الاغتيال الفاجع الذي حدث للمخرج العالمي مصطفى العقاد ضمن سلسلة التفجيرات
الانتحارية التي ضربت
ثلاثة فنادق في الأردن باسم الدين.. لم يكن حدثاً عادياً أو خبراً فنياً
سهلاً.. وإنما جاء كوقع الصاعقة على الكثيرين من معجبيه وغير معجبيه.. فهل
كان منفذي هذا الحدث على علم بأن من بين ضحاياهم سيكون مخرج قدم للإسلام
والمسلمين خدمات كان صوتها مدوياً ليسمعه العالم كله باحترام فاق دوي
انفجاراتهم، رغم أن
أعماله لم تزد عن فيلمين فقط. رحل في الثانية والسبعين، وفي جعبته
سيناريوهات وأحلام لم يتسن له تحقيقها. إنه العربي الذي استطاع أن يغزو
هوليوود من غير أن يتناسى جذوره العربية والإسلامية، محققاً أفلاماً ذات
مستوى عالمي.
ففي عام 1976 قدم مصطفي العقاد فيلم الرسالة، الذي يتناول فيه السيرة
النبوية وتاريخ نشأة الإسلام، كان التحدي الأعظم في هذا الفيلم هو نجاحه في
إظهار صورة النبي وصوته بالرغم أن الفيلم بأكمله يتناول دعوته المحمدية.
ولم يكن هذا غريبا على العقاد الذي سافر إلى أمريكا ليدرس هناك منذ 50 عاما
تقريبا وهو لا يحمل معه سوى المصحف الشريف ومائتي دولار هي كل ما جمعه
والده الفقير في حلب وقد أوصاه أيضا وهو يودعه بألا ينسى أن اسمه مصطفي.
أما فيلمه الآخر، فقد كان (أسد الصحراء) الذي يحكي عن نضال الشعب العربي
الليبي في مواجهة الاحتلال الإيطالي، هذا النضال الذي تمثل في سيرة المناضل
عمر المختار.. صاحب أهم شخصية في تاريخ ليبيا الحديث. إن مصطفى العقاد كان
يفخر دائماً بالمشهد الأخير من هذا الفيلم، حيث يتم إعدام المختار وسط
زغاريد النساء لهذا البطل. «...أعتقد أن أجمل شيء قمت به في ذلك الفيلم
عندما ختمت الفيلم بمشهد استشهاد عمر المختار، ليس فقط الاستشهاد بقدر ما
هو مقابلته بالزغاريد، أذكر عندما قابلت حسن نصر الله في بيروت وكرمني قال
لي: هذا المشهد أهم مشهد ولن أنساه وهو الاستشهاد وزغردت الاستشهاد».
الحلم.. هو الذي صنع شخصية العقاد العالمية.. فبدون هذا الحلم لم يكن لعربي
من عائلة فقيرة أن يتخطى هذا الحاجز ليصل إلى معاقل هوليوود.. فهو يحكي عن
أحلامه ومغامرته الاستثنائية، فيقول: «...حلب، هذه المدينة
الصغيرة التي أحملها في قلبي دائماَ هي مدينتي، ولدت ونشأت فيها.. كان لدينا
جار يعرض الأفلام السينمائية، وكان يأخذني في الصغر لأتابع كيفية عرض
الأفلام وقص
المشاهد الممنوعة. ومع مرور الوقت أصبحت مولعاَ بالسينما. وعندما بلغت
الثامنة عشرة من عمري، قررت أن أصبح مخرجاَ سينمائياَ، وفي هوليوود
تحديداَ. ويا لها من ردة فعل كانت لأهالي حلب بعد أن بُحْتُ بأحلامي، فقد
أضحيت أضحوكتهم. قالوا: احلم على قدك، اذهب إلى الشام أو مصر لتدرس الإخراج
هناك... لكني كنت مصمماَ على هوليوود». ويضيف: «...عندما أعود إلى الوراء،
أجد أن ما كنت أفكر فيه آنذاك كان ضرباً من الجنون، فأولاً
أبي رجل فقير «على قد حاله».. ثانياَ، الفكرة كانت مرفوضة اجتماعياَ..
لكنني قررت
وعقدت العزم.. كنت حينها طالباَ في إحدى المدارس الأميركية عندما قدمت
طلباَ لجامعة
«يو.سي.ال.آي». شاء القدر أن أحظى بالقبول... عندها قال لي والدي: افعل ما تشاء
لكنني غير قادر على إعانتك مادياَ.. مكثت عاماَ كاملاَ أعمل لكي أوفر ثمن بطاقة
الطائرة. وقبل رحيلي، أعطاني والدي مصحفاَ و200 دولار، وهذه كانت أقصى قدراته».
بدأت حكاية مصطفى العقاد السينمائية عندما غادر بلدته الأصلية في مدينة حلب
السورية إلى الولايات المتحدة وهو لم يتعدى العقد الثاني من عمره. وهناك
التحق بجامعة جنوب كاليفورنيا ونال شهادته في حقل الدراسات السينمائية، مما
مكنه من العمل مع أشهر مخرجي السينما العالمية مثل المخرج الأميركي "سام
بكنباه" أحد أبرز الأسماء في الفن السابع بأميركا والذي كانت أفلامه تحمل
سمة العنف الموظف دراميا، وهو الذي اعتبر في نظر النقاد من جيل التلفزيون،
قام العقاد بالعمل مساعدا لبكنباه في أكثر من عمل قبل أن يقرر المضي بعيدا
في عالم السينما ويأخذ على عاتقه تحقيق أفلامه الخاصة به، وهي لا تتجاوز
عادة الأفلام البسيطة المستقلة ذات التكلفة المتواضعة في ميزانياتها،
ولكنها مكنته لاحقا من الدخول إلى حقل الإنتاج السينمائي وفي هذا الإطار
قدم بالتعاون مع مخرجين مكرسين مثل "جون كاربنتر" سلسلة أفلام العنف والرعب
التشويقي المسماة «الهالوين» وهذا ما جعله يجني مردودا لا بأس به من
إيرادات شبابيك التذاكر نظرا للنجاح التجاري الطاغي الذي كانت أفلام هذه
السلسلة تثير إعجاب مشاهديها في مناسبات آخر السنة كل عام وتحديدا في مواسم
الأعياد.
نقترح بأن نصف العقاد بأنه كان أمير الأحلام، تلك التي حقق بعضها، وبقى
البعض الآخر في نطاق الحلم.. مصراً على المضي بها إلى حيث تنتهي به
النهايات.. فقد أمضى عشرون عاماً يبحث عن منتج لفيلمه (صلاح الدين) الذي
كان جاهزاً كسيناريو ورؤية إخراجية.. فها هو يرحل قبل تنفيذه.. مثله مثل
الكثير من هذه الأحلام.. كان أيضاً يحلم بتنفيذ فيلم عن الأندلس، هذه
الحقبة التاريخية التي تمثل في نظره مرحلة من المجد العربي، سياسية وثقافية
وفنية.
لقد أمضى العقاد عمره وهو يحلم ويحلم، وكان آخر أحلامه التي أعلن عنها هو
بناء مدينة سينمائية عالمية ذات مناخ عربي إسلامي.. فقط لنتخيل بأن هذه
الأحلام كانت لدى رجل في السبعين من عمره، وليس شاباً يبدأ مشوار حياته..
فالعقاد كان شعلة من الحماس لم ييأس يوماً من عدم تحقيق أحلامه، ولم تخمد
هذه الشعلة إلا بعد رحيله عن عالمنا.. تلك الشعلة التي انطلق بها إلى
هوليوود وهو في العشرين.
إن هذا الفقد يطرح الكثير من الأسئلة.. التي لابد من التحدث عنها.. أولاً..
هل من القول الفصيح الحديث عن موت بطيء غير مقصود.. أم أن قمة سينمائية مثل
العقاد لابد أن يصاحب فقدانها صخباً ودوياً يسمع آذان الجميع.. فالعقاد
يستحق موتاً كهذا.. موتاً يتناسب واسمه وصيته.. فليس من المعقول أن نقرأ
خبراً صغيراً في صحيفة عن موت طبيعي لهذا الفنان المشاكس.. إنه حقاً حدث هز
الأوساط الفنية وغير الفنية.. وأخذ اسم العقاد يتردد على ألسنة الجميع من
جديد.. بل ونرى الشتائم تحاصر المجرم من كل حدب وصوب.
الأمر الآخر والمثير حقاً بعد رحيل العقاد الفاجع.. هو إهداء الدورة
الأخيرة لمهرجانين كبيرين (دمشق ـ القاهرة) إلى روح هذا الفنان العالمي
الكبير.. ترى لماذا هذا التكريم المتأخر؟ ولماذا يأتي متأخراً جداً؟ لماذا
انتظر مهرجان القاهرة كل هذه السنين حتى دورته الأخيرة ليكرمه ضمن سبعة
مبدعين من أصل عربي ومصري.. وهل من المفترض من مهرجان دمشق أن يفكر كثيراً
قبل أن يبادر في تكريم أهم مبدعي الفن السوري..؟!
لماذا نعطي مبدعينا وسام استحقاق عندما يسبقنا الموت في فعل ذلك..؟! |