كلّما التقيتُ مخرج «البحث عن السيّد مرزوق» (1990) و«الكيت كات» (1991) و«أرض
الخوف» (1999) وغيرها، أشعر بمتعة الاستماع إلى رجل يملك قوّة الملاحظة ورغبة
الاكتشاف. إلى سينمائيّ يفتح عينيه على الدنيا ليُفكّك راهنها، مُعيداً صوغ
لقطاتها وتفاصيلها من داخل ذاته وروحه. هذه المتعة ناتجة من سلاسة أقواله
وتحليله وعمقهما. من نظرته الثاقبة. من حماسته المنكشفة من خلف هدوئه، أو في
قلب الهدوء البادي على محياه: حماسة المُراقبة والتأمّل، اللذين يدفعان إلى
مزيد من الفهم والمعرفة، وإلى استخلاص ما يُمكن الاشتغال السينمائي عليه من
أحوال الفرد والبلد والذاكرة والمعطيات.
لم يكن ممكناً لقاء السينمائي المصريّ داود عبد السيّد، بعد مرور عام واحد على
انطلاق «ثورة الخامس والعشرين من يناير»، من دون الذهاب إلى أقصى حدّ ممكن في
الحديث عنها. في الحديث عمّا حصل ويحصل. السينما حاضرة طبعاً. المشهد الإنساني
العام أيضاً.
لكن الحوار معه لا يُمكن أن ينتهي. أخذتني تداعيات الزلزال التاريخي الكبير،
الذي صنع مرحلة جديدة ومختلفة تماماً عن التاريخ المصري والعربي، إلى أمكنة
أخرى. الحوار معه يمتلك أساساً متعة إضافة حوافز جديدة لمزيد من التأمّل والبحث
والفهم.
·
مرّ عام واحد على قيام «ثورة
الخامس والعشرين من يناير»، أو «انتفاضة الخامس والعشرين من يناير». ما الذي
حصل في هذا العام؟ كيف تنظر إلى الأمور، أقلّه على المستوى الإنسانيّ؟
}
هناك نتيجة واضحة ليس الآن فقط، بل منذ البدايات الأولى للثورة أو للانتفاضة.
هذا قلتُه سابقاً، مع بداية محاكمة حسني مبارك. الفكرة عندي أن الثورة لا تعني
استلام الثوّار الحكم أو السلطة، بل هي كامنةٌ في صنعها متغيِّراً تاريخياً.
هناك دائماً شعور بأن هذه هي المرّة الأولى في تاريخ مصر لا يُقتَل فيها فرعون،
ولا يُخلع فيها فرعون، بل تتمّ فيها محاكمة فرعون. فراعنة كثيرون قُتلوا أو
خُلعوا أو هربوا. لكن، أن يُحاكَم فرعون، فهذا يعني أن إنجازاً ثورياً تاريخياً
حصل في ثقافة شعب.
هذا تقييم حركة الثورة أو الانتفاضة. بالعودة إلى السؤال: الإنجاز الأساسيّ
الذي حصل كامنٌ في أن تغييراً حصل في الإنسان المصري، وليس على الأرض. بمعنى
آخر، كان الناس خائفين وقانعين بأنهم يعيشون في بلد نظامه السياسي فاسد. كانوا
مدركين هذا الأمر وهم غير راضين، لكنهم لا يتحرّكون. خائفون هم. غير قادرين على
التجمّع مع بعضهم البعض. الآن، الوضع مختلف تماماً. فَقَد المصريون الخوف.
باتوا قادرين على التجمّع، حتّى وإن لم يتجمّع المصريون جميعهم مع بعضهم البعض.
حتى الفئات أو الكتل الشعبية الأكثر بلادة، تمّ تسييسها. حتّى أولئك الذين
أعلنوا موقفاً ضد التظاهرات، أو مع الحاكم اليوم، باتوا هم أيضاً مسيَّسين.
باتت السياسة همّاً يومياً. في بيروت، ربما لن ينتبه اللبنانيون إلى معنى
المسألة هذه، لأن الجميع تقريباً مسيّسون منذ زمن بعيد، بحكم طبيعة النظام
الطائفي. لكن، أن يحدث هذا في مصر، فهذا إنجاز. إنه الإنجاز الثاني للثورة أو
الانتفاضة.
ما حصل بفضل الثورة/ الانتفاضة الآن يُمكن التعبير عنه بمفردة «تفاعل». الآن،
نحن وسط التفاعل. وبالتالي، لا توجد نتائج نهائية، باستثناء ما ذكرته سابقاً.
هناك حركة مستمرّة يومياً. هناك شيء جديد يحصل يومياً. هناك أمور مختلفة
تتبلور، أو أنها لا تزال في مرحلة البلورة. لكن، أخشى ما أخشاه أن نصل إلى
الصورة المعروفة عن الثورات، التي يُقال إنها تنتهي دائماً إما بحكم ديكتاتوري،
وإما بحرب أهلية. هذا ما أخاف أن يحصل. هذا أمر مخيف فعلاً. أنا لا أريد حكماً
ديكتاتورياً ولا حرباً أهلية، بل حكماً ديموقراطياً ونظاماً حديثاً.
اصطفافات خطرة
·
هل ترى بذور حكم ديكتاتوريّ أو
حرب أهلية؟
}
ممكن ذلك طبعاً، إذا حصلت تطوّرات معيّنة. قبل وقت قصير، حدثت مواجهة بين جماعة
«الإخوان المسلمين» ومتظاهرين. «الإخوان» أقاموا حاجزاً بشرياً حول البرلمان
لحمايته. هذا هو المكسب الذي حصلوا عليه بعد ثمانين عاماً أو أكثر بقليل على
تأسيسهم. هناك «عظمة» كبيرة بين أنيابهم، ليسوا مستعدّين للتنازل عنها بأي شكل
من الأشكال. في المقابل، هناك الثوّار. هؤلاء لا يتوقّفون ولا يخافون ولا
يهابون أحداً. اقتحموا الحاجز البشريّ «الإخوانيّ»، ودخلوا مبنى البرلمان.
هذه مقدّمات لاصطفاف إيديولوجي ومصالح قد تؤدّي إلى مشاكل كبيرة وخطرة. ليس
بمعنى «حرب أهلية» وميليشيات. مع العلم أن فكرة الميليشيات ليست بعيدة عن
«الإخوان المسلمين».
أما بالنسبة إلى الديكتاتورية، فالواضح تماماً أن «المجلس الأعلى للقوّات
المسلّحة» يريد إحكام قبضته على السلطة. يريد السيطرة، سواء من أمام الستارة،
أم من خلفها. أي إما عن طريق «وكالة» ما، وإما بشكل مباشر وواضح وصريح. بذور
الديكتاتورية موجودة. بذور الحرب الأهلية أيضاً. طبعاً، ليس المعنى المباشر
للحرب الأهلية والديكتاتورية. ما أقصده هو أن هناك «ديكتاتورية مُعدَّلة». أن
هناك صراعات أهلية. التيار الإسلامي حاول مراراً أن يثير صراعات كهذه. أن
«يفعلها» كما يُقال. وهو ارتكبها في بداية الثورة/ الانتفاضة ضد الأقباط بحرق
كنائس. إنه طالِبُ صراعات كهذه. يُمكن للتيارات الإسلامية أن تقوم بأمور كثيرة
كهذه. لذا، فإن الحلّ الوحيد الآن، عشية وضع دستور جديد، كامنٌ
في ضرورة التوافق. إذا لم ينجح التوافق، ستُصبح الأمور صعبة جداً.
·
كمراقب من بعيد، أرى أن صراعات
كهذه بدأت تتكوّن على الصعيد الإبداعي، في الفنون والثقافة والآداب، عنوانها
الأساسي: الحريات العامّة.
}
عندما حاز التيار الإسلاميّ على الأغلبية البرلمانية، انتشرت مخاوف كبيرة بين
أفراد فئات ثلاث: المثقفون والأقباط والنساء. طبعاً، لا أستثني الرجال، لكن
النساء عانين كثيراً، وهنّ في موقع الضحية أكثر من الرجال. بالنسبة إلى
المثقفين، أودّ إعادة رسم صورة لواقع لا يعرفه اللبنانيون، أي أن الواقع هذا
غير مُطبّق في لبنان: عند بناء الدولة والسلطة، تحكّم النظام القائم بمؤسّسات
صحافية وإعلامية مختلفة، كـ«الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» و«روز اليوسف»
وغيرها. التلفزيون، بغالبية قنواته، بين يديّ الحكومة، أي السلطة. حسناً: عندما
يحصل «فصيل» معيّن، أياً كان شكله، على الأغلبية البرلمانية، ويُمسك الحكم، هل
يرث وسائل الإعلام كلّها؟ هل تبقى وسائل الإعلام هذه «في خدمته»؟ المعروف أن
وزارة الثقافة المصرية تموّل نشاطات ثقافية كثيرة، كالمسرح والكتب، طباعة
ونشراً. السينما لم تكن مموَّلة من قِبل الوزارة. لكن، هناك الـ«أوبرا»
وفرقتها، الموسيقى وفرقتيها السمفونيّة والعربيّة، الباليه، الفرق الشعبية...
هذه كلّها مموَّلة من قِبل السلطة الحاكمة سابقاً. أي من الدولة. السؤال: عندما
يأتي أناسٌ كـ«الإخوان المسلمين» و«السلفيين»، ولديهم تيار يعتبر أن الموسيقى
مثلاً حرام، ما الذي سيحصل؟ ما الذي سيفعلونه هم؟ لا أقول إن التيارات
الإسلامية كلّها تقول بأن الموسيقى حرام، بل هناك اتجاهات معيّنة. لكن المسألة
الأساسية هي أن تفكيراً كهذا حاصلٌ وموجودٌ.
الحكاية نفسها في مجال التعليم: نظام التعليم في مصر مُصابٌ بعيوب كثيرة، في
مسائل متعلّقة بالدين أو بالإيديولوجيا السياسية. باللغة العربية أو بالتاريخ.
مثلٌ أول، في مادة العلوم: هل سيقولون إن الله خلق آدم وحواء (الإنسان)، أم أن
الإنسان مخلوق نتيجة تطوّر معيّن حصل على الأرض؟ مثلٌ ثان، في مادة التاريخ: هل
سيبقى تجاهل المرحلة القبطية تماماً كأنها لم تكن موجودة أبداً في تاريخ مصر؟
هل سيتمّ تهميش المرحلة الفرعونية؟ هل سيبدأ تاريخ مصر من الإسلام والفتح
الإسلامي لمصر فقط؟
هذا كلّه ناتجٌ من أمر أساسي: لقد سُمح بإنشاء أحزاب دينية لديها إيديولوجية
دينية واضحة ومعروفة. أحزاب دينية تُفكّر بهذه الطريقة. في دول ديموقراطية يتمّ
فيها تبادل السلطة أو الحكم بين الأحزاب والأفراد المرشَّحين من قِبَل أحزاب أو
المنفردين، هل يُطبِّق «الحزب الديموقراطي المسيحي» الألماني مثلاً إيديولوجيته
الثقافية في حال وصل إلى الحكم؟ ماذا عن الحزبين الديموقراطي والجمهوري في
الولايات المتّحدة الأميركية، مع أنهما غير معنيين بالثقافة والإعلام ربما؟
هذا واقعٌ ملموس. ثم لا تنسَ أننا لم نمرّ في مرحلة تحوّل من الدولة التسلّطية
إلى دولة تمارس تداول السلطة. أنا شخصياً من المدافعين عن فكرة مفادها التالي:
لتُشكِّل الأغلبية البرلمانية الحالية الحكومة الجديدة. أنا ضد عدم تشكيل
حكومة. أنا مع أن يحكم «الإخوان المسلمين». ولنرَ جميعنا كيف سيحكمون.
مستقبل الحريات
·
حسناً. سأنتقل معك إلى الجانب
الثقافي البحت، والسينمائي بصورة خاصّة. هناك وضوح في تحرّك «الإخوان»
و«السلفيين» إزاء الحريات. كلام قيل. والبرنامج المتكامل الخاصّ بهم واضح
تماماً.
}
هناك مخاوف، من دون أدنى شكّ. في فترة سابقة، كتبتُ مقالة حول هذه المسألة: يجب
أن يلتقي المثقفون والفنانون والمفكّرون والمبدعون جميعهم مع بعضهم البعض. هناك
من اتصل بـ«غرفة صناعة السينما» التي تبنّت ما توصّلنا إليه إثر تأسيسنا «جبهة
الإبداع»: تنظيم مؤتمر ومسيرة ضخمة جداً مشى المنضوون فيها من «دار الأوبرا»
إلى «مجلس الشعب». هناك، سلّمت مجموعة منّا إلى المجلس التوصيات والبيان الخاصّ
بـ«جبهة الإبداع» الذي يُدافع عن حرية الإبداع، وعن ضرورة حمايتها. طبعاً، تمّ
تسليم التوصيات والبيان إلى نوّاب رأينا أنهم يُمكن أن يمثّلونا.
«جبهة
الإبداع» ومثقفون ومفكّرون وفنانون في المجالات كلّها مستعدّون جميعهم وجاهزون
جميعهم للتصدّي. طبعاً، هناك مشكلة أخرى: الرقابة المؤسّساتية والرقابة
الفكرية. الرقابة عملياً تابعة لوزارة الثقافة أيضاً. وهي لا تزال تابعة لها.
هذه كلّها مشاكل يجب أن تُعالج. لا أعرف كيف. لكننا جميعنا وسط تفاعلات شتّى
وتبدّلات تحصل وأمور تتبلور. يجب أن تُعالج هذه المشاكل، مع الحفاظ على هوية
مصر طبعاً. ربما سنفشل. أقول ربما. حينها، يكون لنا شأنٌ آخر. هذا يتوقّف على
المسيرة الأساسية للثورة/ الانتفاضة المصرية.
·
قبل الثورة/ الانتفاضة، أُنجِزت
أفلامٌ متنوّعة، سلّط بعضها الضوء على مآزق وحالات بائسة في المجتمع المصري. لا
أميل إلى ما يُسمّى بـ«سينما تحريضية». لكن، ألا ترى أن أفلاماً كهذه ساهمت،
بشكل أو بآخر، في الحراك الذي حصل لاحقاً؟ فيلمك الأخير «رسايل البحر» (2010)
مثلاً أضاء على أمور جوهرية في الحياة العامّة، كالوحش العقاري والحيتان التي
تغتال الإنسان الفرد العاديّ.
}
أولاً لديّ تحفّظ على فكرة «دور الفن». أرى أن دور الفن هو أن يكون العمل الفني
جيّداً. أن يكون الفن جيّداً، أياً كان موضوعه. أصلاً، هناك تقدّم وتخلّف، هناك
إنسانية وأشياء ضد الإنسان والإنسانية. ما دام المرء مع التقدّم والإنسانية
والإنسان، فهذا يعني «تحريضٌ» على القيام بثورة.
لم يكن ممكناً صنع أفلام تحريضية. أرى أن هناك نموذجاً واحداً تحريضياً بشكل
ما، متمثّلاً بفيلم «هي فوضى» للراحل يوسف شاهين: قدّم الفيلم فساد رجل أمن في
دائرة الشرطة. طبعاً، يُمكن تعميم النموذج هذا، لأن غالبية رجال الشرطة فاسدون،
أو متورّطون بجزء من الفساد. أرى أنه يُمكن اعتبار هذا النوع تحريضياً. كما
يُمكن اعتباره تنفيسياً، في الوقت نفسه. أنا أعتبره تحريضياً. لكن، هل هناك
فيلم يصنع ثورة؟
·
لم أقصد هذا بسؤالي، لأني
متأكّدٌ تماماً من أن الفن لا يصنع ثورات.
}
مُدركٌ ما تقوله، لكنّي أحاول مناقشة الفكرة بشكل متكامل. إذاً، لا يصنع فيلمٌ
ثورةً. في مقابل هذا، لو صنعت عملاً فنياً جيداً بشكل عام، يعني أنك أصبحت داخل
مناخ الرغبة في التغيير.
ذكرتَ لي «رسايل البحر». لكنّي سأعود معك إلى «مواطن ومخبر وحرامي» (2000).
الفيلم هذا لا يقول لك «قم إصنع ثورة»، بل يحاول أن يشرح «ميكانيزم» الفساد
الذي يحصل في المجتمع كلّه. المواطنون والمثقفون البرجوازيون والشرطة واللصوص
المنتمون إلى الطبقات الدنيا، هؤلاء جميعهم قال الفيلم كيف يكونون «سبيكة»،
وكيف يتماهون مع بعضهم البعض، وكيف يزوّجون بناتهم لأبنائهم أو العكس، وكيف
تتداخل الأمور إلى درجة أن لا أحد يعرف فلان ابن من، أو إلى لحظة يُمكن معها أن
يتزوّج أحدهم شقيقته، إلخ. قصدي أن هذا ليس تحريضاً، بل محاولة فهم. محاولة
معرفة. إعطاء رؤية.
إنها مرحلة تأمّل
·
أتذكّر أيضاً «الصعاليك» (1984).
ألا يدخل في المجال نفسه الذي تتحدّث عنه؟
}
طبعاً. إنه عن صعود طبقة في المرحلة الناصرية وتطلّعاتها لبلوغ الحكم وتولّيه.
هذه أفلام تشرح. المسألة عندي واضحة تماماً: كل فكرة جيّدة تُحرِّض على
المواجهة والتغيير والكشف.
·
كيف تنظر اليوم إلى أفلام
المرحلة الثورية الجديدة هذه؟
}
فن الثورة هو الفن الناقد للثورة، ليس من منطلق عدائيّ، بل من منطلق كونه من
داخل الثورة. أو بسبب كونه جزءاً منها، وليس من خارجها. هذه وجهة نظري الخاصّة
بفن الثورة. الأفلام التي صُنعت بعد «الخامس والعشرين من يناير» كانت ضرورية،
ولديها مهمّة: تسجيل الثورة. وهذا تمّ بشكل جيّد جداً. تمّ التسجيل بفضل
كاميرات المراقبة المنصوبة من قِبل الشرطة والأمن (حُذفت أجزاء منها لإخفاء
الإثباتات كلّها التي تدينهم)، وأجهزة الهواتف المحمولة. هناك كاميرات
الصحافيين العاملين في وكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية. الهواة أيضاً.
لأول مرّة في مصر أرى، بفضل شريط أو شريطين من أشرطة الـ«كليب»، لقطات لقتلة
أمام الكاميرا. ربما هناك لقطات أخرى أيضاً. هذا إنجاز تكنولوجي.
كان يجب استخدام هذا في عمل متسلسل طبيعي لما حدث في فترة الأيام الثماني عشرة،
وما بعدها. هذه تُعتبر «أفلام المرحلة». هكذا يُمكن صُنعها. هذا دور كان يجب أن
تتمّ تأديته، وهذا ما حصل تماماً.
·
هل صوّرتَ أثناء التظاهرات
والحراك الميدانيّ؟
}
نزلتُ إلى الشارع، لكنّي لم أُصوَّر. منذ اللحظة الأولى لنزولي شاهدتُ كاميرات
كثيرة. قلتُ إني لن أُضيف شيئاً. الفكرة الأساسية لا تتعلّق بالتصوير، بل
بالتقاط ما حصل ويحصل. لم يكن التصوير قضيتي. قضيتي كانت أن أشعر بالفرح
الحاصل، وأن أتأمّل بما يحصل. أن أراقب التفاعل. أن أراقب ما يحصل. هذا ما أثار
اهتمامي.
لم أكترث بالتصوير، لأن الجميع تقريباً كان يُصوِّر.
·
أرغبُ في سؤالك عن اشتغالك
الوثائقي. في النصف الثاني من سبعينيات القرن الفائت وبداية ثمانينياته، أنجزتَ
ثلاثة أفلام وثائقية فقط: «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» (1976)،
«العمل في الحقل» (1979) و«عن النساء والأنبياء والفنانين» (1981). منذ ذلك
الوقت لم تُنجز فيلماً وثائقياً واحداً.
}
ما جعلني أفقد الرغبة في العمل التسجيلي (الوثائقي) في الفترة تلك كامنٌ في
أننا كنّا جميعنا نُنجز أفلاماً فقيرة جداً، بإمكانيات قليلة جداً، بالمعنى
الحقيقي والعميق للكلمة، لكن أحداً لم يكن يُشاهدها، لأنها لم تكن تُعرَض. كان
لديّ شوقٌ للتواصل مع الناس، لقناعة لديّ بأن الفن نوع من الاتصال والتواصل مع
الناس. لاحقاً، انصرفتُ إلى العمل في تحقيق أفلام روائية. عندما بدأت السينما
التسجيلية تذهب إلى الناس، وباتت لديها قدرة على التواصل والاتصال معهم، عن
طريق القنوات التلفزيونية الفضائية طبعاً، رأيتُ أن الأصغر سنّاً، الذين
يحقّقون هذا النوع السينمائي، هم الذين يُفترض بأفلامهم التسجيلية أن تُعرض
أمام الناس، لا المخرجين الأكبر سنّاً. هذا طبيعي.
في الوقت نفسه، يكون للمرء أحياناً مسار خاصّ، وإضافة في مجال معيّن. يُمكن أن
تكون الإضافة هنا كإضافة غيره. لكن، هذا ما حصل معي: كان مساري أن أحقِّق
أفلاماً روائية.
·
ماذا عن مشاريعك الجديدة إذاً؟
}
حالياً، أحاول أن أفهم. ليس الفهم العام، بل أن أفهم من خلال المُراقبة. من
خلال رصد ما الذي يحصل يومياً. رصد الحركات الصغيرة وتطوّرها وكيفية تطوّرها
أيضاً. لديّ موضوع أفكّر فيه منذ أشهر مديدة، وهو يختمر تدريجاً. موضوع شغلني
منذ فيلمي الأخير «رسايل البحر»، متعلّق بالمرأة. المرأة نصف المجتمع. طبعاً
الثورة أنجزت نقلة كبيرة في هذا الموضوع. المرأة في موقع القهر كمواطنة أولاً،
وكامرأة ثانياً. أرى أن تغيير وضع المرأة امتدادٌ لتغيير المجتمع. متكاملٌ
وإياه أيضاً.
·
غير أن المرأة حاضرةٌ في بعض
أفلامك السابقة؟ «أرض الأحلام» (1993) و«سارق الفرح» (1994) مثلاً.
}
هنا، الأمر مختلف قليلاً. لن يكون فيلماً عنها، بل ستكون هي المحور والشخصية
الرئيسة. لا أرغب حالياً في الاسترسال بالكلام عنه، لأن الأمر لا يزال يُشغلني
ويتبلور فيّ.
المسألة بالنسبة إليّ مرتبطة بالمتعة. أي أن أشعر بالمتعة في تحقيق عمل ما.
أحاول ألا أجلد نفسي، بأن أذهب إلى إنجاز فيلم لأن الضرورة تتطلّب هذا. أو لأنه
يجب عليّ إنجاز فيلم. أريد تحقيق فيلم عندما أشعر برغبة في ذلك. عندما أشعر بأن
المتعة في تحقيق المشروع باتت حاضرة فيّ.
·
هل لهذا السبب كانت هناك فترات
زمنية طويلة أحياناً بين تحقيق فيلم وتحقيق آخر، سابقاً؟
}
سابقاً، كان هناك جَلْدٌ للنفس. لا تنسى أني كنتُ أواجه دائماً صعوبات شتّى
لتحقيق أفلامي. لم يعد لديّ جَلَدٌ على ذلك. تقدّم العمر، ولم يعد هناك وقتٌ
طويلٌ لخوض مواجهات وتحدّي صعوبات. لذا، عندما تنضج المسألة وأرتاح إلى إنجاز
المشروع، سأشتغله.
السفير اللبنانية في 24
فبراير 2012 |