|
·
تمييع النقد ساهم في إنتاج أفلام ومهرجانات رديئة
يعتقد عبد الكريم
قادري أنه من أسباب غياب النقد السينمائي الجاد في الجزائر تمييع الساحة
الثقافية، وغياب الفعل السينمائي الجاد بداية بصناعة وعرض الأفلام ونهاية
بإرادة المؤسسات الثقافية ودورها في الترويج لأسماء مزيفة أو تلك الميتة
نقديا ولا تملك أي تاريخ مهني.
عبد الكريم قادري
الذي يعود في معرض الكتاب القادم بكتابين في السينما "سينما الشعر" و"مدخل
إلى السينما الجزائرية" يدعو إلى خلق توجهين سينمائيين، الأول يقوده المخرج
من خلال تحقيقه لـ"السينما المُثقفة"، والثاني يقوده الناقد من خلال دراسة
"العتبات السينمائية"، من أجل أن يتم خلق التكامل بين المخرج والناقد.
·
في الجزائر وعلى خلاف
البلدان الأخرى النقد السينمائي غائب أو مغيب، فما هي الأسباب التي أدت إلى
ذلك؟
لا يمكن أن نُجيب على
هذا السؤال بشكل قطعي، وفي نفس الوقت سنطرح بعض المُسببات، التي ساهمت بشكل
أو بآخر في هذا الغياب، أهمها ولسوء الحظ، تزامن التعدد والانفتاح الإعلامي
في الجزائر مع الدخول في النفق المظلم، أو ما بات يُعرف بالعشرية السوداء،
وقد صاحبت هذه الفترة الكثير من الانتكاسات، أهمها الانتكاسة الثقافية
بمفهومها الحضاري المطلق، لهذا توقفت عجلة إنتاج الأفلام، وكإفرازات لهذا
التوقف مات الفعل السينمائي، وما يتضمنه من نقاشات، مقالات نقدية، مقابلات
صحفية، كتب، اتحادات فنية، ومع الوقت صار النقد السينمائي مُغيبا، حتى بعد
عودة الإنتاج من جديد، لأن الهُوّة اتسعت كثيرا، ولا يمكن تضييقها بسهولة،
إذ أنّ العديد من الجهات تقبّلت هذا الغياب، ولم تُساهم في عودته بأي شكل
من الأشكال، من بين هذه الجهات مثلا الصحافة المكتوبة الخاصة وحتى
الحكومية، التي ورثت هي الأخرى هذا التغييب، بعد أن صار بالنسبة لها واقعا،
بسبب العشرية السوداء كما قلت، وأكثر من هذا كله إغلاق قاعات السينما في
وجه الجمهور، ومن هنا نطرح السؤال التالي في شكل جواب: هل يمكن لهذا
الجمهور أن يقرأ مقالات نقدية عن أفلام لم يُشاهدها ولن يُشاهدها..؟، وعليه
يمكن أن نلتمس لهذه الصحافة بعض الأعذار، بحكم أنها مهما كانت فإنها تعود
إلى المعادلة التجارية التي يحددها قانون العرض والطلب، إلا أنه يمكننا أن
نُحمّل كل المسؤولية للمؤسسات الثقافية، وعلى رأسها وزارة الثقافية، التي
وللأسف تنظر للنقد السينمائي كسقط متاع، ولا تعتبره من أهم المرتكزات التي
تلعب دورا كبيرا في تطور السينما وتقدمها في أي بلد من العالم، بل إن أكثر
الاتجاهات السينمائية العالمية خلقها نقاد السينما، مثلا "الموجة الجديدة"
في فرنسا، والتي غزت العالم، وأكثر من هذا فبعض المؤسسات الثقافية في
الجزائر تقوم بتكريس أسماء ماتت نقديا، وتروج لأسماء أخرى لا تملك أي رصيد
بمعنى أسماء"متطفلة" على النقد.
·
تميّعت الساحة الثقافية في
الجزائر، وأصبح كل من يكتب عن السينما يحسب نفسه ناقدا، كيف تُشخصون هذه
الحالة؟ وما هي مُسبباتها؟
تغييب نقاد السينما
الحقيقيين عن الساحة الثقافية بشكل عام، ومهرجانات السينما على وجه الخصوص
ساهم بشكل أو بآخر في خلق هذه الكائنات "الطفيلية" على النقد، وبالتالي تم
تمييع عملية "الفعل النقدي السينمائي" في الجزائر، ما ساهم بشكل كبير في
نوعية الأفلام التي تنتج حاليا، وألقى بظلاله على مهرجانات السينما التي
تنظم، ولأن القبح والجمال لا يمكن في حال من الأحوال أن يلتقيا، كذلك
الناقد السينمائي الحقيقي والمزيف، فوجود أحدهما في الساحة لا بد أن يُغيب
الآخر بأي شكل من الأشكال، وعليه تم تغييب الأسماء النقدية الحقيقية التي
تملك إنتاجا مشرفا، مثلا هل قامت هذه المؤسسات الثقافية والمهرجانات
السينمائية بدعوة الناقدين عدة شنتوف من ولاية سعيدة، أو أحمد بغداد من
ولاية النعامة، وهما اللذان يملكان رصيدا نقديا في الكتابة النقدية، انظروا
إلى ما ألّفاه من كتب في مجال النقد السينمائي، وانظروا إلى ما يملكه هؤلاء
"المتطفلون" من رصيد، أكيد بأنكم لن تجدوا شيئا، لكن تم تهميش وتغييب
النقاد الحقيقيين، في حين تم تكريس الأسماء المزيفة، انظروا وقارنوا
وأحكموا بأنفسكم، هذا مجرد مثال، أقول هذا والحسرة تقطع قلبي، في الجزائر
الناقد السينمائي الحقيقي مُستبعد من أي فعل سينمائي، ولا تتم استشارته في
أبسط الأمور، مع أن رأيه يمكن أن يساهم بشكل كبير في تطور المشهد السينمائي
وإنجاح أي مهرجان، لكن هيهات، المقاييس التي تُعتمد بعيدة كل البعد عن مبدأ
"الرجل المناسب في المكان المناسب"، أي أن المؤسسة الثقافية لا تُفرق بين
الناقد الحقيقي والناقد المزيف، بل تفرق وتُعلي من شأن الثاني على حساب
الأول.
·
من الصعب تحديد العلاقة
بين النقد الصحفي والنقد الأكاديمي والقراءة الصحفية للفيلم، كيف يمكن
تحديد هذه العلاقة؟ وما هو الفرق بينهم؟
النقد
الصحفي هو الآني الذي لا يرتكز إلى مرجعية علمية ومنهج أكاديمي معين، بحكم
الظروف التي يكتب فيها، من بينها مثلا المساحة الضيقة المخصصة له، السرعة
التي يكتب بها، القراء الذين كُتب لهم، وهم قراء لا يملكون الوقت ولا
الرغبة ولا الاستعداد الكافي لقراءة الدراسة الأكاديمية، تعودوا على هذا،
كما لا يمكن أن نعتبر ما يكتب في الصحافة الجزائرية حاليا بالنقد الصحفي،
هي مجرد مقالات خبرية لا ترتقي لميزان النقد، وكلها تشترك في ميزة أن
أصحابها يعتمدون فيها على إعادة سرد قصة الفيلم، لمحة عن المخرج وأعماله،
الظروف العامة للعرض، وفي حالات أخرى يتم التركيز على التوجه الإيديولوجي،
بعيدا عن أي معالجة فنية أو جمالية، فإذا كنا لا نعتبر هذا نقدا صحفيا،
فما بالك بالنقد الأكاديمي، هذا الأخير الذي يعتمد على العمل المؤسس وفقا
لجملة من الشروط، من بينها مثلا تشريح الفيلم، والنظر له من كل الزوايا
والجوانب، المدرسة التي ينتمي لها، السرد الذي اعتمد عليه، الشكل العام
وطريقة المعالجة، الإجابة عن بعض الأسئلة الجمالية والفكرية، هل هناك تجديد
ما، ما الذي أراد المخرج قوله ووفق أي اتجاه، كل هذا يأتي من خلال تدعيم
هذه الدراسة بمقارنات و موازنات، وفقا لتهميش معين، أو بالرجوع لآراء من
سبق من نقاد وباحثين وأكاديميين، لتدعيم رأي معين وتأكيده وصولا إلى مرحلة
الإقناع به، وهي قراءة يمكن أن نطلق عليها دراسة، بحكم تناولها الفيلم بشكل
أوسع وأشمل وأعمق، والأخذ بيد المتلقي إلى مواطن كانت مجهولة في الفيلم.
·
ما هي علاقة كل ذلك
بالتكوين؟ وهل النقد السينمائي يمكن تعلمه في أي مدرسة؟
لا يمكن في حال من
الأحوال أن تقدم أي مؤسسة (جامعة، معهد، مدرسة..إلخ)، أي آليات نقدية لأي
شخص ما لم يكن مستعدا لذلك، بالإضافة إلى الموهبة، المؤسسات المذكورة يمكن
أن تقدم المعطيات التقنية، وعمل كل آليات، لكن لا يمكن لها أن تقدم القلم
الذي يملك الرؤيا والموهبة للطالب، النقد السينمائي هو أسلوب حياة، ومرجعية
مُتكاملة، تتداخل فيها مختلف العلوم والتجارب، على من أراد أن يكون ناقدا
سينمائيا أن تتوفر فيه الموهبة والرغبة والمشاهد المستمرة لكل سينمات
العالم، والتعرف على كل التوجهات والمدارس والتصنيفات، زد عليها القراءة
المستمرة للأدب، النقد، المسرح، الفلسفة، الموسيقى، التاريخ، الجغرافيا،
علم النفس، الاجتماع، الديانات، إلى آخره من العلوم الأخرى، بحكم أن
السينما فن جامع لمختلف العلوم والفنون، ولا يمكن فهم سياق أي فيلم بدون
الاطلاع على الـ"ماهيّة" الحقيقية للسينما، لذا التكوين مهم في ظل توفر
المعطيات المذكورة، وبغيابها لا معنى له.
·
نرى بأن الإصدارات
المتعلقة بالسينما تكاد تكون منعدمة، هل هي رهان خاسر لدى الناشر الجزائري؟
كل أنواع الكتب رهان
خاسر بالنسبة للناشر الجزائري، ما عدا الكتب التجارية التي تهتم بالتنمية
البشرية والطبخ وغيرها، وعليه يوجه الكاتب بوصلته دائما صوب دعم المؤسسات
الرسمية التي تضمن على الأقل تواجد الكتاب في المكتبات العمومية، أو إلى
الناشر في الخارج، الكتب المتعلقة بالسينما تكاد تكون منعدمة، ويرجع هذا
للأسباب والمعطيات التي ذكرتها، بالإضافة إلى أن المهرجانات السينمائية
الجزائرية لا تدعم نشر الكتب السينمائية الجادة، كما تفعل كل مهرجانات
العالم، بوصف الكتاب أهم وثيقة في المهرجان، ناهيك عن التهميش المبرمج
للناقد الذي لا يجد نافذة يطل من خلالها على الجمهور والقراء، ولا يتم
تكريس اسمه، وبالتالي يتم قتل معنوياته وسحقها، وكل ما يصدر الآن هو مجهود
واجتهاد شخصي من الناقد، أنا شخصيا ورغم ما أتعرض له من تهميش، غير أنني
أود المساهمة في تأسيس مشهد نقدي سينمائي جزائري مؤسس وقوي، مثلا صدر لي
كتاب في إيطاليا عن منشورات المتوسط، تحت عنوان "سينما الشعر، جدلّية اللغة
والسيميولوجيا في السينما"، وكتاب ثاني سيصدر قريبا عن مؤسسة نشر عمومية
تحت عنوان"مدخل إلى السينما الجزائرية"، والكتابان سيكونان في معرض الجزائر
الدولي للكتاب، غير أن صوتي النقدي غير مسموع في الجزائر، وحاضر في الخارج،
كما أن هناك العديد من النقاد أمثالي، رغم اجتهاداتهم وكتبهم غير أنهم لم
يجدوا الرعاية المناسبة، ومهما كانت الإرادة التي يملكونها، فيمكن أن تنكسر
على صخر الإبعاد والتهميش، لأن النبتة مهما كان نوعها فهي بحاجة دائمة إلى
من يعطيها الماء لتحيا وتستمر، ونحن للأسف لا نُسقى بهذا الماء، وأتمنى من
وزارة الثقافة أن تنتبه إلى دور الناقد السينمائي الحقيقي، وتعمل على خلق
مدونة نقدية سينمائية، مؤسسة على مرجعية صحيحة.
* صحافية مختصة في الشؤون الثقافية |
