لا
زال
رأي
الكثيرين
في
الوسط
السينمائي
والثقافي
في
مصر
يعتقد
أنه
من
المبكر
إنتاج
فيلم
يتناول
ثورة
يناير/كانون
الثاني 2011م
بعمق،
غير
أن
المتأمل
في
فيلم «نوّارة»
لمؤلفته
ومخرجته
هالة
خليل،
والذي
عُرض
في
مهرجان
القاهرة
السينمائي 2016،
وقبله
مهرجان
دبي
السينمائي 2015،
وعدة
مهرجانات
أخرى،
ونالت
عنه
بطلته
منة
شلبي
جائزة
أفضل
ممثلة
في
أكثر
من
مهرجان،
يتأكد
من
اكتمال
الرؤية
المنطقية
والمعالجة
الفنية
التي
قدم
بها
الفيلم،
ولعل
ذلك
يدحض
مقولة
أن
الأحداث
الكبرى
يجب
أن
تمر
عليها
سنوات
حتى
تعالج
في
فيلم
أو
تؤلف
عنها
رواية،
بحجة
أن
يتسنى
سبر
أغوارها
وتفهم
حيثياتها
ونتائجها،
ولكن
ما
حدث
مع
فيلم
نوارة
يرسخ
وعي
المخرجة
في
استخلاص
قصة
إنسانية
تلامس
ما
بعد
الثورة
للدرجة
التي
تحيل
إلى
وصف
الفيلم
بأنه
أعمق
فيلم
تناولها،
وأفضل
فيلم
لمخرجته
بعد
سابقيه «أحلى
الأوقات»
و «قص
ولزق».
وفي الوقت نفسه، يبرهن الفيلم على براعة منة شلبي في أداء دورها الذي بلغت
فيه التقمص الكامل للشخصية التي أدتها، فيظهر التناسب الدقيق بين أدائها
وتدفق مشاعرها بشكل غير متكلف، للدرجة التي تمكّن من القول بأنه أفضل ما
أدت للسينما والتلفزيون حتى الآن...
وبالطبع لا يفوت على المشاهد جاذبية أداء الفنانين الآخرين:
محمود حميدة، شيرين رضا، أحمد راتب، رجاء حسين، أمير صلاح الدين، فأداؤهم
مدروس ومقنع.
الفيلم يقدم مرحلة ما بعد الثورة المصرية في ربيع
2011م.
وهي مرحلة بينية لشعب انتفض وينتظر مستقبلاً مشرقاً ومستقراً، وهو كحال
نوارة التي عقد قرانها وتنتظر إتمام الزواج المستقر في بيت مستقل.
حالة بينية
يطرح الفيلم تلك الحالة البينية بعمق، ويذهب إلى تأثير الثورة على الشعب
المصري بمختلف طبقاته.
لا ينحاز إليها كمؤيد متحمس أو يجابهها كمعارض متشدد.
إنما يتداخل معها بتوليف يحمل من الحسرة أكثر مما يحاول الإفصاح عن وجهة
نظر عاطفية أو رومانسية سطحية، ويذهب إلى السؤال:
لماذا أخفقت الثورة في نصرة الفقراء؟ وفي اللحظة نفسها يُسائل النظام
المضطرب بعد الثورة:
لماذا فعلتم بهم هذا؟...
إنه فيلم مكاشفة حميمة لمخرجة أحبت الطبقة المسحوقة وتعاطفت معها بالمنطق
الإنساني المعتدل.
أفق ترقب
ينثال العمود الدرامي للفيلم في إطار سردي متأنٍ وبإيقاع متمهل يفتح أفقاً
للترقب، ويعطي للكوادر حقها في تمكين المشاهد من استيعاب التكوين الكلي
للمَشَاهِد، ما يحيل إلى السرد التتابعي الكلاسيكي، وكأنك تستمع إلى حكيم
مسن يروي لك قصة بطريقة عذبة، فيتحقق جوهر اللغة الفنية التي جعلت الفيلم
بمثابة الشهادة الرصينة، وكرسته كـ
«حدّوتة»
دافعة للتخيل لما قد يكون قد حدث من عشرات ألاف القصص للفقراء، و
(الفلول)
في خضم تلك المرحلة.
خطوط في الحبكة
نوّارة تعمل خادمة لدى أسرة
«أسامة
بيه» (محمود
حميدة)،
مسئول حكومي سابق ونائب برلماني ويمثل ما أطلق عليه
«الطبقة
الجديدة»
مع زوجته
«شاهندة» (شيرين
رضا)
وابنته
«خديجة» (رحمة
حسن).
نوّارة متزوجة بشاب من إقليم النوبة في جنوب مصر ويدعى
«علي» (أمير
صلاح الدين)
منذ خمس سنوات لكنهما لا يستطيعان العيش معاً بسبب عدم توافر مسكن للزوجية،
ورفض علي العيش مع والدته وأخواته في شقة ضيقة، ومع ذلك يعاني من كساد
عمله، وعدم قدرته على إلحاق والده بمستشفى حكومي أو خاص.
هي، خادمة طيبة شديدة التفاؤل، مُحبة وسيحبها المُشاهد، وهي لا تشعر بإحباط
نتيجة ظروف حياتها القاسية، تعيش مع جدتها
(رجاء
حسين)
وتتمنى أن تساعدها لتقوم بأداء فريضة الحج، عطوفة عليها وعلى كتاكيتها،
رقيقة وبشوشة، وتضطر يومياً لتعبئة غالونين بالماء من صنبور عمومي يبعد عن
منطقتها العشوائية المقطوعة المياه.
يتم القبض على الرئيس حسني مبارك وبالتالي تتم ملاحقة أعوانه والمتورطين في
حكومته الذين بدئوا في مغادرة البلاد هربا وخوفاً من القبض عليهم
ومحاكمتهم، ولكن
«أسامة
بيه»
لم يكن مقتنعاً بالسفر
(الهرب)
إلى الخارج مع أسرته، وعندما اقتنع طلبت زوجته
«شاهندة»
من نوارة والحارس عبدالله
(أحمد
راتب)
الاقامة في القصر والمحافظة عليه في غيابهم، غير أن زوج نوارة رفض ذلك
فاضطرت شاهندة إلى إعطائها
20
ألف جنيه كانت سبقت وطلبتها سُلفة لإجراء عملية لوالد علي.
يأتي
«حسن» (عباس
أبوالحسن)
شقيق أسامة بيه بصحبة والده، إلى القصر لكي يبحث عن الثروة التي تركها
شقيقه، هكذا يعتقد، ويعتدي بالضرب على نوّارة حتى تخبره بمكان الثروة داخل
القصر، وينتهي الموقف بقيام حسن بقتل الكلب
«بوتش».
ينتهي الفيلم بالقبض على نوارة بسبب اتهامها بسرقة المبلغ بعد أن ضبطته
معها الشرطة عندما جاءت للتحفظ على أموال أسامة بيه.
ملامح أسلوب
وعليه تتشكل ملامح الأسلوب الواقعي الإنساني ـ ما بعد الحداثي ـ إذ يضع
المشاهد في حالة استرخاء يتصاعد على مهل، ولاسيما أن الفيلم لا تتداعى
أحداثه من المكونات السردية التقليدية الثلاث:
بداية وعقدة ونهاية، كما هو متبع، إنما يبدأ بتمهيد متثاقل يبث من خلاله
الخطوط الدرامية الفرعية، ثم مأزق متسارع ومتلازم مع النهاية التراجيدية.
ثنائيات متعاكسة
تتفاعل الشخصيات في عوالم متناقضة بين الثراء والفقر، البذخ في مقابل
العوز، الخوف مقابل الأمل، الخضوع مقابل السيطرة...
ثنائيات متعاكسة تتكشّف من خلالها التركيبة الاجتماعية الثقافية بتأثيرات
الظروف السياسية والاقتصادية والنفسية، وتنطلق من منطق
«الأشياء
تُعرف بأضدادها»
لترمي إلى الدهشة إزاء ما حل بالحياة في مصر.
رمزية منسجمة
الرمزية كإحدى الحيل الدرامية التي تم توظيفها بقدر عال من الاحترافية،
وبها يترسخ شيء من مسار الواقعية الرمزية، المنسجمة مع السياق، ولا تخرج
عنه إلى الفنتازيا أو الكوميديا السوداء أو الواقعية السحرية أو أيٍّ من
القوالب الدرامية الأخرى؛ إذ ترمي قصة الكلب مع نوارة ومصيره إلى رمزية
تفيض بالدلالة، وكذلك استغلالية رئيسة الممرضات
(شيماء
سيف)
لانتهازية الطبقات العاملة من المرضى، وفي مؤازرة البطلة للمواطن المغلوب
على أمره في رمزية تعاطفها مع الكتكوت، وأيضاً رمزية التراجع عن التمادي في
الخطيئة والفساد الذي اجتاح شرائح من الشعب وقيامها بالسرقات والفساد، بما
أشارت له قصة قيام
«علي»
بسرقة ساعة فخمة من القصر ثم إعادتها.
توظيف التوثيق
ثم الاستعانة بالتوثيقية للفوضى، من خلال بث فقرات من نشرات الأخبار
التلفزيونية والاذاعية لما دار حول ثروة حسني مبارك وما أثير حولها.
والتأكيد على دور الاعلام في دغدغة مشاعر الفقراء بتوزيع مبالغ مالية
عليهم، وهي تقنية تكاد تكون مستحدثة ضمن أسلوب الواقعية الذي اتبعته
المخرجة.
الانفتاح على التأويل
في حين شكّل الانفتاح على التأويل سمة مميزة للفيلم، فهو متعاطف مع الفقراء
ومع
«بعض»
رموز النظام السابق في آن واحد، ولم يقدمهم على أنهم أشرار بالإجماع.
كما يمكن أن تفسر أيديولوجية الفيلم على أنها دعوة للسعي إلى تصحيح
المسارات وتعميق العلاقات الإنسانية.
انهيار وخاتمة مأسوية
لكن تأتي لحظة انهيار القيم الأخلاقية والوازع الديني بعدما تتكالب الأزمة
ويضيق الخناق والضغط على نوارة.
وهنا يكمن ملمح لواقعية هالة خليل، فبطلتها ترضخ لرغبتها بالاستمتاع في
الحرم الذي اؤتمنت عليه، على رغم أن ذلك مبرراً درامياً إنما هي التفاتة
إنسانية يقبلها المشاهد ويؤازرها بكل نفس راضية. |