جديد الموقع

 
 
 
 
عنوان الصفحة:

د.محمد البشير يكتب: فيلم «فضيلة أن تكون لا أحد».. معادلة اليسر والعسر

 
 
 

 

   

د.محمد البشير يكتب:

فيلم «فضيلة أن تكون لا أحد».. معادلة اليسر والعسر

 
   
   
   

د.محمد البشير
 
كاتب وناقد سعودي
 
 

 

فيلم «فضيلة أن تكون لا أحد»..

معادلة اليسر والعسر

د.محمد البشير

 

أحرز المخرج بدر الحمود جائزة المهر الخليجي في مهرجان دبي السينمائي نهاية 2016م عن فيلمه الأخير (فضيلة أن تكون لا أحد)، وأعقبها بجائزة أفضل سيناريو في مسابقة الأفلام السعودية عام 2017م، و أكد جدارة الفيلم بمتوالية الفوز، وحصاد جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان لندن للأفلام المستقلة في مايو 2017م.

وقد قدم بدر الحمود فيلمه في قالب إشكالي يجمع المتضادات ويشتتها أمام المشاهد؛ ليقوم المشاهد بدوره في جمعها بيمينه، حتى يدرك -أو لا يدرك- الفضيلة التي أرادها الفيلم.

 

تعقيد العنوان

اعتمد المخرج بدر الحمود عنواناً إشكالياً طويلا حشد المتضادات في ثناياه، مما يشي ابتداء بالعسر الطارد للمشاهد، فما المحفز لمشاهد أن يدخل فيلماً بهذا العنوان الطويل والمتضاد (فضيلة أن تكون لا أحد ) ؟!

حين يقرأ المشاهد هذا الاسم يجد ذاته في ثناياه، فالرسالة موجهة إليه بوصفه من يقرأ، والعنوان بضمير المخاطب يغازل المشاهد في (أن تكون) أنت، وهذا ما يحفز (الأنا) للبحث عن الفضيلة المنشودة في العنوان، وذلك حينما وهبها المخرج إحدى مكانتين إما الخبرية على التقدير أو الابتداء بتقديمها، فإن كانت خبراً على تقدير (هي فضيلةٌ) ويردفها ما بعدها، سيظل الاستفهام عالقاً عن أي فضيلة يتحدث حين أكون لا أحد ؟!

وإن كانت مبتدأ أو اسمَ إن ( فضيلةُ-فضيلةَ) متعلقة بما بعدها حين تكون مضافاً يحتاج إلى ما بعده، غير أنه جعل المضاف إليه جملة أخرى لا تقل تعقيداً تبدأ بـ (أن) حرف مصدر ونصب، و(تكون) فعل مضارع ناقص منصوب، واسمه ضمير مستتر تقديره (أنت)، والجملة من لا النافية والمنفي (لا أحد) في محل خبر.

وقد ترك عنوان الفيلم مساحة للتأويل بنقص المعنى عندما أهمل (فضيلة) دون علامة إعرابية، وهي في كل الأحوال أحوج ما تكون إلى ما بعدها، فهي تفتقر لخبر العنوان (فضيلة أن تكون لا أحد) الذي ظل دون خبر ، أو تم الإخبار عنه بخبر ناقص لا يقل استفهاماً عنه، وليبقى معلّقاً بجواب ينتظره المشاهد ، فمهمة السينما -كما يراها أصغر فراهيدي – إثارة الأسئلة، وهذا الفيلم بدأ بأول الخرزات من عتبة الفيلم؛ لتتوالى الخرزات تباعاً.

 

تغليب الحوار

يقوم الفيلم على الحوار أكثر منه بصرياً، وهذا ما أوقع المشاهد منذ الوهلة الأولى في شَرَك الإيقاع البطيء، حين وضع المشاهد معه في السيارة؛ ليعيش أجواء اثنين جمعهما الطريق في سيارة واحدة! لا يعرف أحدهما الآخر، كما أن المشاهد لا يعرفهما أيضا، وهذا ما يريد .

بدر الحمود الذي امتاز عبر مسيرته الإخراجية بجمال الصورة؛ هل كان عاجزاً أن يمنح ذلك المقطع مساحة من التنقل البصري ليخفّف الحمل على المشاهد ؟!

لا أراه عاجزاً عن ذلك، فالقطع أيسر بكثير من الطريقة التي سلكها لتبليغ رسالته، ولكنه اختار الطريق الأصعب حين ثبّت كاميرته خارج السيارة، ووضع ممثليه المبدعين (إبراهيم الحساوي وَ مشعل المطيري) في اختبار صعب بتقمص الشخصيتين، وتمثل كل واحد منهما شخصيته بجودة عالية حدَّ الحديث دون تكلف يظهر عوار التمثيل، بل كان أداء مقنعاً لاثنين يجمعهما الطريق، وقد خدم الحوار هذا الجانب انطلاقاً من انفتاقه المنطقي بالسؤال عن الأسماء، وانفراط سبحة الحديث، بل والحث عليه في جواب (بوناجي) وقتها، حين استدر الحديث من (بومحمد) عن سالفته وقابلية سماعه وعدم ضجره من الإصغاء إليه بقوله : (لا شدعوى هذا احنا قاعدين نسولف)، لينهمر الحديث بينهما في تناوب رائع ما بين حديث وفواصل صامتة لا يدنسها القطع، وهذا ما دعا إلى ما يشبه توخي الأمانة في نقل الحوار، إذ يقوم الفيلم على الحوار بوصفه عموده الذي به ينهض أو يسقط، ولذلك كان تركيز الفيلم على الحوار في موطنين (السيارة) و(المطعم)، وكأن المخرج أراد عمدا تغليب الحوار على غرار الفم الذي يظهر  في الوجه غالباً، فسارج براندو يقول : ( إننا نرى في الوجه غالباً الفم)، ولذلك كان تغليب الحوار في هذا الفيلم من قبيل تغليب ما يستحق ذلك، وهذا ما انعكس على تقليص ما سوى ذلك، فكان الانتقاء لا يفتش عن أي (اكسسوارات) إضافية، انتقاءً مقتصداً جداً، اقتصاداً حدَّ وضع زهرية صغيرة تحمل وردة مفردة على طاولة المطعم، وقبل ذلك سيارة لا يظهر فيها سوى صورة (محمد) حين قلبها والده قبل بداية الفيلم، وفي قلبها طي صفحة يفتحها الحوار، فالصورة لم تكن وفية للحديث عن الطفل المفقود، بقدر الحوار الذي افتقده (بومحمد) طويلاً، ورأى في (بوناجي) –دون أن يدري- اللا أحد الذي استطاع أن يخرج ما في صدره .

 

تفتيت الفقد

يركز الفيلم على سلسلة من حالات الفقد، فـ (بو محمد) فقد ابنه، وعاش عذاباته حتى خاف الفقد، فكان أخوف ما يكون من فقد زوجته، ولكنه حين طلّقها قبل لقاء (بو ناجي) حكى له حالة من اختلاف المفهوم، فهو يخشى تأنيب الضمير بطلاقها، وحين استيقظ لم يشعر بشيء من ذلك، فأنبه ضميره حين لم يؤنبه، وهذا ينقلنا إلى الشذرات الثمينة التي ألقاها في ثنايا الفيلم مثل (ضميري أنبني لأن ضميري ما أنبني)، و(غريبة .. نبكي على آثارهم ولا نبكي لحظة فراقهم) وهي أيضاً عبارة أطلقها (بو ناجي) بعد حوار، وتحكي الحالة الغريبة من قدرة آثار المفقود على تهييج الحزن بقدر يفوق حالة الفقد ذاتها، ولعل الفيلم يحاول موازنة الأمر في تهويله من جانب والتفاعل معه بحجم الحزن على فقد محمد في الحرم، أو موت ناجي في عين عذاري، والتفاعل العجيب بفقد صوت طلال مداح ساعة سقوطه على مسرح المفتاحة إلى حد انتقال (بو ناجي) من البحرين ساعتها إلى جريدة اليوم بالدمام؛ ليعلم ما حدث ؟! وخشية (بو محمد) من فقدان والده لذاكرته بالزهايمر فلا يعرفه، والتصالح مع ذلك الفقد وغيره بتبرير (بو ناجي) للزهايمر بالرحمة التي ينزلها الله على عباده، لنسيان ما يحزنهم من أشياء فقدوها، ليجعل من النقص بفقد الذاكرة زيادة في الربح بالنسيان، ويجعل من تلك النقيصةِ فضيلةً أحوج ما يكون لها الشيخ لقدر ما فقد.

إن الفيلم يفتش عن نقاط التصالح كحال (بو ناجي) من قبل مع فقد عينه واستثمار ذلك الفقد في صغره، أو ما يريد أن يوصله الفيلم بالفضيلة،  في فقد (بو ناجي) لقصته وتصالحه مع كل شيء : فقد عينه ، فوات الباص، نسيان مدى حزن زوجته وتغيرها بعد فقد ولده، والوصول إلى حالة من التسامح غريبة لدرجة أنه لا يفكر إلا بكأس الكرك الذي في يده الآن، وغرابة القول بأن أخوف ما يخافه (يكون الباص فاضي)!، فالفيلم بقدر ما يثير من أسئلة يحاول الإجابة ، ولكنها الإجابة الفخ التي تُفضي إلى مزيد من الأسئلة؛ ليحافظ الفيلم على قيمته بإثارة الأسئلة في سكون الأجوبة الناقصة التي تحتاج إلى عصف المشاهد لتمامها .

 

تيسير الدهشة

يمارس الفيلم لعبة ماتعة، حين يحاول جذب المشاهد بعد جرعة يسيرة من الإيقاع البطيء، تقوم بدور المحفز لما بعدها من النشاط، بغية إرضاء جانب الفضول لديه، فالبطلان لا يعرف أحدهما الآخر، وفي دقائق معدودة يكشف الفيلم جوانب كثيرة في شخصيتهما بفضل الحوار، وتفاصيل دقيقة يحتاج الصديق إلى سنوات لمعرفتها، وهذا الجانب من الكشف يحفز ملكة الفضول ، إذ الفضول هو الباعث لملاحقة الكثير من قبل المشاهد، وتعرفه عليهما حدَّ جلوسه ثالثهما، فهو المنصت دون حديث الذي لم تظهره الكاميرا، وما أن يصله هذا الوهم بكشف شخصية كل من (بو ناجي) وَ (بو محمد)، حتى يصاب بصدمة النهاية، كتلك الصدمة التي مارسها المخرج Yvon Marciano في فيلمه القصير Emilie Muller  المنتج عام 1994م في 20دقيقة ، والفائز بثمان جوائز، حين خرجت البطلة بعد حوار استغرق معظم الفيلم، ليكتشف المشاهد في نهاية المطاف أن الحوار كله عن محتويات شنطة ليست لها، وكذلك مُشاهد فيلم (فضيلة أن تكون لا أحد) يُصدم بمشهد تبديل مكان غطاء عين (بو ناجي) من العين اليسرى إلى العين اليمنى، في إرهاصة لمعرفة جانب من شخصية (بو ناجي) التي ربما يؤولها ابتداء إلى النصب والاحتيال، ولكن الفيلم لا يرضى بذلك، فيبقي السؤال عالقاً : أين الفضيلة ؟!

حتى يكمل مع المشاهد لعبة الكشف الممتعة بركوب (بوناجي) سيارة أخرى، لتبدو الفضيلة وقتها حين يلبس ثوب (بو محمد)، ويبدأ سرد قصة ضياع ابنه في الحرم، مؤمناً بأن الحوار هو اللب، ولذا استطاع أن يمتزج بمقابله، فالحوار على حدِّ قول باشلار (سليل ثقافة الأذن)، فالبطل تمثل ذلك في حالة أشبه ما تكون بحالات التوحد التي تعيشه الروائية (تيري ماكميلان) حين تستغرق تماماً في شخوصها التي تكتبُ عنها؛ حتى تصبحَهُم، فتفقد كل إحساسها بالواقع الخاص بها، وكذلك (بوناجي) الذي تجسد (بوناجي) حتى أقنعنا بالاسم، وتحول إلى (بو محمد) في حالة استغراق حتى أصبحه حين فقد إحساسه بالواقع الخاص به منذ (بوناجي) ؛ ليتنقل من شخصية إلى أخرى بكل سلاسة، وبذلك يتجاوز كل حالات التماهي التي يعيشها الروائيون مع أبطالهم، والممثلون في شخصياتهم، ليجسده في حالة تمثيلية أقرب للواقع، فيصحب المشاهد إلى ما يرمي إليه في حواره الأخير الذي رحل مع تتر الأسماء .

إن فيلم (فضيلة أن تكون لا أحد) يبدأ فور إعادة المشاهد بذاكرته لكل كلمة في الحوار، ووقوفه عند كل ما قفزه ليرى قيمته، فلا يفوت مثل تلك العبارة التي مرت عابرة ( أكثر شي يخوفني ألحين .. ألحين .. يكون الباص فاضي)!، وغيرها من جمل عابرة، لأنه يدرك وقتها أن لا عابر يمر دون قيمة، حتى ذلك اللا أحد حين انتزع ما يعتلج في صدر (بو محمد) ولم يجد متنفساً سواه؛ يبثه شكواه، فالغريب كان القريب، وهو المشاهد/ثالث الأبطال غير أنه لم يظهر.

 

مجلة الرافد الإماراتية في

01.08.2017

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)