يتنحى المدير الرابع في تاريخ مهرجان برلين السينمائي
ديتر كوسليك من منصبه بعد نشاط دام 18 عاماً(منذ أيار/
مايو 2000) مع إنتهاء عقده رسمياً، مخلفاً ورائه مجداً
إدارياً، وسمعة راكزة، وعجلة علاقات دولية ثرية، جعلته
واحداً من ثلاثة قياصرة، يتبؤون إدارات مهرجانات
أوروبية لا تُجارى، جنباً الى تيري فريمو(كانّ)
وألبرتو باربيرا(فينيسيا). رجل يعرفه الجميع عبر
تسريحة شعره النافر وضحكته المجلجلة وظرافاته
وديناميكيته اللافتة، وإصراره على إستقبال ضيوفه،
مرتدياً قبعته السوداء وشاله الأحمر، عند حافة ساحة
مارلين ديتريش حيث قصر السينما، متجاهلاً صقيعية ليل
مدينته التي تشظت خلال حرب ضروس، قبل ان تجمع أوصالها،
وتتوّحد في هبّة شعبية، أنهت حقبة من صراع إيديولوجي
محموم، جعل منها عاصمة جدار وستار حديدي ملعونين،
إنهارا خلال ليلة عاصفة، قبل ان تصبح الـ"برليناله"
لاحقا رمز تآخيها، والنشاط الأكثر جماعية لسكانها
وضيوفها. لا غرو في القول انها من الفرائد بين
نظيراتها في رؤية طوابير روادها أمام شبابيك بيع تذاكر
العروض في ساعات الصباح الباكر الكئيبة، منتظرين بصبر
لا مثيل له فرص الحصول على تذاكر، تتيح لهم مشاهدة
خيارات سينمائية عالمية، متنوعة المشارب والصيغ
والمواهب، ليتساجلوا حول صنعتها، ويتفاعلوا مع
حكاياتها وأبطالها وعوالمها وأيديولوجياتها.
لكوسليك(ولد عام 1948) أفضال لا تحصى على مهرجانه
وفريقه وإدارته، فهو الذي شدّ من عود ترسيخه كفعالية
ثقافية خالصة النزعة، ضمن الأجندات المتكاثرة في مدينة
كوزموبوليتانية، فريدة بـ"شهواتها" الطليعية. تكلّلت
جهوده مع نقل المهرجان ونشاطاته الى موقعه الحالي في
حي بوتسدامر الحداثي والشديد الأناقة والأمركة!. كما
أطلق العديد من الخانات والمبادرات منها، قسم "مواهب
البرلينالة"(منذ العام 2003)، و"سوق الإنتاج المشترك"،
و"صندوق السينما العالمية"( منذ العام 2004، وكان من
بين دفعة الأشرطة في دورته الأولى، نصّ الفلسطيني هاني
أبو أسعد "الجنة الآن" الذي نال لاحقا جائزة "الغولدن
غلوب"الأميركية)، إضافة إلى قسمي "سينما الطبخ"(منذ
العام 2006) و"سينما السكان الأصليين"(منذ العام
2013). محاولات كوسليك في حثّ فريقه على إضفاء روح
تنافسية مع القطبين الكبيرين الأخرين، أوقعته في ورط
فخامات إستعراضية ونجومية زائدة، وإن حافظت لياليها
على طابع أوروبي محض، تعاظمت قواها في السنوات الخمس
الأخيرة، ما فجر جدالاً عارماً في العام 2017 بين
النخبة السينمائية المحلية حول مستقبل المهرجان
وغرضيته ومهامه. تصاعدت الأمور لاحقا مع إقدام 79 من
كبار صانعي الأفلام الألمان، من بينهم فولكر شولندروف
وفاتح أكين ومارين أدا وكريستين بيتزولد وغيرهم، الى
نشر رسالة صاعقة في صحيفة "شبيجل أونلاين"، دعوا فيها
الى بداية جديدة بعد "خروج" كوسليك، مشددين على ان
تجري عملية شفافة في إختيار خليفته، مقترحين "تعيين
لجنة إختيار دولية، تتكون من أعداد متساوية من النساء
والرجال ، لضمان التوجه الأساسي للمهرجان". ورغم رفض
هذه المجموعة التأويلات الإعلامية التي صورت الدعوة
على إنها هجوم مباشر على، وتصفية حسابات مع، الرجل
النافذ وأسلوبه الإداري وإختياراته والبعض من وجوه
فريقه، إلا أن تأثيرها كان حاسماً على صناع القرار في
حكومة المستشارة أنغلا ميركل، حيث أعلنت مفوضة الحكومة
الفيديرالية للثقافة والإعلام الوزيرة مونيكا غروترز
لاحقا عن إختيار مديرين، تماشياً مع رغبة المنتفضين،
لحقبة ما بعد كوسليك، وهما الإيطالي كارلو تشاتريان
المدير السابق لمهرجان لوكارنو السينمائي والذي عُين
مديراً فنياً، فيما تسلمت زميلته الألمانية ماريت
ريسينبيك إدارته التنفيذية، لتكون بذلك أول امرأة
تتبوأ مركزاً قيادياً في عمر الـ"برليناله". لا أحد
يمكنه التنبؤ بما سيحدث، فالأثنان صاحبا كوسليك في كل
خطوة إتخذها بنفسه في إستكماله تفاصيل دورة العام
2018، وسيكونان الى جانبه في هذه الدورة (7 ـ 17 شباط/
فبراير 2019)، كخطوة لضمان الإستمرارية، والحفاظ على
المعادلات التي أوجدها كوسليك خلال تكليفه المديد.
للرجل فضل كبير على السينما العربية وحضورها خلال
الدورات الأخيرة. ففي العام 2012، جمع كوسليك أكبر حشد
سينمائي عربي في قلب أوروبا، من مخرجين وروائيين ونقاد
وباحثين وأعلاميين. كما خصص فقرات عروض وندوات
وملتقيات وطاولات مستديرة، ساجلت في إحوال السينما،
والموارات السياسية التي اجتاحت العالم العربي أنذاك
تحت مسمى الربيع العربي. في العام 2016، ضمّ كوسليك
للمرة الثانية 20 فيلماً عربياً. إنتهت دورته بفوز
الشريط التونسي "نحبك هادي" لمحمد بن عطية بجائزة أفضل
عمل أول، ونال بطله الشاب الموهوب مجد مستورة دباً
فضياً لأفضل ممثل. وفي عهد كوسليك، وقبل سنوات أربع،
تم الإعلان عن إطلاق نشاطات "مركز السينما العربية"
على هامش دورة العام 2015، وهو منصّة دولية لترويج
السينما العربية. تعمل على توفير نافذة إحترافية
لصناعها من أجل التواصل مع نظرائهم في أنحاء العالم،
وتدعم تنظيم العديد من الفعاليات والنشاطات والعروض،
كما تتيح تشكيل شبكات أعمال مع ممثلي الشركات
والمؤسسات العاملة في مجالات الإنتاج المشترك،
والتوزيع الخارجي، وتنظيم مهرجانات خاصة للترويج
للفيلم العربي وموهوبيه.
ولعل من أكثر مساهمات كوسليك عربياً، إقدامه مع فريقه
وفي لفتة مهنية معتبرة، على تكريم الناقد والباحث
والمؤرخ السينمائي المصري الراحل سمير فريد بجائزة
"كاميرا البرليناله"، خلال فعاليات الدورة الـ67(9 ـ19
شباط/ فبراير 2017)، تقديراً لإسهاماته ومكانته
الثقافية والمرجعية، وذلك قبيل رحيله بأشهر ذلك العام.
وقال كوسليك في بيان نعيه: "مع رحيل سمير فريد فقدنا
صوتاً أساسياً من العالم العربي.كان إلتزامه وشغفه
بالسينما منقطعا النظير. مع وفاته، فقدت صديقاً
قديماً".
تنتهي حقبة كوسليك الذهبية في أيار(مايو) المقبل.
الرجل الذي إنتصر للفيلم العربي، فهل نتوقع تكريماً
عربياً يردّ له العرفان؟ |