(إن
الجلوس فى مكان مظلم ومشاهدة الأفلام بشكل جماعى لا شك أنه يُحدث تأثيرًا
ما) مارك مانسون.
لا يمكن قياس حجم افتقاد أى تظاهرة سينمائية حية بالنسبة لمن اعتاد مشاهدة
الأفلام فى القاعات المظلمة عبر طقس جماعى، حيث تبدو الأذهان مجتمعة كشاشة
عرض عملاقة تشاهد كلها حلمًا واحدًا فى نفس الوقت.
هكذا يمكن أن ندرك لماذا نحتفى بعودة أى فعالية سينمائية للحياة- العروض
الحية- عقب عامين من الإغلاق والعروض الافتراضية الكئيبة فى البيوت، عبر
سياق مشاهدة يمكن أن تقطعه أى توافه منزلية خفيفة.
وهكذا تعود منصة الشارقة للأفلام فى دورتها الخامسة عقب دورتين افتراضيتين
إجباريتين- الثالثة والرابعة- لتقديم عروضها بسينما سراب المدينة ومعهد
الشارقة للفنون المسرحية، وذلك من خلال برنامج يضم ثلاثين فيلمًا فقط هذا
العام، ولكن فى سياق أكثر نضجًا وقوة على مستوى البرمجة من الدورات
السابقة، خاصة مع اكتساب فريق العمل الخاص بمؤسسة الشارقة للفنون- مُطلقة
المنصة- المزيد من الخبرات والمقاربات الخاصة بشخصية المنصة؛ كفعالية
سينمائية لا تلقى بالًا للسجادة الحمراء أو أسماء النجوم بقدر ما يهمها أن
تتحول إلى طاقة مفتوحة على تجارب ومغامرات بصرية جامحة وجديدة.
■ أقسام
مع اكتساب المنصة خبرات تراكمية على أثر توالى دوراتها ما بين حية
وافتراضية يمكن أن نلمس تطورًا واضحًا على مستوى تقسيم الأفلام المشاركة
على أساس نوعى واضح بعد أن كانت العروض خلال الدورات الأولى تضم خليطًا من
الأنواع بشكل يصعب معه جذب شرائح الجمهور التى تملك شغفًا بكل نوع أو التى
تريد أن تتذوق أنواعًا مختلفة عن تلك التى اعتادت التورط معها فى تجارب
المشاهدة.
هذا العام تم تقسيم العروض حسب النوع إلى عروض الأفلام التجريبية القصيرة
والوثائقية القصيرة والوثائقية الطويلة والروائية الطويلة بالإضافة إلى
أقسام التكريمات التى تضم عروض ثلاثة أفلام للمخرجة التونسية الراحلة مفيدة
التلاتلى وعروضًا تشاركية بعنوان من السينما الأمريكية بالتعاون مع
القنصلية الأمريكية بدبى. ويمكن أن نضيف إليها قسمًا جديدًا تم استحداثه
وهو سينما الأطفال والعائلات ويعرض فيلم واحد هو «الليتوانى قلب فراشة».
بينما ضمت لجنة تحكيم المسابقات مجموعة أسماء من مخرجى ومنتجى التجارب
السينمائية المستقلة عن كيانات الإنتاج الكبيرة والجماهيرية الواسعة على
رأسهم أسماء مثل المخرج والمنتج السودانى طلال عفيفى والمخرجة والمنتجة
الأمريكية عربية الأصل دارين حطيط، بالإضافة إلى هند مزينة، مريم كشانى،
قيس زايد.
■ ملاحظات
أولية
لا يمكن إنكار حجم التطور الذى شهدته المنصة خلال سنوات دوراتها القليلة
كما سبق أن أشرنا، سواء على مستوى أسلوب برمجة الأفلام أو عدد الأفلام
المشاركة- والذى وصل فى الدورة الأولى إلى 140 فيلمًا دون تمييز على مستوى
سنوات الإنتاج أو الأنواع- هذا العام، وهناك تركيز واضح على الأفلام حديثة
الإنتاج 2021، بالإضافة إلى أن تخفيض عدد الاختيارات جعل من السهل متابعة
كافة البرامج والمسابقات، وهو أمر يحسب لأى فعالية سينمائية، فالعبرة ليست
بالكم وعشرات المواعيد وتداخل الشاشات، والزخم فى أصله هو زخم محتوى قبل أن
يكون زخمًا كميًّا، كما أن العاملين بالمنصة عملوا بالنصائح التى سبق أن
وجهت إليهم فيما يخص استدعاء أصحاب الأفلام المشاركة وذلك لمنحهم فرصة
اللقاء مع الجمهور والتعارف وتكوين شبكة من العلاقات التى غالبًا ما تكون
مثمرة على مستوى العديد من أوجه التعاون وتبادل الخبرات والطموحات.
إن أحد الأدوار المهمة التى تقوم بها أى فعالية سينمائية- أو فنية- هو منح
مساحة للتورط فى أحلام مستقبلية بناء على مبدأ التبادل والتكامل بين أبناء
الذهنية الواحدة- الذهنية السينمائية.
ولكن يظل الحضور المحلى غائبًا بالصورة التى لا يستحقها سينمائيو المنطقة
والتى تحاول أن تضع اسمها فى قائمة أصحاب التجارب التى تعبر عن وجدان وقيم
وطبيعة مجتمعهم وصفاته الإنسانية والحضارية، ولا نقصد فقط دولة الإمارات
المُنظمة للتظاهرة! بل البقعة الخليجية الواعدة بتجارب ومحاولات كثيرة، فلا
تزال المنصة تفتقد الحضور الخليجى الذى يفى بمتطلبات الشاشات التى تحتاجها
العديد من هذه التجارب، خاصة المستقل منها جماهيريًّا أو فنيًّا عن
الاتجاهات السائدة.
على طول الأيام العشرة للمنصة لم نشاهد سوى تجارب خليجية متناثرة؛ أبرزها
تجربة «ما وراء سلمى» من إنتاج منحة الأفلام القصيرة التى تدعمها مؤسسة
الشارقة للفنون ومن إخراج مريم السركال وماريا السيد، وتجربة «فقاعات
السعادة» وهى أيضًا إماراتية من إخراج لطيفة خورى. فى حين ضمت المسابقات
أفلام مثل اليمنى «لا ترتاح كثيرًا» لشيماء التميمى والقطرى «ثم يحرقون
البحر» لماجد الرميحى، ويمكن بسهولة ملاحظة تفوق العنصر النسائى فى عدد
التجارب، وهى دلالة يجب الانتباه إليها فى ظل الحراك الاجتماعى الذى تشهده
دول الخليج وعلى رأسها بالطبع المملكة السعودية التى يلاحظ غياب أى فيلم من
إنتاجها رغم الزخم الكمى الذى تفرزه فى الفترة الأخيرة والذى يحتوى بلا شك
على بعض التجارب الواعدة التى تستحق إلقاء الضوء عليها إقليميًّا على الأقل.
■ كى
لا ننسى
من بين مجموعة الأفلام المشاركة هذا العام وقع الاختيار على الفيلمين
المصريين «20 جنيه فى الشهر» للمخرج الشاب حسن أبو دومة فى قسم الوثائقى
القصير- وهو أقرب لمشروعات افلام الطلبة- والوثائقى الطويل «كما أريد»
للمخرجة الفلسطينية المقيمة فى مصر سماهر القاضى.
يلعب كلا الفيلمين على تيمة الذاكرة، هكذا دون ترتيب، وعلى ما يبدو أن
القصد يكمن فى اللاوعى الجمعى، خاصة مع اختلاف الأجيال بين الاثنين- حسن
طالب بفنون تطبيقية وسماهر خريجة معهد السينما قبل عشرين عامًا- يقرر حسن
أن يصنع فيلمًا انطلاقًا من سؤال جده المتكرر عن سعر الشقة التى يقيم فيها
بعد أن اصابه ألزهايمر (احنا بندفع كام فى الشقة دى؟) فتجيبه الجدة (20
جنيه فى الشهر) تكرار السؤال يدفع حسن إلى محاولة استعادة جده القديم أو
ترميم ما تبقى من ذاكرته عبر ذاكرة الكاميرا التى لا تنسى شيئًا- أفلام
الفيديو المنزلية للمناسبات العائلية واللقاءات الحديثة التى يعيد فيها
الجد تعارفه المتكرر على أفراد عائلته- بينما تنطلق سماهر من ذاكرة أكثر
سخونة، ذاكرة شائكة، حامية، ومضطربة، ذاكرة جسدها قبل عشر سنوات حين كانت
حاملًا فى طفلتها الثانية، ذاكرة امرأة تربت فى رام الله وسافرت للقاهرة
شبه هاربة لكى تطارد شغفها بالسينما ثم تزوجت وعاشت فى عاصمة التحرش
بالعالم (وسط البلد).
تحاول كاميرا حسن أن تظل قريبة من الجد الذى لا يخرج إلى الشارع بحكم حالته
الصحية لكنه يكثف الزمن من خلال المونتاج ليبدو شريط حياته متوقفًا عند
أسئلة بعينها على رأسها سؤال الـ20 جنيه. أما سماهر فكاميراتها تشبه
شخصيتها، متصالحة مع جسدها لأقصى درجة، حتى إنه يبدو حاضرًا طوال الوقت دون
تكلف أو ابتذال، لكنها كاميرا مشحونة بالرفض، تركل الزمن الماضى ركلات
عنيفة بتنفيذ مشاهد مستعادة عن طفولتها ومراهقتها قبل الرحيل للقاهرة،
وتشهر بحاضرها آنذاك- عام تولى الإخوان الحكم ثم حراك 30 يونيو- وتعلن
خوفها المستطير والدائم من مستقبل لا يتغير فيه كل ما حاربته، لأن ذاكرة
الشر أقوى من ذاكرة الحياة نفسها.
يقتفى فيلم حسن أثر الزمن المنسحب من ذاكرة جده، فى حين تعيد سماهر تذكير
نفسها- قبل المتلقى- بمقاطع ومشاهد ومغامرات عاشتها وأدمتها، تحادث أمها
وابنتها فى تماهٍ وخلط زمنى واضح، تمزج حتى ما بين بيتها فى القاهرة ومنزل
عائلتها فى رام الله، لا تصنع لقطات تأسيسية لتفصل ما بين العالمين، ترغب
فى طحنهما معًا لتبذر مسحوق الذاكرة فى وجه المشاهد.
لم نعد نرى أفلامًا تستعرض مظاهرات وهتافات وخلطًا بين الخاص والعام وجرأة
فى توجيه اللوم إلى الأنظمة والمجتمع والسماء نفسها، هذا فيلم لن نشاهده فى
مصر، لكنه سوف يظل وثيقة حية على زمن يجب ألا يفوت أو يطمس أو يشار إليه
بصمت.
ربما يبدو فيلم حسن بسيط الهيئة بصريًّا، ولكنها بساطة شبه متعمدة لإحداث
مقاربة مع شكل الفيلم المنزلى، بينما فيلم سماهر مفعم بغضب التجربة الأولى
التى تريد أن تقول كل شىء بأصوات ذهنية وشعورية متفاوتة العلو، كعادة
التجارب الأولى التى يفتقر فيها المخرج إلى مكر الإيقاع، وأهمية الدلالة فى
مقابل التصريح.
لكن كلتا التجربتين فى النهاية تشكلان تمثيلًا جيدًا للتجارب الوثائقية
المصرية المستقلة عن أى كيانات إنتاجية كبيرة، وكلتاهما تلعبان على تيمة
الذاكرة بمنطقها وأسلوبها وسرديتها الخاصة، حتى لو بدا الشكل متعارفًا عليه
أكثر من اللازم، لكن تظل لكل تجربة ذاتيتها الحميمية التى تشبه البصمة غير
المتكررة. |