مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان المجتمع المصري- لاسيما
الإسكندرية- مكونا من خليط كبير من العرقيات والديانات المختلفة القادرة على
التعايش مع بعضها البعض بسهولة وتقبل الآخر من دون وجود أي شكل من أشكال
التمييز العرقي أو الديني، بل كان المجتمع عبارة عن نسيج واحد قادر على التعامل
والتعاطي الاجتماعي بسهولة قلما نجدها في أي مجتمع آخر.
هذا الخليط الكبير جعل من المجتمع المصري عبارة عن فسيفساء قلما نجدها في أي
مجتمع غيره؛ ومن ثم كانت مصر هي كعبة العديدين من الجنسيات الأخرى المهاجرة
إليها، ومن مختلف الديانات؛ فرأينا الكثيرين من الشوام الذين استوطنوها وعاشوا
فيها مرتبطين بها أكثر من وطنهم الأم، كذلك الحال بالنسبة للإيطاليين الذين
كانوا يرون في مصر وطنا حقيقيا لهم، وغيرهم من اليونانيين الذين كانوا يشكلون
جالية كبيرة لا يُستهان بها لاسيما في الإسكندرية- ربما لتشابه المدينة مع
اليونان-. أي أن مصر كانت وجهة كل من يرغب في الحياة فيها نظرا لما تتمتع به من
انفتاح على الآخر وقبول غير المصريين، حيث كان الوافد إليها يندمج في النسيج
الوطني المصري ويعيش معه باعتباره مصريا غير شاعر بالغربة فيها، وهذا ما كان
يدفع جميع الجاليات الأجنبية المهاجرة إليها إلى العمل على مصلحتها سواء من
الناحية الاقتصادية أو الوطنية، بل اعتبرها كل من هاجر إليها وطنه الثاني
والأكثر ارتباطا به سيكولوجيا من وطنه الأول مفضلا البقاء والحياة فيها على
العودة إلى الوطن الأم.
هذه الفسيفساء المتنوعة من الأعراق التي عاشت وتعايشت في مصر كان يقابلها تنوع
ديني لم يحدث من قبل في أي مكان آخر، فكان هناك اليهود من المصريين وغير
المصريين، كذلك المسيحيين من أهل مصر وغير المصريين كذلك، ورأينا كل هذه
الأديان تتعايش مع بعضها البعض من دون أي شكل من أشكال التمييز الديني أو
العرقي، بل كان الجميع يتعاملون مع الآخرين باعتبارهم مصريين وشركاء في الوطن
من دون تمييزـ وهو ما جعل مصر مضربا للمثل في مدى التسامح والتعايش مع الجميع.
صحيح أننا لا ننكر أن كل ديانة أو عرق كانت لها عاداتها وتقاليدها المختلفة عن
الأخرى، لكن هذا الاختلاف لم يُشكل من قبل أي عائق دون التواصل مع الآخر، بل
كانت كل جالية أو ديانة تحترم غيرها ثقافيا ودينيا؛ الأمر الذي جعل المجتمع ذا
نسيج واحد لا يمكن التمييز فيه بين ديانة وأخرى، أو بين عرق وغيره.
لعل هذا التنوع الكبير في المجتمع المصري هو ما جعل اليهود مكونا أساسيا من
نسيج المجتمع المصري منذ قدم التاريخ؛ فاليهود المصريين لعبوا دورا كبيرا في
التأثير على المجتمع المصري بالكامل منذ عهود مبكرة؛ فنراهم في عهد الفاطميين
مثلا يعملون في العديد من المهن اليدوية والتجارة، كما كان لهم دورا متميزا في
تكوين علاقات تجارية مع الهند، وقد أسهموا في حماية الممرات البحرية والطرق
البرية، ونال التجار شيئًا من الحكم الذاتى في تجارتهم، كما شاركوا في الحياة
الثقافية والسياسية في مصر في القرن العشرين، وكان من أشهر من عمل بالسياسة هو
القطاوي باشا الذي أصبح وزيرًا للمالية ثم النقل والمواصلات بعد ثورة 1919م،
كما كان عضوا في مجلس النواب حتى وفاته، وربما كان اندماجهم الكبير في نسيج
المجتمع المصري هو ما ترك بأثره على المصريين جميعا الذين أخذوا عنهم الكثير من
الأعمال التي برعوا فيها في العديد من المجالات والتي كان منها المسرح،
والسينما، والغناء، والتلحين، وصناعة الجواهر، والحياكة وغير ذلك من المهن التي
أخذها المجتمع عن اليهود المصريين؛ ففي مجال الغناء مثلا لا زالت مصر تحتفل حتى
الآن بذكرى الفنان اليهودي المصري الشهير داود حسني، واسمه الحقيقي "دافيد
حاييم ليفي" في العاشر من شهر ديسمبر من كل عام، باعتباره أحد أعمدة التلحين
والغناء المصري الذين أسهموا في تطوير الغناء في مصر، ولا ننسى كذلك أن مصر
عرفت المسرح من خلال يعقوب رفائيل صنوع الشهير بلقب "أبو نضارة"، وهو الكاتب
والشاعر والمخرج والموسيقي والصحفي، وهو من مواليد حي باب الشعرية عام 1839م،
وكان يتقن عدة لغات أجنبية، وعمل مدرسًا في مدرسة الفنون والصناعات إلى أن اتخذ
من مقهى في حديقة الأزبكية مسرحًا لفرقته المسرحية سنة 1870م، وظل يقدم
الروايات الكوميدية والتراجيدية، مثل "العليل، والصداقة، والبرجوازى، وبورصة
مصر، والأميرة الإسكندرانية"، وقد حظي يعقوب صنوع بتقدير الخديوي إسماعيل، مما
جعله يطلق عليه لقب "موليير مصر" ودعاه لتقديم بعض رواياته في مسرحه الخاص في
القصر.
إذا كان اليهود المصريين قد ساهموا بإسهامات كبيرة في صناعة المسرح الذي نشأ
على أيديهم، كما ساهموا في الغناء والتلحين فنحن لا نستطيع إنكار فضلهم الكبير
على نشأة السينما المصرية؛ حيث كانوا بمثابة أعمدتها الأساسية التي نشأت عليها
هذه الصناعة، أي أنه لولا إسهامات اليهود المصريين وغير المصريين في صناعة
السينما المصرية لما كانت مصر قد عرفت السينما بسهولة ولتأخر بها الوقت كثيرا
من أجل معرفتها وريادتها في هذا المجال في منطقة الشرق الأوسط بالكامل؛ فمن
خلال اليهود ودورهم الريادي في تعريف المواطن المصري على السينما، ومن خلال
أموالهم وروادهم الأوائل واستديوهاتهم وممثليهم عرف المجتمع المصري صناعة
السينما كأول دولة في الشرق الأوسط يكون لها دورها في هذه الصناعة استهلاكا
وصناعة أيضا؛ لتصبح من أقدم وأهم السينمات في العالم فيما بعد بفضل الإسهامات
القيمة التي قدمها اليهود المصريين وغير المصريين.
هذا يعني في حقيقة الأمر أن هناك ثقافة يهودية عربية كان لها أكبر الأثر على
السينما والثقافة المصرية- رغم رفض الكثيرين من العرب والمصريين اصطلاح الثقافة
اليهودية العربية-، ولكن التاريخ لا يمكن إنكاره، وبالتالي فهو يفرض نفسه علينا
فرضا باعتبار أنهم كان لهم الكثير من الفضل في العديد من الأمور الثقافية
والفنية لاسيما صناعة فن السينما المصرية الذي كان من الصعب أن يكون له الريادة
في منطقة الشرق الأوسط لولا جهودهم المتواصلة والأمينة من أجل وجود صناعة سينما
مصرية، كما أن اليهود المصريين كانوا بالفعل جزءً أصيلا من نسيج المجتمع
المصري، ينتمون إلى مصر كغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، ويعملون من أجل
الصالح المصري العام، ولم يكن هناك أي تمييز ضدهم، بل يحترمهم الجميع باعتبارهم
مصريين، وقد تركوا الكثير من العادات على المجتمع ككل، أي أن يهود مصر هم في
نهاية الأمر مصريين مخلصين لمصريتهم، لم يكن يرفضهم أحد؛ ومن ثم فرفض مُسمى
الثقافة اليهودية العربية، أو الثقافة اليهودية المصرية الآن إنما هو نتاج
حركات المد القومي والثوري والعروبي التي جاءت بعد ثورة 1952م التي عملت على
اضطهاد اليهود المصريين والتضييق عليهم من أجل ترك وطنهم ودفعهم إلى الهجرة
ورفض كل ما هو يهودي داخل نسيج المجتمع اعتقادا أن جميع اليهود متواطئين مع
الحركة الصهيونية العالمية وهو ما ينافي الواقع؛ فليس كل اليهود المصريين قد
تواطئوا مع الحركة الصهيونية، بل كان منهم من هو أكثر وطنية من أي مصري مسلم،
ولكن تيار الثورة المصرية في الخمسينيات رفض تواجدهم في المجتمع المصري كما رفض
الكثير من الجاليات الأجنبية التي اتخذت من مصر وطنا لها كاليونانيين
والإيطاليين والشوام وغيرهم من الجاليات التي خدمت مصر كثيرا على المستويات
الاقتصادية والثقافية والوطنية باعتبار أن مصر وطنا حقيقيا لهم، الأمر الذي جعل
العسكر بعد ثورة 1952م يعمل على دفع الجميع لمغادرة مصر بالتضييق عليهم وبالفعل
نجحوا في ذلك؛ مما أدى إلى انقلاب المفاهيم والمعايير الثقافية وعدم القدرة على
تقبل الآخر المختلف في العرق أو الدين وصولا إلى رفض مُسمى الثقافة اليهودية
العربية، أو المصرية.
لكن لم كانت مصر هي البلد الذي يهاجر إليه كل من رغب في التعاطي مع الفن حتى أن
الجميع تقريبا قد تجمعوا فيه منذ عهود مبكرة؟
الحقيقة أنه في عهد الدولة العثمانية كان هناك الكثير من التخلف والقهر والرفض
لكل من يأخذ بأسباب التنوير، أو بأسباب الفنون الأوروبية، وعلى اتساع الدولة
العثمانية كانت مصر الخديوية هي الدولة الوحيدة القادرة على التعاطي مع أسباب
المدنية أو التطور آنذاك؛ ومن ثم هاجر إليها كل نجوم الفن والتمثيل والموسيقى
وغيرها من الفنون من جميع الأمصار العربية باعتبار أن مصر هي الدولة الوحيدة
القابلة للتطور ولا ترفضه؛ لذلك رأينا الكثيرين من مبدعي الخلافة العثمانية في
الشرق يفضلون النزوح إلى مصر القادرة على تقبلهم بسهولة نظرا لما تتمتع به من
حرية وقدرتها على تقبل الآخرين وإدخالهم في نسيجها الوطني؛ لهذا السبب هاجر إلى
مصر منذ فترة مبكرة "أبو المسرح العربي" أبو خليل القباني" بعدما أحرق متشددو
دمشق المقهى الذي كان يُحيي فيه تمثيلياته وكادوا أن يهلكوه معه، أي أن مصر
كانت وجهة المشرق والمغرب بالكامل من أجل ممارسة الفن والثقافة في ذلك الوقت.
لكن هل من الممكن الحديث عن سينما مصرية من دون ذكر دور اليهود في هذه الصناعة
وبنائها؟
الحقيقة أنه لولا اليهود لما كانت هناك سينما مصرية تُذكر؛ فالسينما لم تنشأ
سوى من خلالهم، وهم أول من أدخل هذا الفن إليها، بل كانوا هم العمال الأساسيين
فيها على طول مراحل الصناعة بداية من السيناريو والتمثيل، والمونتاج، والتصوير،
والموسيقى وصولا إلى الإخراج والإنتاج، أي أن جميع مراحل الصناعة بالكامل نشأت
على أكتافهم في الوقت الذي كان المجتمع المصري المسلم ما زال باقيا على نزعته
المحافظة التي ترفض دخول المرأة من أجل المشاركة في هذا الفن الذي يراه
الكثيرون منهم خروجا عن الأخلاق والعادات؛ ومن ثم فقد كان وصف "المشخصاتي" أي
الممثل يكاد أن يكون عارا على صاحبه وكل عائلته؛ الأمر الذي جعل كل المشاركين
في فن صناعة السينما المصرية منذ بداياتها من اليهود والمسيحيين في حين اعتزل
المسلمون المصريون هذا الفن ووقفوا منه موقف المتفرج منذ البداية، وهذا ما
يُفسر لنا أن جل الممثلات اللاتي عملن في صناعة السينما المصرية منذ بداياتها
المبكرة كن من اليهوديات أو المسيحيات فقط؛ فرأينا الكثيرات منهن مثل ليلى
مراد، وكاميليا، وراقية إبراهيم، ونجمة إبراهيم، وغيرهن من الممثلات اليهوديات
المصريات اللاتي لا يمكن إنكار وجودهن المهم في العقل الجمعي المصري والعربي
حتى اليوم بما قدمنه من أدوار لا يمكن نسيانها.
لعل هذه النظرة الاجتماعية تجاه فن السينما هي ما دفعت أبو السينما المصرية- أو
أول من أدخل هذه الصناعة إلى مصر ونهض بها- إلى تغيير اسمه تخوفا من غضب أهله
رغم أنه كان يهوديا؛ فرأينا أحمد المشرقي، وهو الاسم المستعار الذي اتخذه توجو
مزراحي لنفسه كي يكون اسمه لفترة طويلة في عالم صناعة السينما، والحقيقة أن
توجو مزراحي لم يلجأ لاتخاذ هذا الاسم البديل/ المستعار حتى يتقبله المجتمع
المصري باعتبار أن المجتمع سيرفضه لأنه يهوديا كما ذهب بعض النقاد المصريين، بل
حرص مزراحي على تغيير اسمه بسبب عائلته التي كانت ترغب له العمل في التجارة
مثلهم ولكن حبه وعشقه لفن السينما جعله يترك دراسته وعمل أهله في التجارة،
ويتفرغ تفرغا كاملا لصناعة السينما التي أفنى حياته بالكامل من أجلها.
ربما كان كل المهتمين بصناعة السينما وتاريخها يعرفون قصة حياة توجو مزراحي
اليهودي المصري الإيطالي الأصل، فهو كما يقول عنه الكاتب هشام مكين: ولد في 2
يونيو عام 1901م لأسرة مصرية من أصل إيطالي كانت من أغنى عائلات يهود
الإسكندرية في فترة العشرينيات، حيث كان يعمل والده وأعمامه في تجارة القطن،
وكان والده مديراً للشركة الجمركية للمستودعات التجارية، وفي سن السابعة عشرة،
أثناء مرحلة تعليمه الجامعي، التحق توجو بالعمل في شركة والده محاسباً، وأكمل
دراسته وحصل على دبلوم في التجارة وتم تعيينه موظفاً في الشركة الكبرى للأقطان
في الإسكندرية، وفي العشرين من عمره، أي عام 1921م ترك توجو العمل نهائياً
وسافر إلى إيطاليا لاستكمال تعليمه بناء على رغبة والديه، آملين في عودته
لتوسيع تجارة العائلة، ثم انتقل إلى فرنسا وحصل على شهادة الدكتوراه في
الاقتصاد، لكن أثناء إقامته في باريس، تمكن من زيارة واحد من أشهر ستوديوهات
السينما في فرنسا وهو "ستوديو جومون"، حيث شاهد تصوير العديد من الأفلام
الفرنسية، وتابع عملية سير إنتاج الأفلام السينمائية، وبين أروقة ستوديوهات
باريس وجد توجو مزراحي حلمه في العمل بصناعة السينما، فقرر أن يتخلى عن العمل
التجاري ويتفرغ تماماً لدراسة السينما، وشارك ككومبارس في العديد من الأفلام
ولعب بعض الأدوار الثانوية، وكان يقضي في الاستوديوهات والبلاتوهات ساعات طويلة
حتى أصبح ملماً بكل تفاصيل المهنة من إخراج ومونتاج وديكور وماكياج وموسيقى
تصويرية وغيرها من مفردات صناعة السينما.
اشترى مزراحي في ذلك الوقت كاميرا تصوير حديثة، وتمكن من تصوير بعض الأفلام
القصيرة عن معالم باريس وروما؛ فتعاقدت معه "الشركة السينمائية العالمية" في
باريس على شرائها وتسويقها. بذلك، يُعد توجو مزراحي أول مصري درس وتعلم صناعة
السينما في الخارج. وبعد 8 سنوات من التعلم في باريس، قرر العودة إلى مصر عام
1928م ناقلاً خبرته السينمائية إلى الإسكندرية، فقام بإنشاء أول ستوديو سينمائي
خاص به ويحمل اسمه "ستوديو توجو" لإنتاج الأفلام الروائية الطويلة، في حي
باكوس- مكانه الآن "سينما ليلى"- وجهزه بالمعدات اللازمة من ديكورات وإضاءة
وأعمال المونتاج وغرف للممثلين وغيرها.
حينما عاد مزراحي إلى مصر قام بصناعة فيلمه الأول "الهاوية" وقد كان فيلما
روائيا طويلا صامتا من إخراجه ومن إنتاج "ستوديو توجو"، وقد عُرض هذا الفيلم
للمرة الأولى في دور العرض السينمائية في الإسكندرية في 25 نوفمبر 1930م، ثم
عاد لعرضه مرة أخرى في القاهرة بعنوان جديد هو "الكوكايين" بعد ثلاثة أشهر من
عرضه في الإسكندرية، ومن اللافت للنظر أن توجو قد قام بالتمثيل في هذا الفيلم
باسمه المستعار "أحمد المشرقي" تخوفا من غضب العائلة التي كانت ترغب له العمل
في مجال التجارة، وقد شاركه في بطولة هذا الفيلم الممثل اليهودي "شالوم" الذي
قام مع توجو بسلسلة من الأفلام عن شخصية اليهودي، كما أن الاسم الحقيقي لهذا
الممثل كان مجهولا إلى أن أكد جابي إشكنازي، ابن عم توجو مزراحي، المهاجر إلى
عكا والذي عمل كمساعد مخرج لمزراحي في 15 من الأفلام التي أخرجها بأن الممثل
الذي لعب دور "شالوم" اسمه "ليون أنجل" وهو يهودي بسيط عمل كموظف في بلدية
الإسكندرية وضمه مزراحي إلى أفلامه، وقد حقق هذا الفيلم نجاحاً كبيراً أثناء
عرضه في القاهرة، ولاقى استحسان الحكومة المصرية، إذ أرسل له حكمدار القاهرة
الإنجليزى "راسل باشا" خطاب شكر على صناعة هذا الفيلم الذي يُعالج قضية
اجتماعية كبيرة هي الإدمان، وتدور أحداث فيلم "الهاوية" أو "الكوكايين" حول
عامل يحاول إغراء زوجة صديقه الجميلة بالمال واستمالتها فيفشل، فيسعى للوصول
إليها عن طريق دفع هذا الصديق إلى إدمان الكوكايين، فينحرف ويُطرد من عمله،
وتنهار الأسرة، وتتطور الأحداث إلى أن يقتل هذا المدمن ابنه ويُحكم عليه
بالإعدام، أما الصديق الشرير فيموت بالسقوط من فوق إحدى السقالات التى يعمل
عليها فى إحدى العمارت. ومن اللافت للنظر أن الذى قام بتصوير الفيلم هو "ألفيزي
أورفانللي" وفي عام 1934م أصبح فيلم "الكوكايين" ناطقاً ومصحوباً بالموسيقى
التصويرية، وقد ساعده فى بداية العمل في "ستوديو باكوس" المصور عبدالحليم نصر
وشقيقه محمود نصر.
في عام 1932م، أنتج توجو مزراحي فيلمه الثاني "خمسة آلاف وواحد" الذي شارك في
بطولته مع الممثل "شالوم"، ومنذ بداية هذا الفيلم ستكون شخصية شالوم الكوميدية
التي قدمها مزراحي وقام بها الممثل اليهودي "ليون أنجل" في هذا الفيلم موجودة
في العديد من الأعمال السينمائية اللاحقة، وهي تُعد أول حضور قوي للشخصية
اليهودية في السينما المصرية، وتعكس حياة اليهود في مصر من خلال مواقف كوميدية
تتعرض لها الشخصية، مؤكدةً على اندماج اليهود في المجتمع المصري في ذلك الوقت،
وقد أنتج توجو وأخرج عدة أفلام تعتمد على الشخصية نفسها. فى عام 1935م أنتج
توجو مزراحى وأخرج قصة فيلم "شالوم الترجمان"، ويدور حول زيارة سائح أمريكي مع
ابنته المخطوبة لشاب أمريكي للإسكندرية، فيتعرف على بائع اليانصيب "شالوم"
ويتخذه دليلاً وترجماناً له أثناء زيارته لمصر، رغم أن شالوم لا يعرف أى لغة
أجنبية، وينتقل شالوم مع السائح وابنته إلى القاهرة، وحين تتحدث الابنة عن
غرامها بحبيبها الأمريكي يعتقد أنها تحبه هو، ويصل الخطيب الأمريكي إلى القاهرة
فيدرك "شالوم" الحقيقة، ثم أعقبه عام 1937م بفيلمه "العز بهدلة"، تمثيل شالوم
أيضا، وفي نفس العام قدم أيضاً فيلم "شالوم الرياضي" وهى الأفلام التي استثمر
فيها بذكاء المنتج إقبال جمهور السينما عليها، وهى قمة التناقضات التى كان
يتمتع بها مزراحي بين تناقضات حسابات المنتج وحرفية المخرج المتمكن من أدوات
عمله.
فى عام 1933م أنتج توجو وأخرج فيلم "أولاد مصر" الذى قام بالتمثيل فيه مع حنان
رفعت وشقيقه الذى كان يمثل أيضا تحت اسم مستعار هو عبد العزيز المشرقي، ويعتبر
هذا الفيلم من أوائل الأفلام التي قام بتصويرها مدير التصوير الرائد عبد الحليم
نصر، وقد قام بتصوير جميع أفلام "توجو مزراحي" التي أخرجها بعد ذلك فيما عدا
فيلم "ليلة ممطرة" 1939م.
تدور أحداث فيلم "أولاد مصر" عن شاب فقير لكنه متفوق فى دراسته ويقع فى حب
شقيقة زميله فى الدراسة وهي ابنة باشا، ولكنه ابن لرجل يعمل على عربة كارو،
ويتقدم لخطبتها لكن أسرتها ترفض هذا الزواج احتقاراً لمهنة والده، فيصاب الفتى
بالجنون، وينتهي الفيلم بشفائه وفوزه بجائزة كبرى فى مسابقة هندسية وزواجه من
فتاة أحلامه والفيلم يتناول مشكلة الفوارق الطبقية. كما كان مزراحي أول من
اكتشف الثنائيات في السينما المصرية حينما قدم فيلمه "المندوبان" 1934م من
تأليفه وإنتاجه واخراجه وتمثيل فؤاد الجزايرلي الشهير بـ"المعلم بحبح" وإحسان
الجزايرلي "أم أحمد" وهو الفيلم الذى حقق نجاحا فاجأ صناعه أنفسهم؛ فقدم لهما
فيلمين آخرين عام 1935م هما "الدكتور فرحات"، و"البحار" تمثيل أمينة محمد،
وفوزي الجزايرلي، وأحمد المشرقي "توجو".
بعد ذلك كانت أهم محطة في تاريخ مزراحي السينمائي حينما تعاون مع الممثل المصري
علي الكسار "بربري مصر الوحيد" 1936م، الذى قام توجو بإنتاج وإخراج الفيلم
الأول لتعاونهما معا وهو "100 ألف جنيه" تمثيل علي الكسار، وفى نفس السنة أنتج
وأخرج فيلم "غفير الدرك"، ثم "الساعة سبعة" عام 1937م بطولة علي الكسار وبهيجة
المهدي التي كان اسمها الحقيقي هنريت كوهين، وفيلم "التليغراف" عام 1938م،
و"عثمان وعلي" عام 1939م، و"ألف ليلة وليلة" عام 1941م، و"علي بابا والأربعين
حرامي" عام 1942م، و"نور الدين والبحارة الثلاثة" عام 1944م، وقد استلهمت آخر
ثلاثة أفلام من التراث العربي بنكهة مصرية، إذ أضاف إليها علي الكسار حس
الكوميديا الساخر معتمداً على الشخصية السيئة الحظ، كذلك قدم للكسار فيلم
"سلفني 3 جنيه" 1939م فى سينما كوزموجراف تمثيل علي الكسار، وبهيجة مهدي، ورياض
القصبجي.
قدم عام 1938م فيلم "أنا طبعي كده" تمثيل فؤاد شفيق، واستيفان روستي، لكن
المرحلة الفنية الحقيقية من حياة توجو مزراحي كانت حينما انتقل إلى القاهرة
تاركا الإسكندرية؛ ففي عام 1939م مع بداية الحرب العالمية الثانية، انتقل
مزراحي إلى القاهرة واشترى ستوديو "وهبي" في شارع حسني في ميدان الجيزة خلف
سينما "الفنتازيو"، وسماه ستوديو "الجيزة" مع الاحتفاظ بستوديو "توجو" في
الإسكندرية، وأسس "شركة الأفلام المصرية" واتخذ علم مصر شعارًا لها، ويُعد
ستوديو الجيزة من أكبر الاستوديوهات السينمائية في تلك الفترة، إذ أضاف إليه
مزراحي غرف صناعة السينما، وغرفاً للممثلين، وغرفاً خاصة بالإنتاج والديكور
والمكياج والصوت، بالإضافة إلى قاعة لاستقبال الضيوف.
في هذا العام اكتشف مزراحي الفنانة المصرية اليهودية ليلى مراد وقدمها للجمهور
في فيلم "ليلة ممطرة" 1939م مع الفنان يوسف وهبي، كما أخرج لها أربعة أفلام
أخرى، هي "ليلى بنت الريف"، و"ليلى بنت المدارس" عام 1941م، و"ليلى" عام 1942م
و"ليلى في الظلام" عام 1944م، وتعتبر تلك الأفلام بصمات فنية مميزة في بداية
مسيرة الممثلة ليلى مراد، إذ فتح لها توجو مزراحي أبواب النجومية لتواصل سلسلة
من النجاحات في مسيرتها السينمائية والغنائية.
في عام 1940م أنتج فيلم "الباشمقاول" للفنان فوزي الجزايرلي، وبشارة واكيم،
وحسن فايق وعرض فى 18 يناير1940م في سينما كوزموجراف، وفي نفس العام أنتج وأخرج
فيلم "قلب امرأة" بطولة سليمان نجيب، وأمينة رزق، وأنور وجدي وعرض فى 6 مايو
1940م في سينما رويال، وفي بدايات عام 1943م أنتج وأخرج فيلم "الطريق المستقيم"
تمثيل فاطمة رشدي، ويوسف وهبي، وأمينه رزق وعرض فى سينما كوزمو بالقاهرة فى 17
أكتوبر 1943م، وأعقبه فيلم "تحيا الستات" تمثيل ميمي شكيب، ومديحة يسري، وليلى
فوزي، وأنور وجدي، ومحسن سرحان وعرض فى 3 نوفمبر 1943م في سينما كوزومو، وفي
عام 1944م قدم فيلم "كدب فى كدب" بطولة أنور وجدي، وببا عز الدين، وبشارة واكيم
وعرض فى 21 سبتمبر 1944م في سينما أوليمبيا.
عرض لمزراحي فيلمين من إنتاجه فقط هما "ابن الحداد" بطولة وإخراج يوسف وهبي،
وبمشاركة مديحة يسري، ومحمد أمين وعرض بسينما كوزمو في القاهرة، وفيلم "شارع
محمد علي" إخراج وقصة نيازي مصطفى، وبطولة عبد الغني السيد، وهاجر حمدي وعرض فى
21 ديسمبر 1944م في سينما كوزمو. وقام توجو عام 1945 بإنتاج فيلم "المظاهر"
للمخرج كمال سليم وبطولة رجاء عبده، ويحيى شاهين، وعرض فى 1 فبراير 1945م في
سينما كوزمو، وفى نفس العام أيضا قام بإخراج وإنتاج فيلم "سلَّامه" عن قصة علي
أحمد باكثير وحوار وأغاني بيرم التونسي، وتصوير عبد الحليم نصر وبطولة أم
كلثوم، ويحيى شاهين، واستيفان روستي، وعبد الوارث عسر، وفؤاد شفيق وعرض فى 9
أبريل 1945م في سينما ستوديو مصر، ويُعد "سلامة" أول فيلم تاريخي قام بإخراجه
مزراحي، وتدور أحداثه في فترة الدولة الأموية، وفي نفس العام قام توجو مزراحي
بإنتاج فيلم "الفنان العظيم" من إخراج وقصة وسيناريو يوسف وهبي وبطولة مديحة
يسري، ويوسف وهبي، وسراج منير وتم عرض الفيلم فى 25 أكتوبر 1945م في سينما
كوزمو في القاهرة، وقامت شركة الأفلام المصرية "توجو مزراحى" بإنتاج فيلم "قصة
غرام" للمخرج محمد عبد الجواد، وقصه وسيناريو كمال سليم، وبطولة المطرب إبراهيم
حمودة، وأميرة أمير، وبشارة واكيم.
في عام 1946م قام بإنتاج فيلم "يد الله" من إخراج وقصة يوسف وهبي، وتمثيل أمينة
رزق، ويوسف وهبي وعرض فى 31 يناير 1946م، وفى نفس العام أيضاً قام بإنتاج
وإخراج فيلم "ملكة الجمال" تمثيل ليلى فوزي، وكارم محمود الذى عرض فى 25 أبريل
1946م وقبل انتهاء العام، قام مزراحي بإنتاج فيلم "إكسبريس الحب" من إخراج وقصة
حسين فوزي وتمثيل المطربة اللبنانية صباح، وفؤاد جعفر، وعرض فى 6 ديسمبر 1946م
في سينما كوزمو.
يُعد هذا الفيلم آخر الأفلام التي قام بإنتاجها مزراحي، حيث لم يقم بإخراج أو
إنتاج أي أفلام أخرى، بعد أن أنتج وأخرج 32 فيلماً في تاريخه السينمائي ووجوده
فى مصر من عام 1930م حتى عام 1946م، بالإضافة إلى قيامه في نفس هذه المدة
بإنتاج 4 أفلام ناطقة باللغة اليونانية، بسبب كثافة عدد أفراد الجالية
اليونانية فى الإسكندرية وهى نسخ طبق الأصل من الأفلام المصرية التي قام
بإنتاجها وإخراجها ومنها فيلم "الدكتور فرحات" الذى قام ببطولة نسخته المصرية
فوزي الجزايرلي، واستيفان روستي، وفؤاد شفيق، إذ كانت تُعد من أكبر الجاليات في
مطلع القرن العشرين حتى الخمسينيات، وكانت تُقام العروض الفنية اليونانية على
المسارح المصرية وتكثر الأنشطة والمهرجانات الثقافية اليونانية في الإسكندرية
تحديداً، حيث التقى توجو بإحدى الفرق اليونانية المشهورة في تلك الفترة وتعاقد
معها على إنتاج وإخراج فيلم طبق الأصل لفيلم "الدكتور فرحات" الذي أنتجه عام
1935م ناطقاً باللغة اليونانية وتم عرضه في اليونان عام 1937م ولاقى نجاحاً
كبيراً. بالإضافة إلى قيامه بإنتاج 8 أفلام لمخرجين آخرين ليكون مجموع ماقام
بإخراجه وتمثيله وإنتاجه 44 فيلماً فى باكوس وستوديو الجيزة الذى استأجره، قبل
أن يغادر مصر ويُهاجر إلى إيطاليا عام 1949م بعد إعلان تأسيس دولة اسرائيل، إذ
طالته أصابع الاتهام بالصهيونية؛ ففضل أن يهاجر إلى البلد التي انحدر منها
أجداده، حيث توفى فيها فى 5 يونيو 1986م، ورفض الذهاب إلى إسرائيل طوال حياته.
لعل هذا الحرص على تقصي الحياة الفنية لتوجو مزراحي باعتباره أول وأهم من قدم
السينما المصرية وأول من قام بإنتاج قسم كبير من أفلامها منذ بدايتها كان لابد
منه للتدليل على أهمية اسم مزراحي كيهودي مصري قامت على أكتافه السينما
المصرية، كما أنه قدم العديدين من الممثلين المصريين إلى هذه السينما والتي
كانت ليلى مراد من أهم هؤلاء الممثلين، بالإضافة إلى سعيه مع المخرج أحمد
بدرخان لإنشاء نقابة السينمائيين المصريين وهو الحلم الذي تحقق عام 1955م
بتدشين هذه النقابة.
يقول الناقد السينمائي الراحل سمير فريد: "لم يتمكن مخرج يهودي قبل وأثناء
الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945م) من التعبير عن ثقافته كيهودي كما تمكن
توجو مزراحي (1901 ـ 1986م) في وقت صعود الفاشية في إيطاليا والنازية في
ألمانيا ووصول العنصرية ضد اليهود إلى ذروة جديدة في العالم، وبخاصة في
أوروبا"، ولعل أهمية ما قاله الناقد سمير فريد تعود إلى تصوير حالة التقبل
والتسامح لكل الثقافات في مصر في هذه الآونة قبل بداية المد القومي الذي أدى
إلى الكثير من العنصرية والرفض لكل ما هو غير مصري، وغير مسلم؛ الأمر الذي جعل
المجتمع المصري فيما بعد شديد التعصب غير قادر على قبول اليهود المصريين أو حتى
غيرهم من أبناء الجاليات الأجنبية الأخرى مثل اليونانيين والشوام، والإيطاليين،
بل وصل الأمر بهذا التعصب نحو كل ما هو عروبي وقومي وإسلامي إلى إلغاء اسم توجو
مزراحي من على أفلامه عندما كانت تُعرض على شاشات التليفزيون المصري في
الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهذا ما يُشير ويُدلل على خطورة الوضع
الثقافي المصري بعد ثورة 1952م التي تشدقت كثيرا باسم القومية والعروبة؛ مما
دفعها إلى التنكر لكل ما هو مصري وحقيقي وأصيل لمجرد أنه مختلف الديانة أو
يهودي رغم كونه مصريا أصيلا؛ الأمر الذي جعل السلطات المصرية تُضيق عليهم
وتضايقهم لدفعهم إلى الرحيل، في حين أن مزراحي نفسه لم يكن متعصبا لكونه يهوديا
وهو ما جعله يقدم أم كلثوم في فيلمه "سلامة" وهي ترتل القرآن.
كما أنه بعد هزيمة الجيش المصري في فلسطين على يد العصابات اليهودية تغير الجو
الاجتماعي المصري وبدأت العديد من التيارات المعادية لكل ما هو مختلف عنها في
الظهور على السطح، وكان من بين هذه التيارات من أبدوا عداوة حقيقة وواضحة
لليهود المصريين، وبلغ الحال إلى ارتفاع الكثير من الأصوات من أجل محاربة شركات
وأعمال اليهود في مصر، حتى ولو كانوا من المصريين، وتم تخريب متاجر اليهود، كما
حدث لمتجر شيكوريل سنة 1948م، وهنا أدرك توجو مزراحي والجميع أيضا أن نهاية
الثقافة الكوزموبوليتانية في مصر قد أوشكت على الأفول، بل إن الإنتاج السينمائي
المصري في عصره الذهبي قد أوشك على الخفوت؛ ومن ثم فإذا ما استمر على الإنتاج
لابد سيتكبد خسائر فادحة وكانت هذه الأسباب من أهم أسباب رحيله إلى إيطاليا
رافضا النزوح إلى إسرائيل، وهذا ما يؤكد عليه الناقد أحمد رأفت بهجت في كتابه
المهم "اليهود والسينما في مصر والعالم العربي": "الواقع أن مزراحي كان قد أتم
رسالته السينمائية لحساب الصهيونية وانسحب في الوقت المناسب لسببين: أولهما أن
تقارير وزارة الداخلية بدأت تُشير صراحة بعد إنتاجه فيلمه الأخير "إكسبريس
الحب" إخراج حسين فوزي 1946م، إلى دوره في مساندة الصهيونية، وتأتي مذكرتها
المؤرخة بتاريخ 19 سبتمبر 1946م لتشير دون أي لبس إلى ذلك: "المعروف عن منتج
الفيلم أنه يهودي متصل بالصهيونية ويعمل بإيعاز من الصهيونيين لعمل أفلام دعاية
لنشر أفكار معينة"، ومع ذلك فهذا السبب لم يكن كافيا لتوقفه عن العمل فغيره من
الصهاينة استمروا يعملون في مصر حتى نهاية الخمسينيات وفي مقدمتهم عائلة موصيري
التي كانت تسانده من خلال شركة "جوزي فيلم"، ومن هنا يأتي السبب الثاني ليرجح
كفة الانسحاب، ويرتكز على أنه كان يتوقع المحنة التي مُنيت بها السينما المصرية
بعد الحرب العالمية الثانية، وما زال معاصروه يتذكرون ما قاله يوم أن أعلن هذا
الانسحاب: "سأكون متفرجا من اليوم سأراقب من بعيد ما سيعانيه الفيلم المصري من
محن، وما ستكابده شركات الإنتاج من أزمات وصعوبات، وقد يستطيع غيري من المنتجين
أن يحتمل الظروف المقبلة، لكني أنا شخصيا لن أتحملها، بل أعتقد أن المنتج الذي
يزج بنفسه ليقف أمام هذه العاصفة، إنما يغامر بإنتاجه ويغامر بأمواله، ومن
العبث أن يُكابر الإنسان في مثل هذه الظروف، ومن أراد أن يُكابر فعليه أن يتحمل
وحده وزر تفكيره وتبعة اندفاعه".
إذا كنا قد حرصنا على سوق هذا الاقتباس بالكامل من كتاب الناقد أحمد رأفت بهجت
فقد كان حرصنا لسببين مهمين، أولهما: توضيح أن مزراحي قد ترك مصر لأن ظروف
الإنتاج والأزمة التي مرت بها السينما المصرية بعد الحرب العالمية الثانية لم
تكن لتساعده على الاستمرار؛ لأن معنى الاستمرار هنا هو الخسارة، وهو من حقه
كمنتج مهما كان محبا للسينما أن يحافظ على أمواله والتوقف عن الصناعة ما دام
يرى أنها تمر بأزمة وباتت خاسرة بالنسبة له، كما أنه قد بدأ التضييق الفعلي
عليه باتهامه بالعمل من أجل صالح الحركة الصهيونية، أما السبب الثاني فهو
التدليل على نكران الجميل فعليا لكل اليهود الذين عملوا في مجال السينما
المصرية رغم وطنيتهم ومصريتهم وانتمائهم؛ فلم يوجد يهودي مصري واحد منهم إلا
وتم اتهامه بتهمة العمل من أجل الصهيونية، وإذا كان مزراحي بالفعل يعمل من أجل
خدمة الحركة الصهيونية كما ذهب المؤلف أحمد بهجت فلم لم يذهب إلى الكيان
الصهيوني ولو مرة واحدة طوال حياته بعدما ترك مصر وفضل البقاء في إيطاليا حتى
وفاته عام 1986م، ورغم الكثير من الدعوات الموجهة له لزيارة الكيان الصهيوني
إلا أنه لم يفعل ذلك حتى على سبيل الزيارة؟
كما أن التقرير الأمني الذي ساقه بهجت يقول: "المعروف عن منتج الفيلم أنه يهودي
متصل بالصهيونية ويعمل بإيعاز من الصهيونيين لعمل أفلام دعاية لنشر أفكار
معينة"، وهنا لا بد من التساؤل: إذا كان الرجل منذ بدأ العمل في مجال السينما
المصرية يعمل من أجل صالح الصهيونية كما يذهب التقرير الأمني، لم لم يتم توقيفه
أو طرده من مصر، أو على الأقل منعه من تقديم أعمال سينمائية في الوقت الذي كان
مزراحي مسيطرا على كل مقدرات الصناعة السينمائية في مصر وحده؟ هل يُعقل أن تعلم
السلطات المصرية كونه عميلا أو جاسوسا وتتركه بكل هذه الحرية لدرجة أنه كان
المحتكر الأول لصناعة السينما في مصر، ومختلط بكل ممثليها ومن يعملون في هذه
الصناعة؟! يبدو من خلال ما ساقه المؤلف أن ثمة تحاملا وتوجها أيديولوجيا مسبقا
للناقد ينطلق منه في كتابة ما يكتبه.
لعل في إصرار توجو مزراحي على البقاء في إيطاليا وعدم مغادرتها إلى إسرائيل حتى
ولو كان من أجل الزيارة ما يُدلل على أن السينما المصرية كانت بالفعل ناكرة
لجميل كل اليهود الذين عملوا فيها بتهميشهم ومحاولة نسيانهم وتوجيه العديد من
الاتهامات لجميعهم تقريبا رغم أنه لم تثبت على أي منهم تهمة العمالة، أي أن
المد القومي بعد ثورة 1952م جعل من أبناء الوطن المصريين أعداء وعملاء لمجرد
أنهم مختلفين في الديانة، أو لأن ديانة العدو هي نفس ديانتهم؛ مما جعل الجميع
يعادونهم، ويتم محوهم من الذاكرة الجمعية والثقافية للمصريين رغم أفضالهم
الكبيرة على فن السينما وغيرها من الفنون؛ مما جعل السينما المصرية ناكرة
للجميل فعليا.
بطبيعة الحال لم يتوقف الأمر على توجو مزراحي باعتباره أهم اليهود الذين ساهموا
في صناعة السينما المصرية، بل ساهم في هذه الصناعة الكثيرون من اليهود المصريين
الذين لا يمكن تنحيتهم من الوعي الجمعي المصري، أو محوهم من الثقافة المصرية،
وكان من أهم هؤلاء اليهود المصريين الممثل المصري ميشيل ديمتري شلهوب أو عمر
الشريف الذي قدم تاريخا طويلا من الأفلام السينمائية المصرية المهمة حتى وفاته،
والممثلة الراحلة ليليان زكي موردخاي أو ليلى مراد التي قدمها للسينما توجو
مزراحي وهي الممثلة التي أثرت السينما المصرية بالعديد من الأفلام المهمة والتي
ما زالت موجودة في الوعي الجمعي المصري باعتبار أن أفلامها من أهم أفلام
السينما المصرية، وقد لدت في عام 1916م في الإسكندرية لأب هو المغني والملحن
الحلبي إبراهيم زكي موردخاي "زكي مراد" وأمها جميلة سالومون وهي يهودية من
القاهرة. كانت من أسرة متواضعة الحال تخرجت في مدرسة راهبات نوتردام ديزابوتر
للبنات بالزيتون، والممثلة نظيرة موسى شحاتة أو نجوى سالم وهي من عائلة مصرية
الجنسية، رغم أن أباها لبناني وأمها يهودية إسبانية لكنها أسلمت كما فعلت ليلى
مراد عام 1960م، وتزوجت من الناقد الفني الراحل عبد الفتاح البارودي، وبعد نكسة
1967م راحت تشجع القوات المصرية على القتال، ومنحها قائد الجبهة الشمالية درعًا
لجهودها أثناء حرب الاستنزاف، والممثلة بوليني أوديون نجمة إبراهيم صاحبة شخصية
'ريا' في فيلم 'ريا وسكينة' والتي ظلت على ديانتها اليهودية حتى وفاتها، وفي
عام 1976م خصصت عوائد عرضها المسرحي 'سر السفاحة ريا' لتسليح الجيش المصري،
وأوفدتها الدولة للعلاج في الخارج على نفقتها عام 1962م لمواقفها الوطنية،
والممثلة ليليان فيكتور كوهين أو كاميليا عشيقة الملكة فاروق التي احترقت بها
الطائرة عام 1950م، وهي من أصول يهودية وأبوها إيطالي 'فيكتور' هجر أمها
فنسبتها لصديق لها ليصبح اسمها ليليان ليفي كوهين، وكانت تعمل بالتجارة حتى
التقى بها أحد منتجي السينما وعرض عليها العمل على أن تكون خليلة له فقبلت، إلى
أن التقت بالسينمائي 'أحمد سالم' فوضعها على طريق النجومية، ثم دخل مع الملك
فاروق في صراع عليها، ولكنها لم تقطع علاقتها بالملك، والممثلة راشيل إبرامينو
ليفي أو راقية إبراهيم التي مثلت البطولة أمام محمد عبد الوهاب في فيلم 'رصاصة
في القلب' 1944م، وكانت تعمل في خياطة ملابس الأفلام، وكان أول ظهور لها من
خلال فيلم توجو مزراحي 'ليلى بنت الصحراء' 1937م، ثم تعددت أدوار بطولتها حتى
قامت ثورة 1952م فأعلنت تأييدها ودعمها لاستقلال مصر، ثم غادرت إلى أمريكا عام
1954م، والراقصة كاترين فوتساكي أو كيتي التي أجادت عدة أدوار في بعض أفلام
إسماعيل يس مثل "عفريتة إسماعيل يس" 1954م، و"متحف الشمع" 1956م، ولكن سرعان ما
اختفت في الستينيات، والممثل والملحن القدير موريس زكي موردخاي أو منير مراد
شقيق الممثلة ليلى مراد الذي بدأ حياته كبائع للبطاطس والجبنه وأمواس الحلاقة،
وترك الكلية الفرنسية للعمل في التمثيل والغناء والتلحين، حيث دخل مجال السينما
كعامل كلاكيت ثم عمل كمساعد مخرج مع أنور وجدي وكمال سليم، كما اشتهر بتقليد
الفنانين وقام بالتمثيل في خمسة أعمال أشهرهم "نهارك سعيد" عام 1955م، وقد
اعتنق الإسلام ليتزوج من الفنانة سهير البابلي، واستمرا معاً لمدة عشر سنوات،
لم ينجبا خلالها، حتى تم الطلاق بسبب غيرة "منير" من المعجبين بزوجته، والممثل
بدرو لاماس أو بدر لاما، والممثلة فيكتوريا كوهين، والممثلة إستير شطاح التي
قامت بدور زوجة أبو الوفا العجوز سليطة اللسان في فيلم "سلامة" 1945م، كما مثلت
في العديد من الأفلام الأخرى منها "رباب" 1943م، و"عنتر وعبلة" 1945م، و"هذا
جناه أبي" 1945م، و"القلب له واحد" 1945م، و"حرم الباشا" 1946م، و"تمر حنة"
1957م، و"آه من حواء" 1962م وغيرها من الأفلام.
لعل المصريين جميعا لا يستطيعون نسيان أدوار الممثل اليهودي المصري إلياس مؤدب
الذي ينسبه البعض إلى لبنان بينما يؤكد الآخرون أنه مصري، بينما هو في حقيقة
أمره مصري من أب سوري اكتسب الجنسية المصرية وأم مصرية، واسمه الحقيقي هو إيليا
مهذب ساسون، وقد تعرف على بشارة واكيم وإسماعيل ياسين اللذين فتحا له الأبواب
للعمل في أماكن عديدة، وكان أول أفلامه مع المخرج محمود ذو الفقار في فيلم
"هدية" 1947م، بينما كانت شهرته الحقيقية في فيلم "عنبر" 1948م إخراج أنور وجدي
حينما غنى في اسكتش "اللي يقدر على قلبي" مع ليلى مراد حينما غنى "جيتك من آخر
لبنان مشغول الفكر وحيران".
كذلك كان من بين الممثلين اليهود الذين ساهموا في إثراء السينما المصرية جمال
وميمو رمسيس اللذين ظهرا في نهاية الخمسينيات في بعض الأدوار الثانوية، فجمال
هو الممثل الذي قام بدور لوسي ابن طنط فكيهة خالة سعاد حسني في فيلم "إشاعة حب"
1960م، بينما شقيقه ميمو كان هو رجل العصابة في فيلم "إسماعيل ياسين بوليس سري"
1959م، وفيلم "ملاك وشيطان" 1960م، كما كان هناك الممثل اليهودي والمطرب زكي
الفيومي الذي اشترك في العديد من الأفلام منها "الدنيا لما تضحك" 1953م،
و"فتوات الحسينية" 1954م، كذلك سامية رشدي وكان اسمها الحقيقي "إستير" وقامت
بالعديد من الأدوار في أفلام منها "ألمظ وعبده الحامولي" إخراج حلمي رفلة
1962م، و"رابعة العدوية" إخراج نيازي مصطفى 1963م، كذلك الممثلة سرينا إبراهيم
الأخت الكبرى غير الشقيقة للمثلة نجمة إبراهيم، والممثل سلامة إلياس الذي ظهر
في الكثير من الأفلام السينمائية منها "أرض النفاق" 1968م، و"العتبة جزاز"
1969م، و"العوامة 70" 1982م وغيرها.
من تركيا كذلك جاء إلى مصر الممثل والمنتج اليهودي وداد عرفي الذي اشترك
بالتمثيل في خمسة أفلام مصرية، كما قام بإخراج ثلاثة أفلام لم يعرض منهم سوى
فيلم واحد فقط هو "غادة الصحراء" 1929م، بينما تم حرق فيلم "تحت سماء مصر"
بواسطة منتجته وبطلته فاطمة رشدي بعد اكتماله وقبل عرضه؛ حيث رأت فيه مهزلة من
الممكن أن تؤثر على سمعتها المسرحية، بينما منعت الرقابة الفيلم الأخير ولم
يعرض نهائيا لأسباب تمس الأخلاق العامة.
هنا يتضح لنا أن عدد اليهود الذين شاركوا في صناعة ونهوض السينما المصرية لا
يمكن الاستهانة به، وأنهم كان لهم عظيم الفضل على هذه السينما من أجل الارتقاء
بها، رغم أن المصريين فيما بعد اتهموا الغالبية العظمى من هؤلاء اليهود
المصريين بالخيانة والعمل من أجل صالح الصهيونية، وبدأ الجميع يُشككون في كل ما
يذهبون إليه حتى أن الناقد أحمد رأفت بهجت يرى أنهم كانوا يلعبون دورا صهيونيا
كبيرا منذ البداية ويعملون على إفساد القيم والأخلاق المصرية في شكل من أشكال
الكتابة المؤدلج الذي يُعادي كل ما هو غير مسلم، أو يعمل على التشكيك في كل ما
هو يهودي من خلال نظرة دينية ضيقة لا علاقة لها بالفن؛ الأمر الذي يؤكد أن
الثورة المصرية تركت بالكثير من الآثار السلبية على العقلية والثقافة المصرية
لدرجة أن يعملوا على تنحية جزء كبير من ثقافة مصر بسبب ديانتهم التي يدين بها
أعدائهم، رغم أن هؤلاء اليهود كانوا مصريين حقيقيين، بل كان هناك منهم من هو
أكثر وطنية من أي مصري آخر، ولكن يبدو أن السينما المصرية التي انساقت للعقل
الجمعي فيما ذهب إليه كانت بالفعل ناكرة للجميل العظيم الذي قدمه لها اليهود. |