وفق إحدى
القراءات أو التفسيرات البطريركية (الأبوية) للتعاليم الهندوسية القديمة،
خصوصا تعاليم مانو
Manuالموضوعة قبل ألفي سنة تقريبا:
عند وفاة الزوج، تجد أرملته نفسها أمام ثلاثة خيارات.. إما أن
تتزوج شقيق زوجها الأصغر، أو تحرق نفسها حية على المحرقة نفسها مع جثة
زوجها، أو أن تعيش بقية حياتها في عزلة، في انضباط، في حالة من إنكار
الذات، منفية عن الحياة، منبوذة من المجتمع، محرومة من أية حياة عائلية، لا
تعاشر غير الأرامل، وأن تظل أرملة حتى تموت.
من هذه
التعاليم يستمد فيلم "مياه" أو "الماء"
Water
مادته، التي تدور أحداثها في منطقة أشرام، أو دار الأرامل، بالهند في العام
1938.. في الفترة التي شهدت عودة غاندي من جنوب أفريقيا ونضاله من أجل
الاستقلال، تحرير الإنسان الهندي من القوانين والقيم التي تكبل حريته
وإنسانيته، محاولة تحسين الشروط والأوضاع التي تعيشها الأرامل.
إلى هذا
المكان الآيل للسقوط، الذي يحاذي نهر الجانجا المقدس، والذي تديره أرملة
عجوز مستبدة، تأتي سارالا: أرملة عذراء في الثامنة من عمرها، مات زوجها
المفترض، المستقبلي، الذي لم تره قط (إذ محرّم على الصغيرات رؤية زوج
المستقبل حتى يبلغن سنا معينة) فوجدت نفسها – دون أن تعي الأسباب وتستوعب
حقيقة ما يجري لها - منفصلة قسرياً عن عائلتها، مبعدة أو منفية إلى مكان
غريب ومعزول، على حافة المجتمع، فيه تتحرك وتعيش الأرامل في خنوع وإذعان،
ممتثلات لتعاليم جائرة تسلب منهن لا ذواتهن فحسب بل وجودهن. مقتنعات بأنهن
غير جديرات بالعيش في المجتمع في غياب الزوج. هن مؤمنات بأن ما يحدث لهن
مجرد امتحان من الإله كريشنا.. فوفق ما يمليه الكتاب المقدس، ينبغي على
الأرملة أن "تعيش مثل زهرة اللوتس الجميلة التي لا تمسها المياه الملوثة
المحيطة بها".
لقد قررت
التعاليم الدينية أن الأرملة فأل سيء ينبغي تجنبه ونبذه، وأن موت زوجها
(الطبيعي والمقدّر) غلطة أو إثم عليها وحدها أن تتحمله وتدفع ثمنه، بالتالي
لابد أن تعيش معزولة، أن تحلق شعر رأسها، أن تنأى بنفسها عن الطعام الحار
والحلويات.. لذا عليها أن تناضل وحدها من أجل البقاء على قيد الحياة عبر
التسول أو ممارسة البغاء بوسائل سرية.
في هذا
المكان تعيش سارالا أيامها في فقر وبساطة وزهد، محرومة من أي اتصال عائلي،
من كل المتع الدنيوية.. معتقدة طوال الوقت بأن إقامتها هنا مؤقتة، وأن
عائلتها حتما سوف تأتي يوما لتأخذها.
إنها، بما
تتمتع به من روح متمردة، مرحة، طليقة لا تعرف الاستقرار، تستجوب ليس فقط
احتجازها غير المفهوم في هذا المكان، بل أيضا منطق الأرامل اللواتي يصادرن
حقها في السؤال والارتياب.
الأطفال،
كما تقول المخرجة الهندية ديبا مهتا، يعلموننا "لأن لديهم فضول الروح الذي
لم تفسده ولم تلوثه الأحكام التي نصدرها ضد الآخرين. نحن البالغون نزداد
إنهاكا كلما كبرنا، نزداد انحيازا لآرائنا وأحكامنا السبقية. الأطفال، على
العكس منا، لا يتعصبون ولا يحكمون مسبقا على الآخرين".
من خلال
عينيها البريئتين، الساذجتين، المفعمتين بالدهشة والحزن، نرى هذا العالم
الغريب، الوحشي، الذي ينعدم فيه الدفء الإنساني والتواصل الحميم (هذا
العالم الذي تصوره كاميرا ديبا مهتاDeepa
Mehta بشاعرية وحساسية تخفف من الحس الميلودرامي الطاغي
بالضرورة في وضع كهذا).
من خلال
الصغيرة أيضا نتعرف على الشخصيات الأخرى التي تتفاعل مع ما تشع به الصغيرة
في أرجاء المكان، وتتأثر بالطريقة التي بها تنظر إلى المحيط والعالم:
شاكونتولا (سيما بيسواس)، ذات الشخصية القوية والمتعاطفة مع الأخريات،
تتخلى تدريجيا عن خنوعها وتبدأ في الارتياب بالتعاليم الهندوسية التي تمارس
الظلم والاضطهاد بحق الأرامل. إنها تتساءل، مثلما من المفترض أن يتساءل أي
امرئ إزاء أية قضية خلافية ذات طابع عقائدي: كيف يمكن لتفسيرات أو تأويلات
أو اجتهادات من وضع البشر لقوانين أو تعاليم دينية، سماوية، مقدسة، أن تصبح
(هذه التفسيرات) بدورها مقدسة ولا يرقى إليها الشك؟
كالياني
(ليزا راي) الجميلة التي تجبرها المشرفة على الدار على ممارسة الدعارة،
لحماية الدار من السقوط في فقر مدقع، وهذا وحده سبب احتفاظها بشعرها
الطويل: كي تكون مرغوبة.
في الأخير
تتجاهل المحظورات والمحرمات لتقع في حب شاب وطني، محامي مثالي، من أتباع
غاندي. كعقاب وقائي تقوم المشرفة مع أخريات باقتحام غرفتها وحلق شعرها كله
مدنسين بذلك جمالها وجاذبيتها.
عن هذا
الفعل الوحشي تقول المخرجة: "أردت من هذا أن يكون تعبيرا بصريا قويا
وفعالا، لأن هذا ما يحدث في الواقع. بنفسي شاهدت نسوة تتعرّض شعورهن للحلق،
ثلاث منهن في المدينة المقدسة فاراناسي. كان منظرا فاجعا يسحق القلب. إنه
عرض بصري، أسرع طريقة، وأكثرها اقتصادا، لإظهار ما يحدث، سواء أ كانت
الأرملة طفلة أو امرأة أو عجوزا، عندما تتحول هذه المرأة جسمانيا من كونها
جزءا من المجتمع لتصبح دخيلة وغير منتمية".
الشاب
الوطني يريد أن يتزوجها رغم معارضة أمه. وعندما تكتشف كالياني أنه ابن رجل
ثري، سياسي مزدوج المواقف والآراء، كانت تؤخذ إليه كعاهرة، فإنها لا تحتمل
العيش مع هذا الأب تحت سقف واحد، لذا تختار أن تنتحر للخلاص من مأساتها.
مثل تلك
الدور المخصصة للأرامل لم تعد منتشرة في الهند المعاصرة، لكن وفقا لما
تؤكده المخرجة، هي موجودة.. والتعاليم ذاتها لا تزال تعاني منها الأرامل
(حسب الإحصاء الرسمي للسكان في العام 2001 توجد في الهند 33 مليون أرملة،
الكثير منهن يعشن في مناطق ريفية لا تزال الأرملة فيها منبوذة)
لقد
استطاعت المرأة الهندية عبر نضالاتها الطويلة والشجاعة أن تحقق إنجازات
هامة، من بينها تحقيق استقلالية الأرملة وحقها في اختيار مصيرها.. تقول
ديبا مهتا: " بعض الأرامل أدركن، ببطء، أن هناك عالما مختلفا في الخارج من
حقهن أن يعشن فيه، أدركن أنهن سوف لن يخالفن القيم الدينية الحقيقية لو
تحركن خارج الدور المفروض عليهن، إذ لا علاقة للدين بما يحدث لهن. إن سوء
التفسير للتعاليم الدينية هو الذي أدى بهن للعيش في هذه الأماكن المعزولة،
وليس الدين نفسه".
بطبيعة
الحال، لم يكن سهلا ويسيرا أن تحقق المخرجة فيلما يتناول مثل هذا الموضوع
الحساس في المجتمع الهندي الذي تغلب عليه النزعة المحافظة، فأثناء التصوير
التمهيدي للفيلم في فاراناسي سنة 2000، قامت بعض الأحزاب اليمينية، مع عدد
من المتشددين الهندوس، بشن هجوم عنيف على المخرجة والفريق الفني، زاعمين
أنهم اطلعوا على السيناريو ووجدوه مضادا للتعاليم الهندوسية، وادعوا أن
العالم لا يحتاج إلى رؤية مشاكل الأرامل في الهند.
قام حوالي
2000 متظاهر من المتشددين باقتحام موقع التصوير، خربوا الموقع، رموا قطع
الديكور في النهر، وأضرموا النار في صور المخرجة، كما وجهوا تهديدات بالقتل
إلى الفنيين والمخرجة (الذين سمّمت التأثيرات الغربية عقولهم). كذلك هدّد
متشددون بالإضراب عن الطعام وبحرق أنفسهم ما لم يتم منع التصوير.. بل أن
شخصا حاول الانتحار قرب الموقع احتجاجا على تصوير الفيلم.. اتضح في ما بعد
أن هذا الشخص يتخذ من محاولات الانتحار وسيلة لكسب الرزق، حيث تستعين به
الأحزاب المتنازعة كوسيلة ضغط لتحقيق مطالبها.. وبالفعل تدخلت الحكومة
وأمرت بتوقيف تصوير الفيلم منعا للتداعيات التي قد تنجم عن هذا العمل،
وحماية للعاملين في الفيلم.
هكذا توقف
المشروع قبل أن يبدأ. وكان على المخرجة أن تهدئ غضبها إزاء ما حدث.. تقول
مهتا: "وعدت نفسي بأنني سوف لن أحقق هذا الفيلم مرة ثانية حتى أكفّ عن
الغضب. كلما نظرت إلى النص اعتراني ذلك الشعور الرهيب، المقيت، بأنني تعرضت
لهجوم.. مثل شخص يضربك بعنف في بطنك وينتزع منك أنفاسك. قلت لنفسي، عندما
أتمكن من التفكير في الفيلم دون أن تتقطع أنفاسي، سوف أعرف أن الإحساس
بالغضب قد زال".
عندئذ، في
العام 2004 استأنفت إنتاج الفيلم مجددا، لكن هذه المرّة في سريلانكا، عاصمة
كولومبو، وبصورة سرية تماما. غير أن المشكلة الرئيسية التي واجهتها هي عدم
وجود سلالم حجرية تفضي إلى نهر الجانجا، الموقع المقدس الذي يحتشد فيه
الهندوس للصلاة وإحراق جثث الموتى. لذلك اضطرت إلى إعادة خلق الموقع قرب
ضفة نهر مهجور جنوب العاصمة.
الفيلم
حقق نجاحا، وحاز على جائزة أفضل فيلم في مهرجان هونج كونج، كما أثنى النقاد
على الفيلم ومخرجته ليس فقط لأنها صورت، بجرأة وحساسية فنية عالية، الوجه
الآخر من الهند، الخفي والمعزول والمسكوت عنه، الوجه المقلق والمزعج، لكن
أيضا لعدم تخليها عن مشروع جوبه بالاستنكار والتهديد من المتشددين، ولعدم
رضوخها لمطالب بعض المتزمتين الهنود في مدن الولايات المتحدة وتورنتو بكندا
(حيث تقيم) الذين نصحوها "وديا" بصرف النظر عن الموضوع، زاعمين بأن ما يريد
أن يطرحه الفيلم من نقد لقيم وتقاليد هندية هو أمر بالغ التعقيد بالنسبة
لجمهور أجنبي يجهل طبيعة تلك التقاليد وجذورها.
فيلم
"مياه" هو جزء آخر من أفلام حققتها ديبا مهتا تتصل بعناصر الطبيعة،
العناصر التي شكـّلت العالم، العناصر التي تحمل في داخلها
النقائض، فهي تغذّي وتدمر، تحمي وتهلك، يمكن استخدامها في حياتنا على نحو
بنـّاء أو على نحو هدّام.. هكذا الحال مع النار، ومع الماء الذي هو مصدر
الحياة والموت معا.
تقول مهتا:
"السبب الذي جعلني أطلق هذه الأسماء على أفلامي، هو أن هذه العناصر هي التي
تغذّينا وترعانا، في الوقت نفسه، هي تملك القدرة على تدميرنا. كل أفلام
الثلاثية تتعامل مع حالات الانبعاث والموت".
من قبل
قدمت المخرجة: "النار"
fire (1996) عن العلاقة الاجتماعية و العاطفية بين امرأتين من
الطبقة الوسطى تنجذبان إلى بعض بحثا عن الدفء الذي تفتقدانه في حياة زوجية
خالية من الحب. هذه العلاقة "المثلية" أثارت سخط وغضب بعض الجمعيات الدينية
والسياسية في الهند، وأدت بالمتشددين والمتزمتين إلى التظاهر وحرق إحدى
الصالات، بذريعة أن الفيلم يعرض صورة مشينة عن الهند. لكن ذلك لم يفض إلى
منع الفيلم، والذي حاز على عدد من الجوائز العالمية منها جائزة مهرجان
شيكاغو كأفضل إخراج وأفضل ممثلة، وجائزة لجنة تحكيم مهرجان فيرونا كأفضل
فيلم.
في 1998
قدمت "الأرض"
earth عن قصة حب تدور في بيئة من الصراعات الدينية
والسياسية بين الهندوس والمسلمين في العام 1947 والتي أدت إلى التناحر
وتقسيم البلاد إلى الهند وباكستان. هذا الفيلم رشح للأوسكار كأفضل فيلم
أجنبي، كما حاز على عدد من الجوائز.
عن هذه
الثلاثية، تقول مهتا: "إذا كان فيلمي (النار) عن السياسة الجنسية، فإن
(الأرض) عن السياسة القومية، و(مياه) عن السياسة الدينية وتأثيرها على
الفرد العادي".
الوطن
البحرينية
في 16 مارس 2008