ما الحرب سوى خِزْي بشريّ. تُسفك فيها دماء زكيَّة من
أجل أمجاد فارغة. الله طرف دائم في المعادلة. يرى
المؤمنون إن الحروب واجب، منهم مَنْ يزايَد ويعتبرها
قدراً ملزماً، و"أن مستقبلها مضمون". الحاسم إن
العنصرية، وليس الإيمان، لاعب حاسم في إطلاق الرصاصة
الأولى. ما الضير في هدم مدن، فالإرادات ستُعيد بناءها
عاجلاً أم آجلاً، لكن قطعاً إنها (الإرادات) ستخفق في
صون كرامة أممها. تصبح الهزيمة وسيلة عار، فيما النصر
هو تعميد للغلو بشرب أنخاب دّم. من هذا المنطق
التأويلي، يأتي جديد البريطاني سام مَندِز "1917"، في
وقت حرج ومتضارب القيم. من جهة، يلعن الحرب في حقبة
حالية تُشرَّعنها وتستهوي إشعالها، وتجد لها أعذاراً
وإتهامات ومسوغات. من جهة أخرى، إن بريطانيا مَندِز
سائرة اليوم (31 يناير 2020)، وبإجماع مريب، نحو خروج
نهائي من أوروبا السياسية، ووحدتها المهددة بلا إنصاف
عرقي.الى ذلك، جاهد الشريط في إنتصاره الى فكرة "نبل
عسكري" قاد، سواء في إمجاده أو هزائمه، أهل النفوذ
آنذاك الى التفكير ملياً بـ"قتل" الحروب في القارة
الغنية وإلغائها نهائياً، والإحتشاد وراء فكرة تأسيس
إتحاد (دولة) متماسك، بيد إن قيامه تعرقل حتى بداية
خمسينات القرن العشرين، نظراً لطموحات الفوهرر النازي
وإكتساحاته وإحتلالاته.
"بريكست 2020"، وجه أيديولوجي ملعون طال كلّ ثانية في
فيلم مَندِز، وحوَّله الى عبء سينمائي، إبتغى إسقاط
الكأس الدمويّ من يد أوروبا العجوزة، لكنه فشل في
إقناعنا إن ما حارب من أجله الجميع، وقُتل عشرات
الألاف من شبيبة بريطانيين للدفاع عنه، كان مجداً
وطنياً ولهفة جماعية لإنتصار قديم، إنتظر 103 أعوام
لاحقة، كي تُنهيه (وتُلغيه) ورقة إنتخابية مغرقة
بعنصريتها. ذلك إن أوروبا لن تُرسِم حدودها على خرائط
مملكة بلاط سانت جيمس، أو تمسّ جغرافيتها. يعلن
البريطانيون، في آخر يوم جمعة من شهر يناير 2020،
المغادرة الموكَّدة لمملكتهم من الإتحاد الأوروبي، إلا
إنهم سيدأبون على الإحتفال ـ الى أبد الآبدين ـ
بالذكرى السنوية لمعارك الحرب العالمية الأولى،
بإعتبارها قَسَماً عائلياً لمواطنة متصالحة ومتراصّة
خلف التاج، وعنواناً إتهامياً يجعل من الألماني
شيطاناً مزمناً. من هنا، فإن نصّ مَندِز، عبر "رحلة"
بطليه الشابين، يترسَّم كذبيحة سياسية تسعى بتأن درامي
وعبر اختيار مدروس ومقنَّن لمشهديات أخلاقية، الى غسل
دنس خروج مهين، ينكر مآثر مَنْ نُحِروا في نصر باشنديل
(بلجيكا)، ويعيد الى الضمير البريطاني حقيقة موجعة،
مفادها إن تلك الحرب إنما أفرغت البلاد من شبابها،
الذين تبقت أسماؤهم منقوشة الى اليوم فوق لوحات منتشرة
في كلّ مكان، وألقى غيابهم حسب مَندِز، "ظلالاً ثقافية
هائلة على الأمة" (مجلة "تايم" الأميركية، 3 ديسمبر
2019).
بعيداً عن تقنية المشهد الواحد الممتد وإغواءاته
وألاعيبه، التي أجاد ترتيب تتابعاتها ومزاجها الصوري
الجهبذ روجر دِكنز، له "بليد رَنَر2049" (2017)،
و"سيكاريو" (2015)، و"سكايفول" (2012) من بين أشرطة
أخرى، هذا شريط مفعم بلؤم سياسي في ما يخصّ تنديده
بالحرب. يبدأ ببيت شعري مأخوذ من قصيدة "الفائزون"
(1888) للشاعر روديارد كيبلينغ (1865-1936) يفسر الولع
بالوغًى. يرد الإقتباس على لسان الفريق أول إرينمور
(كولن فيرل): "هبوطاً الى جهنم أو صعوداً الى الفردوس.
سيصل سريعاً مَنْ يرتحل وحيداً". يرميه في وجهي
العريفين الشابين بليك وسكوفيلد، بعد إن سلمهما قرار
تكليف إيصال رسالة إنذار الى القيادة المتقدمة للجيش
الإمبراطوري، ووجوب إلغاء قرار هجومها على القوات
الألمانية، كونها إستحكمت فخاً لتصفية 1600 جندي
بريطاني بسهولة، منهم الشقيق الأكبر للمكلَّف الأول
الذي يُكرمه الشريط بعرفان متأخر في المشهد الختامي:
"لقد أنقذ حياتي"، وهو إعتراف زميله الذي نجح في تفادي
وقوع مجزرة، إلا إنه فشل في إسعاف جرح رفيقه، إثر طعنة
غادرة من طيار ألماني.
أيضا، يبدأ مَندِز (1965) عمله، الذي كتبه مشاركة مع
كريستي ويلسون كيرنز عن حكايات سردها له جده، وهو إبن
مهاجر ترينيدادي كان مراسلاً للبريطانيين على الجبهة
الغربية، بشجرة وينهيه بها. في كلا الحالتين يسند
سكوفيلد رأسه عليها، كونها علامة حياة، عليها أن
تتحايل من أجل بقاء نسوغها نابضة. على منوالها، يرينا
مخرج "أميركن بيوتي" (1999، والعنوان إسم زهرة شهيرة،
لا تتواجد سوى في الولايات المتحدة، ولا يمكن ترجمتها
بـ"جمال أميركي"، كما يخطيء كثيرون على إيرادها) نسوغ
الحرب، وهم مرميون على أسرة مناياهم في كل مكان، ونسمع
حشرجاتهم من حوله. أما أخر وصيّة يضعها مَندِز على
شاشته، فتقول "عد إلينا"، مكتوبة على ظهر صورة عائلية،
يستعرضها العريف قبل أن يغلق عينيه. كُلّ هذه اللوعات،
مسافتها 3 أميال (5 كيلومترات تقريباً)، من موقع
الجنرال وحتى عرين العقيد ماكنزي (بنديكت كمبرباتش)،
الذي يعلمنا درساً بإن "الأمل شيء خطير". زمنها الفعلي
110 دقائق (من 118 دقيقة طول الفيلم)، هي رحلة الأثنين
بين الخنادق والدشم والسواتر، مروراً بخرائب بلدات
وحفر عظيمة أحدثتها إنفجارات هائلة، وإنتهاء بجثث بشر
وحيوانات ومفخخات. إنها جبهة الحرب العالمية الأولى
بعد إنسحاب الألمان الى خط هيندنبورغ. اليوم المشهود
هو السادس من أبريل 1917.
فواصل الحتوف وأقدارها مرتبطة بسرعة وصول العريفين الى
مركز القرار. ما يفعله الثنائي مَندِز/ دِكنز بفطنة
رؤيوية لفظاعات الحرب، مُرَكَّب برُمَّته على خلفية
تصويرية متحرّكة وإنقلابية، تضع الشابين وسط جغرافية
وحشيّة وعدائيّة. إنهما كائنان لن يقابلا رأفة أو
تكرار فعل أو حظوظ عابرة أو حيوات تخاتل ميتاتها.
رسولان مكلفان بإنقاذ أرواح أخرين إلا روحيهما. شابان
عليهما تقدير حقّ الموت كونه "من عند الربّ" (سفر يشوع
14:11). عليهما الإيمان بإن الحياة ماضية بوجودهما أم
لا، ذلك إن تّجلَّياتها منذورة ـ شرعاً ـ بالغفران،
الذي يمارس الرقيب لِزلي (الممثل المسرحي أندرو سكوت)
طقوسه عليهما، إيذاناً بنزولهما الى الجحيم، ضمن تفصيل
تهريجي بريطاني شهير بلذاعاته: "بهذا المَشَح المقدس،
ليعفَّ الربّ عن أخطائكما، ويغفر لكما خطاياكما"،
معمداً أياهما برشات من ويسكي!. منذ الآن، يصبح عمل
مَندِز متوالية سينمائية ذات فصول، محكومة الى حد بعيد
بالمواقع. كُلّ واحد منها يحمل مغزاه العرفاني
للشخصيتين، ويوسمهما بخطاياه، حتى مقتل بليك (دَن
تشارلز تشبمان). حين يصرخ المراسل العسكري بأسمه،
نلتقي بشاب حماسيّ، على قدر من الخفَّة. يختار رفيق
رحلته سكوفيلد (جورج ماكّاي) المميَّز بمكره. شخصان
يكملان بعضهما. يعتبر الأول مهمته وعداً عائلياً
لإنقاذ شقيقه مهما كلف الأمر، ولكي ينجح بمهمته، هو
بحاجة الى وَصِيّ، بينما يعدَّه الثاني أخاً (مفترضاً)
في السلاح، يلزمه الواجب العسكري وأعراف الصداقة أن
يقدم حماية، ويسهم في تسهيل مهمة. تتبدَّى ملامح
"الجنتلمان" الإنكليزي على سكوفيلد وسلوكه، حين يواجه
الإثنان قرار الخروج من الخندق الطويل وحصانته، ليبادر
بخطوة أولى في مواجهة الموت، مستلفاً مثلاً قديماً
يقول: "كبار القوم قبل صغارهم" ("العمر قبل الجمال" في
النصّ الأصلي). يرافق هذا الذَوْد الشخصي ويليم، الأسم
الأول لسكوفيلد، حتى مشهد لقاء الأخ الأكبر جوزف بليك
(ريتشارد مادن). أما مفارقة هذا الذود فتقع في المقطع
الأول من الشريط (الدقيقة 44) حين يُقتل بليك، وينتقل
التكليف الى الوصي!.
خطط الثنائي مَندِز/ دِكنز حركة الكاميرا خلال المقاطع
الإفتتاحية الخاصة بـ"الخنادق الإنكليزية"، كمصاحبة
بصريّة وذهنيَّة توحي بإستمرارية وهميَّة، لا تخضع
لتوقعات المشاهد. شعّت هذه التقنية سابقاً ولمدة 8
دقائق متواصلة على شاشة فيلم "سبيكتر" (2015)، وهو
الإشتغال الثاني الذي نفذه مَندِز من السلسلة الطويلة
لمغامرات العميل السريّ جيمس بوند. بيد إن الرهان هنا
إنصب على إنجاز تتابع صُّوريّ إفعوانيّ أكثر طولاً،
وأعقد مسارات، وأغنى إبتكاراً. لا يرتكن محور الرؤية
المعقَّد فيه الى زاويا محدَّدة ومقرَّرة مسبقاً. فهذا
المحور لن يتخوف من عوائق معينة، ولن يتوانى من الزحف
أو الطيران، بل ويغامر في إغلاق دورة 360 درجة كاملة،
كما في لقطة إستماع الجنود الشباب الى أغنية عاطفية
شجيّة قبل ختام الشريط. تارة، يتم تصوير العريفين من
الخلف، ثم تدور الكاميرا المحمولة على جهاز
الـ"ستديكام" الحيويّ، لتصبح بغتة في مواجهتهما. بعدها
تسير الى جنبهما، قبل أن تلتقط وجهات نظرهما، وهما
يرصدان محيطاً جهنمياً وكئيباً ومفعماً بموت رخيص
وويلات طقوسية. فالهدف هو إنجاز "قصة بصرية ذات
مستويات متعددة" حسب صاحب "الطريق الى الهلاك" (2002).
الكاميرا، هي سلاحنا ـ وليس المونتاج ـ للتماهي مع
مشهد فريد طويل، لكنه خال من ملل أو شروحات أو تعقيبات
منظوريّة. انها حالة تغريبية ـ بريشتية بإمتياز، تجبر
مشاهدها على الوقوف خارج فيلم بلا دراما حقيقية، ولا
تملك إنقلاباتها التقليدية. تعلن خطابها الكلي ضد
الحرب، عبر الجري مع (وخلف وفوق) كائنين يواجهان
أقداراً سعيرية، فـ"ما سعيت اليه هو سجيّة حلم، لكن
بكينونة واقعية" يقول مَندِز. عناوين الصِفَاح الشخصية
لسكوفيلد فيها متسترة، لكنها تكشف عن أصالاتها تباعاً،
كما في مشهد الموقع الألماني المهجور، حيث تنفجر قنبلة
مفخَّخة، وتطمره، قبل أن ينقذه رفيقه. عندها، يُسقِط
الشاب معارضته في وجوب "الإنتظار" حتى حلول المساء،
فطريق جلجلتهما في مبتدأه، ومناياه في إنتظارهما.
أيضا، "تغسل" هذه القنبلة ضمير ويليم، فيتنازل لاحقا
عن طعام (ألماني) الى شابة فرنسية محاصرة، تبنّت رضيعة
فقدت أهلها، و"يُؤمن" غذاءها بحليب بقرة، وجده رفقة
بليك صدفة عند حظيرة مهجورة، تشهد لاحقا مقتل الأخير
بمُدْيَة نازي.
تتألق المُصَاحَبة البصريّة في مقطع البلدة البلجيكية
المدمّرة، التي إستعاد فيها مَندِز ما حققه في شريطه
الإشكاليّ حول حرب الخليج "جارهيد" (2005)، بتصويره
أرض معركة تحت قنابل ضوئية. هذه المرة، يُعقَّد مدير
التصوير روجر دِكنز كوريغرافيا كاميرته بحركيّة
متداخلة وتشويقيّة وناريّة الألوان. يَسقط فيها كم
ضوئي ناصع البياض على خرائب بنايات، تحولها مسارات
إنحدار القنابل الضوئية، الى أشباح موت، تتعاظم
هاماتها، وتطارد سكوفيلد بضراوة، وتمنع بالمقابل رصاص
الجنود النازيين من أصابته رغم قرب المسافات، ذلك إن
الشاب موعود بالغفران، لإستكمال مهمته في أرض محروقة.
تقوده ملاحقة العدو الى المرور بـ"طهارة طبيعيَّة"،
يتكفَّل بها نهر جارف، تُنظف أمواجه الهادرة ما علق
به، وتعده نزيهاً كي "يعبر" المشهد الهائل التفاصيل
للقصف الألماني المجنون، راكضاً كما قرينه فرانك دون
(مِل غيبسن) في شريط الأسترالي بيتر واير "غاليبولي"
(1981)، ليُسلم أمر التراجع عن الهجوم ـ الفخ الى قائد
شاب، يوبَّخ العريف الملتاع بقناعة متعصّب، يرى إن
نهاية أيّ حرب هو "القتال حتى أخر رجل". كلام يصبح
خزياً على شاشة مَندِز، ذلك إن مدفوني "خط هيندنبورغ"
ومعاركه الضارية من البريطانيين، تم بيعهم في صناديق
الـ"بريكست"، عبر صفقة سياسيين أنذال.
يمكن إحتساب "1917" كفيلم رياضي دقيق القياسات. إنه
سيرورة زمنية، يكون تصويب المسلك والوجهة فيها ـ على
الدوام ـ نحو نقطة ثابتة: "الأمام". إنه قبلة الحدث
الكلي، ومركز عاطفته وضميره وإنفعالاتهما. كُلّ مقطع
فيه (الحدث)، نَشَد الدقة في الزمن والمسافات والإحساس
بهما، ما يفسر تركيبته المسرحية المصوّرة بإناقة
وديناميكية. بيد إن ما أفسدها، وجود إفتراءات، طالت
تحديداً شخصيات عابرة، لم تكن سوى واجهات مرمزة لحالات
درامية محسوبة التجسيد والتعابير وردود الفعل، من دون
روح حقيقية (جنود عنصريون أو غير مبالين أو عصابيّن،
فيما الألماني يبقى كائناً مسكوناً بالقتل والنذالات).
الى ذلك، هناك مشاهد غير منصفة إخراجياً، على شاكلة
النقل المفتعل والملّتبس لجثة بليك في محيط الحظيرة،
فيما يتبول مجندون عند حائط قريب!، أو ذلك اللقاء
المفبرك بين سكوفيلد والكابتن سميث (مارك سترونغ)، أو
تلك الظرافة الضعيفة والقصيرة بين جنود شباب داخل
شاحنة عسكرية، بل وحتى لقاء سكوفيلد مع الشقيق بليك،
المكتوب بإسلوب جعله قدراً سينمائياً بارداً
وتوصيفياً، كان يجب إنهاؤه بالإشارة الى طيبة الشاب
القتيل، ووجوب إعلام والدته البعيدة...إنه "لم يكن
وحيداً"، في فظاعات حرب ضروس هي عار الجميع. |