب الذي لا يزال يبحث عن وطنه، عن بيته. مثل هذا
الشعور يعتريني دوما ولا أعرف السبب. كنت أعبر الحدود داخل نفسي المرّة تلو
الأخرى. والسؤال لا يزال حاضرا: كم تخم يتعيّن علي أن أعبر حتى أصل إلى
هدفي؟
لكن، مع
إني أشعر بالغربة في اليونان، إلا أني لا أستطيع أن أترك هذا البلد.. سوف
يعتريني الشعور ذاته في أي مكان آخر.
* ذات
مرّة، في روما، كنت أقيم في المبنى ذاته مع أندريه تاركوفسكي. كان وقتذاك
(في العام 1983) يصور فيلمه "نوستالجيا". وقد تحدثنا عن النوستالجيا،
المفهوم والإحساس. حاول أن يقنعني بأنها كلمة روسية، غير أني شرحت له بأن
الكلمة يونانية،
nostosوتعني
العودة إلى الوطن. تجادلنا طويلا بشأن أصل الكلمة، ما إذا هي روسية أو
يونانية. أخيرا قال: "عذرا، لم أكن أعرف أنها كلمة يونانية، ظننتها روسية،
فنوستالجيا هي، على نحو عميق جدا، حالة روسية، جزء من النفس والروح
الروسية، إلى حد أني أشعر بأن من اخترع الكلمة هم نحن.. الروس".
إنها
حقيقة غريبة: من بين كل المهاجرين الذين يغادرون بلدانهم للإقامة في
أمريكا، فإن اليونانيين هم الذين، أكثر من غيرهم، لديهم حنين قوي إلى
المكان الذي ولدوا فيه، والذين يعودون إلى الوطن عاجلا أم آجلا. ومع أني لا
أستطيع أن أتحدث نيابة عن الايرلنديين، إلا أني أعلم أن النوستالجيا أيضا
حالة هامة بالنسبة لهم.
لكن ما هو
الوطن؟ إنه المكان الذي تشعر فيه بانسجام مع نفسك ومع الكون. هو ليس
بالضرورة الموضع الحقيقي الذي يوجد هنا أو هناك. وهذا ينطبق كمفهوم على
"اليونان" أيضا، إذ لا أعتقد أن اليونان موقع جغرافي فقط، فذلك ليس مهما أو
مثيرا للاهتمام بالنسبة لي. اليونان أكبر وأرحب بكثير.. إنها تمتد إلى مدى
أبعد من الحدود الفعلية، ذلك لأنها اليونان التي نبحث عنها، مثلما نبحث عن
وطن. لذا فإن اليونان التي في ذهني هي اليونان التي أسميها الوطن.. وليس
هذا المكتب أو هذا المكان، هنا في أثينا، حيث أجلس.
* أقوال
المخرج مترجمة من مصادر متعددة ومختلفة.
الوطن
البحرينية
في 25 مايو 2008
|