أدِرْ ظهرك لصخور شاطئ الحياة، بنتوءاته وأعشابه، وامنح نفسك للموج. أغمض
عينيك، وافتح عينك الثالثة، وأطلق خيالك، ثم تمن أي شيء، أي أحد. لن يكون
سقف خيالك أبعد ولا أعلى من سعاد حسني، فما الذي أعطى هذه الفتاة، دقيقة
الملامح، كل هذه الجاذبية؟
إنه السحر الذي لم تشغل نفسها به، وحاول كل منا أن يعرف بعضه، لكننا اتفقنا
على أنها الفتاة التي تقابلها مصادفة على شاطئ ما، فتشعر نحوها بمشاعر
متنوعة ومتناقضة.. هي روح طليقة، حبيبة غير متكلفة، متمردة نبيلة تؤمن بأن
نيل المطالب ليس بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا «كدهه». إنها ببساطة «الحقيقة»
التي أنهت فكرة أحلام اليقظة، وأسطورة «فتاة الأحلام» لدى جمهور السينما،
لتصبح حلما متجسدا يمشي على قدمين، بثقة لا حدود لها. حلم تتمتع صاحبته
بكاريزما أم كلثوم، وطيف ليلى مراد، وجسارة تحية كاريوكا، وانطلاق هند
رستم، ودلع شادية، وإباء وطموح نادية لطفي، وجاذبية نجمات كن أقرب إلى
الكائنات الملائكية، إلا أنها لم تكتسب ذكاء فاتن حمامة، ذلك الذكاء الذي
«حرم» سعاد، ظلما، لقب «فنانة القرن»، في استفتاء أفضل مئة فيلم مصري،
بمناسبة مئوية السينما عام 1996، وإن «أجمع» المخرجون والفنانون والنقاد
على أنها ملكة التمثيل المتوجة، ولكن بعد الرحيل.
يكفي أن أرى لسعاد حسني أو ميريل ستريب مشهدا حتى أشعر بأن الدنيا أجمل،
وأن الحياة تحتمل. «محطة» سعاد حسنى هي الأكثر أهمية في تاريخ السينما
المصرية، قبلها بسنوات استطاعت تحية كاريوكا أن «توارب» الباب قليلا، فأطل
الجمهور على مفاهيم مختلفة، عن السينما كفن، ونسائها كبشر أرقى من
الملائكة، لو أخلصوا لبشريتهم ولم ينكروها.
في المشهد الأول من «شباب امرأة» تحقق تحية كاريوكا معنى أن تملك امرأة
قرارها، من دون وصاية أي رجل، وفي «الفتوة» تكون في حالة تكافؤ مع الرجل في
رحلة الصعود. ولكن الباب ظل مواربا، لأن تحية عنيت بامتلاك المرأة لحظتها
الحاضرة، وجاءت الموجة الطاغية، مع سعاد حسني لكي ينفتح الباب تماما، مع
مدها النفسي والروحي وموهبتها غير المحدودة، لتؤكد حق الفتاة في امتلاك
المستقبل، مستقبلها تحديدا، دون أن يكون ذلك هبة من أحد يستردها متى شاء،
ولا يكون ذلك إلا بانتزاع هذا الحق «كدهه». لهذا السبب لم تكن سعاد، في
أفلامها، موضوعا للإغراء، ولا للغواية الجنسية، بل موضوعا للحياة ذاتها،
كما يجب أن نحياها. ولعلها الفنانة الوحيدة التي أثبتت أن الحياة أجمل من
مجرد تخيلها، والحلم بها، وأنها تستحق أن نحبها بجنون، وأن «لونها بمبي»،
أو يجب أن يكون، ومؤهلات سعاد في ذلك.. جسد دقيق، رشيق ومراوغ، وجه شفاف،
من فرط صفائه يكشف عن روح تسمح لك بمحاورتها من دون استئذان، وتخاطبك من
غير تكلف ولا حذر، أما العينان فتحملان، مع الوجه، خريطة لكل الانفعالات
البشرية.. التفاؤل، الخجل، الحنو، الجنون، الانطلاق، الخوف، الكبرياء،
الانكسار، الحزن النبيل. لن يزيد إحساسك نحو هذا الكائن على ـ ولن يقل عن ـ
فكرة «الوَنَس» والألفة.
سعاد ليست مجرد «الأنثى»، بل الأهم هي «الإنسان».
إذا كان الإعجاز هو الإيجاز، فقد حققت سعاد هذا المعنى، بقدرتها الفائقة
على الإيجاز، واختصار انفعالات متداخلة ومعقدة في نظرة واحدة، صامتة..
في فيلم «غروب وشروق» فوجئت بزوجها، وهي في سرير أعز أصدقائه. في اللحظات
التي سبقت كلمتها الأولى، قالت عيناها كل شيء، بإيجاز يختصر معاني مركبة،
تتجاوز خوفها بطش زوجها، إلى الإشفاق عليه، تخشى عواقب الصدمة، وتأسى عليه.
كانت تريد أن تفر منه إليه، لكنه ضحية، وهي تعي ذلك، ولا تلومه، وإنما ترجو
له ومنه الرحمة!
في الفيلم نفسه مشهد آخر، ليست طرفا في حواره. تابعت عيناها معركة كلامية
بين زوجها رشدي أباظة وأبيها محمود المليجي، نظرات ليس أدل منها، ولا أبلغ،
في رصد رد الفعل بلا افتعال. لم تكن مضطرة إلى الكلام، ونظراتها دالة
وموحية، بإيجاز يليق دائما بسعاد، وبدراما الموقف.
حتى في أفلامها «الخفيفة»، بإغراء من حسام الدين مصطفي ونيازي مصطفي
وغيرهما، كانت تعطي دروسا في الإخلاص للانفعال، كأنها تبرئ ذمتها من
«تجارية» الفيلم. في «حواء والقرد»، وهو من الأفلام قليلة الأهمية، مشهد
تستدعى فيه سعاد إلى قسم الشرطة، حيث تم احتجاز زوجها محمد عوض، لاتهامه في
قضية شرف، وهي الوحيدة القادرة على تبرئته وإخراجه، إذا اعترفت بأنه كان
معها ليلة أمس، ولم يغادر البيت. وحين تراه تستدعي ملامحها كل الانفعالات
المعقدة والمتناقضة.. الغيرة عليه، الرغبة في الانتقام منه، الخوف من تركه
لعقاب يستحقه. مشهد قصير لكنه درس في فن الأداء.
إيجاز سعاد الإعجازي يتجاوز ملامح الوجه والعينين إلى دراما الصوت أيضا..
أحب السينما حتى أنني أتورط في علمية المشاهدة، ولا أعتبر ما أشاهده
أفلاما، أنساني على باب دار العرض، أو حين تغيب الإضاءة ويحضر ضياء الشريط.
ولأنني لا أنسى تماما أن ما أتابعه مجرد تمثيل، فلا يسهل انتزاع دمعة، ولكن
سعاد حسني في فيلم «الزوجة الثانية» فعلتها، وهي تنبه زوجها إلى سقوط أمه،
في رحلة الهروب ليلا من الطاغية: «أبو العلا، اِلْحَق، أمك وقعت». جملة
قصيرة، مشحونة باللهفة على الزوج، والخوف على الأم، وتوقع الانتقام من
العمدة. انتزعت هذه الجملة مني دمعة سهلة، في إحدى مرات مشاهدة الفيلم الذي
وضعها به صلاح أبو سيف، في الصدارة لتكون، سيدة الأداء الأولى.
وفي أحد مشاهد «الحب الضائع»، حين هم رشدي أباظة بالانصراف، عائدا إلى
زوجته، بعد منتصف الليل، قالت له: «خليك شوية.. خمس دقايق بس». بضع كلمات
محملة بدراما صوت الجسد والروح، رغبات تسمو على الاحتياج الطبيعي لأنثى،
للحاجة إلى «إنسان»، إلى دفء ما، إلى «نَفَس» صديق.
نجحت سعاد في تغيير الصورة النمطية للفتاة والمرأة.
قبلها كانت «المصرية» مغلوبة على أمرها، لا تملك مصيرها. نماذج مفعول بها،
إلى أن أعلنت سعاد الثورة البيضاء. هي ليست ثائرة، بل متمرد لذيذة، شيك،
خفيفة الظل، بهية الجسد والروح، وهي تدرك أنها شيك وظريفة ولذيذة. من خلال
هذه الصفات استطاعت تمرير «رسالتها»، من دون أن تدعي أن لها رسالة، وأعلنت
«الزواج على الطريقة الحديثة»، وتمردت على مهنة أمها بإدراك أهمية التعليم
الجامعي، في «خلي بالك من زوزو»، وحين تتواطأ على الأم مكائد ومؤامرات
تستهدف «زوزو» نفسها، ومستقبلها مع ابن الذوات، تثور على تقاليد بالية،
وتخطو بشجاعة لكي تنقذ الأم، وتنتصر للقمة العيش، وتقدم رقصة مدهشة تبدأ
بخجل، ثم تكتسب، مع الشعور بالثقة والانتشاء، قوة وحرارة تذيب أوهام «أهل
القمة»، وتجبرهم على احترامها.
كما نجحت في تكريس شعور البنت بالثقة، وعدم الخجل من جسدها، أو في المبادرة
باختيار مستقبلها وشريك حياتها. حاول أن تستعرض أفلامها.. ابنة وزوجة وأما
وصديقة وزميلة وجارة، ولن تملك إلا التعاطف معها، والتوحد مع الشخصية التي
تجسدها، فهي لا تستجدي «الحب»، ولا الحياة، بل تسعى إليهما ما استطاعت إلى
ذلك سبيلا، وهي تصنع السبيل. ربما لهذا السبب افتقدناها عشر سنوات، بعد
«الراعي والنساء». كنا نتناسى «حكاية» مرضها المزمن، وعلى الرغم من توقع
سماع نبأ الوفاة، بين لحظة وأخرى، فإن حدوث الموت، كان له وقع الدهشة.
ارتبكنا بحق، لأننا سعاد إحدى حقائق الحياة، ورسالتها.. امنح نفسك الحياة،
تمنحك الحياة خلودا يليق بك.
مع سعاد يكون الجمهور في حالة عشق للحياة، يتوحد مع بطلة يرفض موتها على
الشاشة، وهي منزلة لم تشاركها فيها فنانة أخرى، للمرة الأولى تتغير نهاية
«المتوحشة»، من أجل عيون مشاهد لا يريد أن يصدق موت الحياة. حدث ذلك في
فيلم «المتوحشة»، وقد انتهت «طبعته» الأولى بموت البطلة، فاعترض الجمهور
على تلك النهاية، ولو كانت مجرد «تمثيل». وتفاديا لتحطيم دار العرض، حذفت
تلك النهاية، ثم اضطر المخرج سمير سيف إلى تصوير نهاية أخرى سعيدة، في
سابقة تخص سعاد التي تعرضت في نهاية «الحب الضائع» للموت، ولم يستنكر
الجمهور الذي تواطأ مع بركات تلك النهاية، مدركا أنها أقرب إلى الاختفاء لا
الموت. قسا الجمهور والمخرج على البطلة، لكي ينقذوا أنفسهم من حيرة مصرية
«مزمنة»، تحكمها أخلاقيات اجتماعية، عن ضرورة «إبعاد» الحبيبة، حرصا على
وهم الحفاظ على أسرة منهارة، لا حرارة في علاقة طرفيها، ولا تواصل.
يبقى أمر مهم، يتعلق باللغط غير المبرر نشره، حول انتحارها أو سقوطها،
وتكرار الخوض في ذلك، تأكيدا أو نفيا، بصورة أقرب إلى انتهاك قدسية الموت،
وحرمة الموتى. وبمناسبة «أسطوانة» الانتحار، التي تتردد منذ وفاتها في
يونيو 2001، أنقل عن كتاب «ما بعد الإخوان المسلمين؟» لجمال البنا قوله إن
أحد المهاجرين من مكة إلى المدينة قد انتحر، تحت تأثير الاكتئاب الناتج عن
مغادرة وطنه الأم «مكة»: «انظر هذا الحديث في صحيح مسلم «كتاب الإيمان»
الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر، وهو يروي قصة أحد المهاجرين قطع أحد
شرايين يده فنزف دمه حتى مات، ثم رآه أحد أصحابه في المنام فقال ما صنع
ربك، فقال غفر لي بهجرتي إلى نبيه، ونقلت الرواية للرسول فدعا له. والحديث
يخالف المأثور عن خلود المنتحر في النار. وهناك تعتيم فقهي على هذا
الحديث».
لهذا اللغط منزوع الذوق والحكمة، معنى إيجابي واحد، فإذا كانت سعاد قد
شغلتنا في حياتها، بكل ما تمثله من معان، فإن هذه القيمة باقية، بعد أن
آثرت أن تشغلنا مرة أخرى في حياتها الثانية.. بعد الرحيل. طوبى لها.
سعاد المصرية الشامية ليست شأنا مصريا، وقد شاهدت عام 2012 في مهرجان
«أوسيان سيني فان» في نيودلهي الفيلم اللبناني «اختفاءات سعاد حسني
الثلاثة»، واعتمدت مخرجته رانية اسطفان على مشاهد من أفلام سعاد، على مدى
70 دقيقة، ولا يترك الفيلم لمشاهده فرصة لالتقاط الأنفاس، ربما لأنه يتابع
سعاد حسني بتسلسل اختارته صانعة الفيلم، وربما يشعر بعدم الرضا لأن «حضور»
سعاد يستحق فيلما أفضل، ستكون سعاد حسني سبب الإعجاب بالفيلم أو عدم الرضا
عنه، وإن كان عنوانه يثير فضولا يخلو منه الفيلم. يوحي العنوان بأن الفيلم
يبحث عن غموض النهاية، ولكنه يريح المشاهد منذ البداية حين يكتب أنها
«انتحرت» في لندن، ثم يبدأ من مشهد الجري واللهاث في فيلم «حسن ونعيمة»،
وصولا إلى أفلامها الأخيرة، ويظل «بئر الخيانة» خيطا يربط فصول الفيلم
الثلاثة، وفيه تعترف: «حاسة إني تعبانة، زي ما أكون مشيت مشوار طويل»، وفي
المشهد الأخير لفيلم «القاهرة 30» نتابع مفارقة، معجزة بشرية هزمت الطواغيت
العرب بفضل وسائل الاتصال، ولم يكن «علي طه» يتخيل أن الثورة سوف تستغني
يوما عن منشورات مطبوعة يوزعها وهو يعلم أن رصاصة ستنهي حياته، على خلفية
صوت سعاد: «لازم نفوق، لازم نشوف احنا عايشين فين. في بلد ولا في غابة؟ في
بيت ولا في سجن؟ في بلدنا ولا في بلد غيرنا». كلام موجع تنطقه سعاد بحرقة،
لا يقل صدقا عن قولها المتفائل، على خلفية رقصة زوزو الشهيرة بدلا من أمها
المذبوحة من الألم:
«كل واحد يعرف حقيقته كويس، ما يبصش هو أصله ايه، يبص لقدام، دايما لقدام.
ايه رأيكم يا ولاد؟». تصفيق! |