كل فيلم من الأشرطة التسع التي إحتشدت بها مسابقة
الدورة الثامنة (5 ـ 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2018)
لمهرجان مالمو للسينما العربية، تشكل عالماً خاصاً،
وتبصراً إبداعياً لإقدار إنسانية هشة، تحاصرها عداوات
جماعية ومرارات شخصية وخسارات عائلية وسطوات قوى
قاهرة. ان أبطالها هم وجوه كالحة لعالم عربي يعيش
إنتكاساته السياسية ورداته العقائدية. عالم تقوده حروب
عبثية، وتغييرات جذرية في نسيجه الإجتماعي، وإنتهاكات
واسعة النطاق لمفهوم العيش التكافلي، وتصاعد مرير
للطائفية والفاشية الدينية. عالم لا يبحث عن حلول
لمشاكل مزمنة من تخلف معرفي، أو تردي تعليم إبنائه
وأحفاده، أو بطالات تطال قطاعات شبابه أو إنهيارات
قاصمة لإقتصاداته المريضة التي تدفع ما تبقى من خيرة
عقوله الى هجرات باطلة، كما شعت في كوميديا المصري
خالد دياب "طلق صناعي"(90 د)، الإختيار الرسمي لليلة
الإفتتاح، حيث تصبح محنة زوجين في الحصول على تأشيرة
سفر من السفارة الأميركية في القاهرة، عنواناً مسيساً
وعريضاً لخيبة ذاتية تقود بطله الى قاع إتهامي، يحوله
من إنسان هامشي يسعى الى تحسين شروط حياته بإي ثمن،
حتى لو تطلب الأمر منه إرغام زوجته على ولادة طفلهما
في مرحاض السفارة، لضمان تجنس الوليد، ووالديه لاحقا،
الى إرهابي بـ"الواسطة"، يعتصم داخل البناية، ومعه عدد
من محتجزيه كي يصحح دوافعه، قبل ان يتحول الى ضمير
جماعي يدفع بحشود شعبية للإنتصار له ولبطولة حاولت
تعرية سلطة كاريكاتورية وأنظمة قمعية وبربريات كونية.
هذه الأخيرة، تبقى شاخصة بقوة في فيلم التونسية سارة
عبيدي "بنزين"(90 د) وبطليها اللذين يجهدان في الحصول
على خيط يقودهما الى معرفة مصير إبنهما الشاب المتخرج
حديثا، والذي إختفى فجأة. نصّ عبيدي يضمر قسوة هائلة
خلف مشهدية جغرافية نائية وفارغة من العواطف والقيم.
رجل وزوجته يعيشان في ريف تونسي شحيح الموارد، يدفع
بالأول الى مزاولة مهنة غير قانونية، تتمثل ببيع بنزين
مهرّب من ليبيا لزبائن عابرين، فيما تبقى الأم أسيرة
ظنونها وخساراتها بمستقبل وليدها وحياته التي ذهبت
هباء بين أمواج البحر المتوسط، وبربرية أوروبية طماعة،
تسرق خيراتنا ومثلها أرواح شبابنا، نرى تلك البربرية
أيضا في شريط التركية أنداش هازيندار أوغلو "مسافر حلب
إسطنبول"(88 د) الموغل في سوداوية رحلة عذاب سيزيفية،
تتشارك فيها امرأة "تناضل" من أجل الوصول الى العمق
الأوروبي عبر تركيا لإنهاء بلوتها، مع صبية في العاشرة
من العمر أرغمتها الحرب في بلدها سوريا على الهرب من
دون ان تفقد أملها في العودة الى ديارها وأهلها.
تتفجر البربرية، مرة اخرى، في نصّ العراقي محمد
الدراجي "الرحلة"(82 د) مع الوعي الجديد الذي يقود
بطلته الشابة الى تغيير قرارها في تفجير حزامها الناسف
وسط ركاب محطة القطارات المركزية ببغداد. تصبح سارة
(إداء لافت من زهرة غندور) إنموذجاً لتبدل صادم،
يحولها من إرهابية مُقادة بواسطة قرار إرادات وحشية لن
نراها أو نقابلها، الى ضمير تساؤلي حول القدر ومصائره،
ومعانى الإيمان وإنسانية الفرد الهش. ان وقوع حقيبة
تحوي على رضيع حديث الولادة بين يديها، وهي تستخدم
الشاب سلام درعاً بشرياً للتغطية على إفلاتها من
القوات الأمنية العراقية والأميركية، تُشكل وسيطاً
درامياً يفتح كوة صغيرة من الشك في كينونتها المغلقة،
والقائمة على قناعتها بتفجير نفسها، وقتل أكبر عدد من
الناس لـ"تنقيتهم" من خطاياهم، وتطهير حيزهم من "دنس
الاحتلال". ان صرخة سارة المريرة التي توجهها الى
السماء: "أهذا وعدك لي؟ أهذا العرس الذي وعدتني به؟"
إعلان لموت يقين أعمى، وإعلاء لحياة ثمينة لا تعوض.
تتجلى هذه الحياة النفيسة في يوميات عائلية، تتنازعها
هزائم ذاتية لإفراد يعانون من عزائم رخوة، ففي جديد
الفلسطينية آن ماري جاسر "واجب"(96 د)، يتحول تقليد
تسليم دعوات حضور حفلة عرس، يقوم به أب وابنه العائد
مؤقتا من غربته، الى مسرح صغير تدور ضمن جغرافيته
المتغيرة، معركة بين جيلين وعقليتين ونبرتين سياسيتين.
يمثل الأب (محمد بكري) روح التقادم والمحسوبية
العشائرية والتزمت، فيما يعكس إبنه شادي(صالح بكري)
نفس التبرم والخيبة المبطنة من عالم جامد ومقهور. وهي
الحالة ذاتها التي تقاربها الجزائرية صوفيا جامه في
باكورتها "السعداء"(102 د)، حين يتحول إحتفال الزوجين
سمير وآمال بعيد زواجهما العشرين، وبعد بضع سنوات على
إنتهاء الحرب الأهلية، الى إمتحان محتدم بالعواطف
والتنابز حول "جزائر" كما يعرفونها. تستحضر الزوجة
أحلامها المُبدّدة في بلدها، فيما يحاول زوجها التأقلم
والتعايش مع واقع كئيب وصدامي. فيما نشهد الجيلان
المفرّغ من قيمه الأخلاقية والإعتبارية لإبنهما الشاب
فهيم، وهو برفقة صديقيه رضا و فريال، في شوارع وحومات
مدينة إنغلقت على ذاتها. هذا اليأس، يعود بضغط درامي
أوسع، وببصيرة سينمائية أكثر تورية في الفيلم الروائي
الرابع للمغربي فوزي بن سعيدي "وليلي"(106 د)، الذي
يحيل حكاية الحب بين الشابين مليكة وعبد القادر،
الحالمان بمغادرة منزل العائلة، وبدء حياتهما الخاصة
بإستقلالية كاملة، الى هباء إنساني، يأكل أرواحهما،
ويقتل تاريخهما بشكل بطيء، لكن بغل فاجر ورهبة ماحقة.
تصبح مدينة مكناس المغربية أقرب الى جحيم طبقي حيث
النفوس المعذبة تفشل في وقف تشظيها، وتجعلها عاجزة عن
الإفلات من أقدار تقودها نحو اللاخلاص، الذي يصبح
مركزاً درامياً في فيلم الفلسطيني رشيد مشهراوي "كتابة
على الثلج"(75 د)، والمحاصِر لشخصياته الخمس، في حيز
جحيمي لشقة صغيرة، تشبه سجناً، خلال عدوان إسرائيلي
على قطاع غزة. وكلما زاد ضغط العنف في الخارج، تتعمق
الإنقسامات السياسية والإجتماعية فيما بينهم. وتعلو
نبرة تعصبهم الديني وإلغاء الأخر. يحول مشهراوي هذه
العناوين الى مانفيستو أخلاقي مسيس، يرى في شقاقهم
المتعاظم أساساً للا تضامنهم، وضعِف مناهضتهم لإحتلال
قاهر وغاشم.
وعلى المنوال ذاته، يرصد اللبناني لوسيان بورجيلي في
باكورته "غداء العيد"(91 د) تشظيات جماعية أخرى، لكن
حول طاولة جمعت أفراد أسرة للإحتفال بعيد الفصح. تجتهد
سيدتهم المدعوة جوزفين في أن تجعل كل شيء متاحاً
وإنسيابياً. فغيبات أولادها طالت، وغرباتهم إزدادت،
بيد ان ورطة إختفاء مبلغ مالي، تجعل الجميع عرضة
للإشتباه بسرقته. ما يلي ذلك هو إنحطاط كينوني، تتنوع
عداوته من الطائفي، وينتهي بالعنصري، مروراً بالنزاهات
والشرف وغيرها. الهزة الشخصية، هي عنوان فيلم صاحب
"جلد حي" المصري أحمد فوزي صالح "ورد مسموم"(70 د)
التي تقود البطلة الشابة عاملة النظافة تحية(كوكي
مجدي) الى الهزيمة والخراب، حينما يقرر شقيقها صقر
العامل في المدابغ في ظروف غير إنسانية، والذي تعتبره
سندها في كل شيء، ويمثل كل أحلامها، ان وقته حان
للهجرة عبر قارب نحو إيطاليا. وسعياً الى منعه من
تحقيق مناورته، تخرّب علاقة الحب التي تجمعه مع طالبة
في كلية الطب، وتستنجد بشيخ (محمود حميدة) الذي يراقب
أهل حارته وأحوالهم من عرشه، وتطلب منه توفير تعويذة
تحول بين شقيقها والمغادرة، كما تنتظر مساعدته في حل
ملتبس، تستعيد عبره أخاها.