كادت هذه التُحفة الوثائقية أن تضيع بين المهرجانات،
بيد أن لفايروس "كورونا" تدبير أخر، عبر إغلاقاته
وإلغاءاته، كي يضع "الرسّامة واللصَّ" للنرويجي
بنجَمين ريّ على خارطة العروض وإهتماماتها، وإن لم تكن
للأسف إلا عبر منصّات "المشاهدة حسب الطلب" ("هولو"
منذ يوم 26 مايو 2020)، ومن دون منافس لأفضل شريط
وثائقي لعام 2020. حكايته مفاجئة وصادمة وغير مألوفة،
والى حد ما سوريالية لا تُصدق. خضع ترتيبها السردي
اللافت الى حسابات تصعيد درامي علائقي بين شخصيتين
فريدتيّ الخصال والمنابت والتجارب والمصائر، بعيداً عن
شروحات تقليدية ومحاورات مباشرة معهما، أو وضع وسائل
إيضاح لتواريخ أو أحداث أو فواجع. ما يحدث أمامنا هو
تَشَكَّل صُحبة غير متكافئة، لكن أصيلة الدوافع
والمغامرة، بين رجل وامرأة. شرارتها، سرقة لوحة فنية
من صالة عرض شهيرة وسط العاصمة أوسلو.
الأول، أسمه كارل ـ برتل نوردلاند، شاب نرويجي جذاب
وقوي البنية ومدمن مخدرات ومحتال وضيع. نعرف لاحقا على
لسانه (مع صور وأشرطة عائلية) إنه تعلم مهنة النجارة،
وخاض مسابقات رياضية، وفاز بجوائز، لكن بَطَرَه
وإستخفافه بالحياة وقيمها، ومخالطة أصدقاء سوء، أغلبهم
قُتل أو أنتحر أو توفى نتيجة إدمانه، وما واجهه من
محنة تفكَّك أسرته، قادته جميعها الى مصير أسود، وحياة
مفعمة بعنف ووَحْشَة ووَحْدَة وجريمة. الثانية، تدعى
باربورا كيسيلكوفا، شابة من جمهورية التشيك، عانت من
قساوات صديقها الألماني الذي كان يعنَّفها يومياً.
تَعرَّفت على مواطن نرويجي، وقررا العودة (الهجرة) معا
الى أوسلو. يعيشان حياة وئام وتوازن "عائلي"، قائم على
إحترام خصوصيات وحيّز وحرية إبداع. كيسيلكوفا رسّامة
موهوبة، مجالدة وصبورة. نقابلها في المشهد الإفتتاحي،
وهي تشرع في إنجاز الخطوط الأولى للوحتها الأثيرة
"أغنية البجعة" (2014) في مرسمها المتواضع، قبل أن
نراها معروضة، مع عمل أخر هو "كلوي وإيما" (2013)، خلف
الواجهة الزجاجية لـ"غاليري نوبل". نتابع صدى إفتتاح
معرضها الفردي الأول، والإستحسان العام لإشتغالاتها
التجسيديّة/ التشريحية المستندة الى إرث جهابذة عصر
النهضة الإيطالية المجيد. لاحقا، يقدم المخرج ريّ
مقاطع مأخوذة من أشرطة كاميرات مراقبة أمنية لرجلين
يقتحمان الصالة وهي مقفلة، ويسرقا في وضح النهار
اللوحتين، وينصرفا بهدوء. تعتقلهما الشرطة، إلا إن
العملين إختفيا.
مع مشهد المحاكمة (يُقدم عبر تخطيطات كيسيلكوفا،
مرفوقة بشريط صوتيّ لمحادثة ثنائية تم تسجيلها بواسطة
هاتف نقال)، يتفجَّر شريط "الرسّامة واللصَّ" بفيوض
سينمائية متراكمة، تحتفي بمفاهيم أخلاقية على شاكلة
البسالة ومغامراتها، التسامح وإنسانياته، العِشْرَة
ووفاءاتها، المُصَافاة وإعترافاتها، الثقة وإشتراطاتها
وبرّها، الولاء وإيماناته، الشفقة ومعجزاتها. هذه
ركائز حكاية عن الإنصاف بطرفيه، الناقص منه والخاص
بكارل ـ برتل، يكتشف مع تفاصيل "علاقة المصادفة"
بالرسّامة، إنه كائن عاش حياة مقصيّة وضائعة المقاصد
والمعاني. أما المعلَّق منه والخاص بكيسيلكوفا،
فيبيَّن حجم سوء الطالع الذي قادها من عنف الى أخر، من
دون أن تكون حافزاً حقيقياً لوقوعه، بمعنى أن تكون
كائناً فاسداً أو لئيماً أو ساقط النيات، لتستحق
تبعاته. هي فنانة شديدة الرقّة والتفهَّم والشجاعة.
مأزقها، إنها في إنتظار تحوَّل لازم وعصيّ لقدرها بشكل
ما، كي يتحقَّق لها وحياتها تآلف بين الإبداع وروحه
فيها، ومثله إعتراف الأخرين (والنظام بشكل عام)
بموهبتها الفريدة. هذا الإنقلاب، تتكفَّل به ـ والى
الأبد ـ سرقة كارل ـ بارتل وصاحبه التي تؤسس الى
مؤانسة بين شخصين، يشيدان خلالها صروح صداقة خالصة
الدوافع واليوميات والإعترافات، رغم تعارض خواتيمهما
وأهوائهما وأطوارهما وشأوهما والآمهما.
لن يصنع صاحب "مَغنوس" (2013) فيلماً إستقصائياً
متعجّلاً حول مطاردة سارق لوحة تشكيليّة، إنما هندس
رؤية حصيفة ومتينة ومثيرة وممتعة في آن، تطلَّب
إنجازها ثلاثة أعوام من المعايشة والتصوير، قارب فيها
مصيري إرادتين متناقضتين في كل شيء، ورغم ذلك، يتوصلان
الى نقطة تجمعهما ضمن مدار حاجة قصوى لإنقاذ نفسيهما
معا، سواء من العثرات(في حالة كيسيلكوفا)، أو الضياع
(في حالة كارل ـ برتل). فما بدا للوهلة الأولى، حديثاً
مباشراً وشخصياً، نسمعه فقط ولا نراه، بين فنانة
تشكيليّة تسعى الى إنقاذ لوحتيها، ولصَّ في قاعة
محكمة، مُصِرّ على إنه لا يتذكر ما حل بهما، يصبح أساس
ألفة طويلة، ورحلة مكاشفات مريرة، تتكرس فيها الشابة
كمنقذ وضمير وسلوى، تقول: " في اللحظة التي التقيت به
في قاعة المحكمة، وقعت ـ نوعاً ما ـ في حبه"!. ترى ما
الكفارة التي سهلت صحبتهما، وغفران الرسّامة لضياع
عمليها الباهرين؟. الجواب: قبول الحرامي، بوشومه
الكثيرة التي تغطي جسده و"سعيه الى جذب إنتباه
الأخرين"، بالجلوس أمامها كموديل للوحات مستقبلية،
ستقود فيلم ريّ الى تقديم واحدة من أكثر مشهديات
"سينما الحقيقة" صدماً وتعاطفاً. ترسم كيسيلكوفا رجلها
حاملاَ كأس نبيذ أحمر. يدسّ أصابعه داخلها، وكأنه
يلتقط شيئاً ما سقط في القعر. على وجهه، ومن خلف
نظارتيه الطبيتين، إمارات ظنون وشَدَه. حين تفاجئه
بتفاصيلها، ينهار كارل ـ برتل، ويجهش ببكاء مر، لقد
رأى نفسه وعارها. هذه الدموع سيسكبها لاحقا حين يستسلم
ثانية الى إدمان الكوكايين، قبل أن يتعرض الى حادث
سيارة، كاد أن يقتله، ويصيبه بكسور شديدة.
في مقاطع المستشفى، التي تتداخل مع واحدة من أكثر
أفكار الفيلم حيويَّة، والمتعلقة بإعترافات متبادلة
لكيسيلكوفا/ كارل ـ برتل كُلّ على حدة، في إستعارة
جلّية من سينما "الموجة الجديدة" الفرنسية، وتقنيتها
الخاصة بإستخدام التعليق الخارجي حسب إعتراف المخرج
ريّ. يتجسد بوحهما المقنَّن الذي يطول كيانهما
وظروفهما وفهمهما للحياة ومستقبلهما، كـ"محاكمة" من
نوع أخر بشأن قوّة إرادة إنسان يصحو من كبوة طويلة،
ليصارع بصلابة من أجل تحقيق خروج بطوليّ من ظلمة نفسية
وإحباط وتدمير ممنهج، نحو حياة طبيعية وذات مغزى
وفائدة جماعية، " سأبحث عن امرأة كي أكوَّن عائلة"
يعترف الشاب الذي وشم على صدره مقولة "الوشاة ذرّيّة
بائدة" لأبيه. وهذا ما يحدث.
يغيَّب شريط "الرسّامة واللصَّ" (102 د)، الذي من
الممكن أيضا نعته بـ "الدوكيودراما"، بطلته الى حين
وقصداُ، ويزيحها من واجهة تدقَّقات الحياة الجديدة
للمتعافي من مصيبته وهو في سجنه، متيحاً لمشاهده فرصة
تطهَّر مُعمَّقة حول الدوافع الشخصية للبشر، وعنادهم
ضد الخسران والهزيمة، ونضالهم الأبدي للفوز بالبديهية
الذاتية وتصحيحاتها. تتغيّرحياة اللصّ السابق تماما
(كان يفضل البقاء في المعتقل على الخروج الى "عالم
مخيف"، كما يقول)، وتفلح الإيجابية في تكريس مسارات
قدره "النظيف": صديقة شابة ذات حَنْيَة واضحة، عودة
الى مزرعة أهله، إنخراط في العمل والإنتاج. على الطرف
الأخر من الصدفة ومراوغاتها، تنجرّ كيسيلكوفا نحو
"لعبة بوليسية" قصيرة النفس، بحثاً عن لوحتيها بعد
نجاحها في الوصول الى مكان اللصّ الأخر بعد إطلاق
سراحه، وبمساعدة من الشرطة ووثائق محققيها. يحذرها
الشاب ميكيل، مع إخبارها إنه سلم لوحة "أغنية البجعة"
الى زعيم مافيا محلية: "لا تذهبي الى هناك لوحدك. مَنْ
ستلتقيه رجل مخبول وثعباني. ربما ستُقتلين". يقول
المسرحي الأغريقي سوفوكليس: " لماذا يشعر الانسان
بالخوف ما دامت الصدفة، ولا شئ غيرها، هي التي تقود
خطاه؟". عليه، لن تخشى الرسّامة محاذير السلّاب، وتصل
الى قبو عمارة سكنية في حي وضيع، لتلتقي ثانية مع
عملها "المخطوف" الذي يصور جثة طائر بين سيقان عشب
قاتم. خلال الدقائق الخمس الأخيرة من شريط ريّ، يتحتم
على كارل ـ برتل إن يعيد "الكانفاس" الى بروازه،
ممتحناً الخدوش التي شوهت عمل دقيق التفاصيل عن الموت
والتفسخ، فما تقرره الفنانة بشأن عرضه جنباً الى ما
أنجزته عنه من رسوم، يصيبه بحماسة مسامحتها. يستكمل
الشاب إستغفاره نهائياً، حين يشاهد اللوحة الأخيرة
التي تجمع بينه ورسّامته، وهما في وضع تشكيليّ يشبه
الولادة، راقدان فوق إريكة أثرية، تتناظر وشومه مع ذلك
المرسوم (دوائر متعددة) على الجانب الخلفي لرقبة
كيسيلكوفا. يعلن المخرج بنجَمين ريّ (1989) وحدتهما
القدرية بلقطة طويلة للعمل الجديد الذي ثُبَّت الى
جانب صورة فوتوغرافية للأخر المفقود، والجامع بين
الطفلتين "كلوي وإيما"، متذكّرين سؤال الرسّامة للصّها
في بداية الشريط: "لماذا أخترت هاتين اللوحتين بالذات
وسرقتهما؟". يجيب ببساطة شديدة ومن دون تردَّد: "
لإنهما رائعتان!". هذه الروعة أيضا، تُحسب لصالح نصّ
"الرسّامة واللصّ" بمجمل دقائقه الـ102، والتي جعلت
منه جوهرة سينمائية عن الغفران وأصحابه وعطاياه. |