زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"اِحسم الأمر وغادر هذه البلدة" للبولندي ماريوش فيلشينسكي:

الجاثُوم الأوروبي الرجيم

بقلم: زياد الخزاعي

 

 

   

كأن البولندي ماريوش فيلشينسكي يحمل جهنم فوق ظهره، في باكورته الطويلة المصنوعة من رسوم متحركة، "اِحسم الأمر وغادر هذه البلدة" (88 د)، والسبب هو فائض عائلي حارق، يقوده رؤيوياً الى إعادة صياغة ذكرياته ومعايشاته مع أهله وخلانه وأصدقائه وأهل مدينته لودز في سبعينات القرن الماضي، الذين يتحوّلون الى نفوس منحوسة. يتجسَّدون كحيوانات ذات وجوه شريرة. يتلبَّسون رؤوس أسماك، ومناقير غربان، وخطوم زواحف. كل شيء في تابلوهات فيلشينسكي التى أنجزها يدوياً وصورها ومنتجها بنفسه على قدر واضح من البشاعات. ليس تشويهاً متعمداً، بل لإن حقبة التوتاليتارية التي تربَّى عليها، حاصرت الناس بجوع مبطن، وقهر مزمن، قادتهم الى مراتب قطيع جائع ومقتتر ويائس.

يبدأ الشريط مع جذوة حمراء وسط فيض من سواد، تومض كما لو أنها "قبس خلق العالم"، تعطي إيحاء ملتبساً بشبيهتها التي إفتتح المعلّم الأميركي ترانس ماليك بها تحفته "شجرة الحياة" (2011)، بيد أن الحدس يخيب، لإن ما تتكشف عنه هذه اللقطة الإفتتاحية لاحقا هي شعلة لفافة يدخنها رجل، يستمع الى شكوى ممرضة وتذمَّرها، وهما داخل غرفة عارية، تتضح كونها مشرحة، تسجَّى فوق سدتها جثة امرأة هرمة، هي والدة المخرج التي توفت للتو. من هنا، تلتف الرسوم خيطية الشكل في كل مكان، وتخترق جدراناً وشوارع وأحياء وحانات ومنازل، وتتغيَّر الى كائنات غرائبية، ومداخن وحشية، ودكاكين فارغة من المؤونة، ومدافن مظلمة. إنه "القرف البولندي"، يقول المعلق، حيث إن ما يهطل فوق البشر ورؤوسهم هو مطر أسود مثل لطخات عار إنساني، لا فكاك منه.

****

ما نتابعه هو تفاصيل جاثوم أوروبي رجيم وعدمي لحقبة عصيّة وضيق عيش وإنانيات شائعة، لا تُسرد كوقائع تاريخ، وإنما إحالات درامية تجمع، في الغالب، شخوصاً منكوبين بحياة متقشفة، يتداولون حولها شؤوناً خاصة وخطايا وشكوكاً معتمة، تشعّ على شاشة فيلشينسكي بلونين أسود وأبيض(الغلبة للأول دائما)، هما صبغتا جهنم إجتماعي، يصرخ عبر رأس مقطوعة ومتدحرجة، وبكلمة تهديدية واحدة هي: "اِحسمها"، في وجه البطل/ المخرج الذي يطارده بلا هوادة في كل مكان. هل هذه هامة ضمير سياسي معارض تم فصله عنوة عن جسد وطن منكوب، أم إنها خيالات كيان مهزوم، يرى في مستقبله دماً مسفوكاً؟.

تتسرب الكآبة في عالم البطل ماريوش منذ ولادته. والده الرياضي لا يكف عن التدخين والدمدمة، فيما والدته لا تكف عن القلق والنقّ بشأن إبنها. أما هو، فقد شحن عالمه بسوريالية تهكميّة من رسوم بدائية، يظهر فيها عملاقاً يسير بين الحارات، مراقباً كينونات مسحوقة وضالة. يشهد كيف مارس أبواه الجنس، الذي أدى الى "إنتاجه"، عند حافة سفينة، بينما يصورهم العابرون عبر هواتفهم النقالة، بطريقة إستعراضية لا تخشى تضارب الأزمان، ذلك إن جاثوم ماريوش لا يُرتهن الى زمن واحد ثابت. عليه، يجد مشاهد "اِحسم الأمر وغادر هذه البلدة"، الذي عُرض ضمن مسابقة "لقاءات" في الدورة السبعين (20 فبراير ـ 1 مارس 2020) لمهرجان برلين السينمائي، نفسه أمام خيال خصب، تتنازعه إرادتان. الأولى، أن تكون وفيّة الى عوالم شهدت إنقلاباً مدوّياً وقاضياً، إثر سقوط الكتلة الشرقية و"تحررها" من شيوعية بائدة، قبل أن تجد نفسها في أغلال رأسمالية وافدة، أفضل مَنْ صور تداعياتها شريط البولندي الموهوب يان كوماسا "الكاره" (2020)، ونجد صدى بطله المحتال الشاب والطالب الفاشل توماش، في غالبية سحن وطَّلَّات شخوص مواطنه فيلشينسكي. الثانية، إن هذا الخيال لن ينتظر الشرح أو التفصيل لمشهدياته وأبطالها، لإنهم معصومون بجاثوم، يُفترض إنه ولى، بيد إنه يفاجأنا بعودته اليوم بوجه إمبريالي جديد، يكتسح وسط أوروبا، عماده وسائل تواصل إجتماعي، وإبتزازات إيديولوجية خبيثة بعدو ثابت إسمه روسيا. من هنا، يحتشد الشريط بإشارات خاطفة لنازيين جدد وعساكر وضباط مخابرات وعسس وخوف حكومي متأصل حيث "لا يمكنك الوثوق بإحد"، حسب صرخة والد ماريوش (صوت المخرج الراحل أندرية فايدا)، وهو يقرأ جريدته داخل مقطورة قطار، يسير نحو وجهة خياليّة.

****

كلما إستَغْلق وعي البطل، تنسحب أسلاك كثيرة من جمجمته الى داخل مثيلاتها لدى أخرين يتداولون، بسرعة عجيبة،  أشكالهم الإنسانية الى زواحف دميمة، ضمن إستكشاف إستعاري ساخر لمحنهم ورزاياهم. تنقلب الأم الى عنكبوت. الأب الى غراب. الإبن الى غاليفر (بطل رواية البريطاني جوناثان سويفت المنشورة في العام 1726)، يقطع الحبال التى توثقه الى أرض بولندا القديمة، قبل أن يهيل عليها رمل الشاطيء، وهو عائد الى طفولته ورحلته الأثيرة مع والده، ورغباته في تغيير العالم، قبل ان يختفي في ماء بحر البلطيق المتكدّر بتناحر الطوائف الأوروبية وخياناتها وتواطؤاتها. نكتشف إن عزم فيلشينسكي ورسومه التجريبية يتأرجحان كسمفونية مصوّرة ومتشاحنة بين الهوية والثأر. ينأى البطل بنفسه من التأقلم مع فكرة إن الماضي يموت تلقائياً، يقول: "كل مَنْ ماتوا لم يرحلوا. إنهم ما زالوا على قيد الحياة في مخيلتي"، ويضيف: "أنا لا أومن بالموت"، وما عليه سوى القصاص منهم بتصوير حتوفهم بلون أزرق كامد، مصحوبة بموسيقى غجرية من تأليف المؤلف الراحل تادوش ناليبا الذي يهدي فيلشينسكي شريطه الى روحه وذكراه. أما حقيقته المطلقة، فيلغيها بتورية لاذعة، حين يزيل وشم أمه الذي يزين بدنه، قبل أن يحوّلها الى طفلة، تجلس في حضنه وهو يدفعها في عربة متهرئة، مُعيداً الى ذاكرته، عبر مشاهد حلمية الطابع، فضلها ـ ومعها أبوه ـ حين أهدياه ألة عرض سينمائية من صنع "المانيا الديمقراطية!!"، ويعرفاه الى مستقبله كصانع أفلام حين يكبر. تُفنى هذه الحقيقة المطلقة كذلك في مشاهد خاصة بدكان بقالة، حيث تتناسخ أسماك، تبيعها امرأة متأففة وسيئة الطباع، الى أجساد رجال يعومون داخل برميل، تنتقيهم الواحد تلو الأخر، وتقطع رؤوسهم بسكين ذات نصل عريض، وتبيعهم الى زبائن جائعين ومعدمين. هذه حياة محاصرة بحلقة محكمة من لوعات وجروح أزلية تنزف بلا هوادة، وفساد يعمَّ عالماً سفلياً مليئاً بأرواح مجوفة ومدحورة، تتجلى في سؤال أم فيلشينسكي وكلمته الأخيرة السحرية المغيَّبة عنوة: "كيف حصلت على بهجتك؟"، وإرباك ضميريّ بسبب جاثوم مكتوم الصوت وخال من إيمان ديني، يتجلى بفطنة درامية في مشهد سباحة البطل، وتواريه في رحم مائي رباني جديد، مع تبدّل العجلة الخاصة بالإنقاذ من الغرق الى شارة وفاة، مثل التي تُوضع فوق نعوش الموتى. يموت ماريوش القديم في إنتظار إن يولد أخر، عليه أن يحسم أمره ويغادر مطهره/ جهنمه، كي يتمكن من خلق دينونته الحداثية التي، ربما، ينال فيها بعضاً من مسرَّاته السينمائية.

سينماتك في ـ  04 أكتوبر 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004