زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الـ82

"Silver Lion - Grand Jury Prize"

(الأسد الفضي ـ جائزة لجنة التحكيم)

THE VOICE OF HIND RAJAB

"صوت هند رجب" للتونسية كوثر بن هنية... الخِزْي... الخِزْي

بقلم: زياد الخزاعي/ خاص بـ"سينماتك"

 
 

الفيلم الضَّروري لا يحتاج الى تبرير كي يُصنع، إنّما يولد من لحظة انقلابية حاسمة. أنّه أكثر من وثيقة، وأبعد من حجَّة. في الغالب، خطه الحكائي ليس أثمن من عقيدته، فهذه الأخيرة تنال تاريخيتها من قدرتها على إسقاط شهود الزور، وعنادها في تثبيت اتّهاماتها الباتّة، وإعلائها من شأن الكشف السَّافر، وتقديسها لحقّ المساءلة وقوّة جسارته في ما يتعلق بالقهر وإفناء النّاس وسفك دمائهم، وخيانة حقهم البشري ووجودهم، وسرقة جغرافيتهم وإنكار حرياتهم، وجميعها متوافرة في جديد التونسية كوثر بن هنية "صوت هند رجب"، الفائز بالأسد الفضي ـ جائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ82 (27 أغسطس ـ 6 سبتمبر 2025) لمهرجان فينيسيا السينمائي.

*****

الفيلم الضَّروري ليس نخبوياً لزاماً، لذا لن يحتاج الى تعاطف، أو أن يُشتم، أو يخضع الى محاسبات وارتيابات، ذلك لأنّه ككيان ابداعي استفزازي وتثويري، يجعل من حكيه وسردياته أداة جارحة ضد (أ) النسيان الجمعيّ كما تجلى في رائعة الموريتاني ميد هندو "أوه، أيتها الشمس" (1966) عن طغيان رأسمالي يدمر عاملاً أفريقياً مهاجراً، ومثله العمل النضالي "معركة الجزائر"(1965) للمعلم الإيطالي جيلو بونتيكورفو وتحامله المباشر على فاشية مستعمر، أو (ب) شطب العقد الاجتماعي كما ناقشه بواقعية مفرطة الشريط المتمرّد "قاتل الخراف" (1977) للأميركي تشارلز بورنيت عبر محنة عامل مسلخ (ليس جزاراً) يواجه قوّة غاشمة تسعى الى تجريده من انسانيّته، أو (ج) تزوير التّواريخ كما في نصّ البرازيلي غلوبير روشا "أنتونيو داس مويرتس" (1969) المصنف كبيان سينمائيّ طقوسي ضدّ ما بعد الاستعماريّ، عن قاتل مأجور يقرّر الوقوف إلى جانب الفلاحين ضد ملاك الأراضي الشرسين، فيما يتحوّل أجير "متروبوليس" (1927) للمعلّم الألماني فريتز لانغ الى طاقة انتفاضية ضد العقائدي الحداثي وبربريّته. لئن جعل بطل "مُنقطِع النَّفَس" (1960) من محاكاته السّاخرة لرموز الثقافة، ومنها السينما، وسيلة دياليكتيكية للتأكيد على أنَّ صناعة فيلم السويسري الفرنسي جان لوك غودار إنَّما هو فعل ابداعي غنيّ وابتكاريّ شديد الضَّرورة كونه "بياناً جاداً حول تفكيك أشكال السينما"(ديرِك مالكوم، 2/3/ 2000)، فإنْ زميله الأميركيّ فرِدريك وايزمن ينتخب الواقعيّ بخشونته اليوميَّة في جوهرته "الرعاية الاجتماعيَّة" (1975)، منتصراً الى فيلم ضروريّ جدليّ عن التشاؤم المدينيّ العارم ولا عدالته حيث تتواجه نماذجه داخل مكاتب مؤسسة بيروقراطيَّة، يتوجّب على موظفيها المنهكين تقديم إعانات ماليّة لعوائل مسحوقة في مانهاتن نيويورك، بيد أنَّ النظام القهريّ يحاصرأفرادها بحُزَم من قوانين زجرية وتشكيك دوافع.

*****

الفيلم الضَّروري مُنير بشجاعته، ومعتز بلا تحيَّزه الأيديولوجيّ ومناوراته في الوصول الى الحقيقة، وبقدر ما يحققه من انقلاب في الوعي العام، يسعى بالموازاة الى دفع السينما نحو أقصى درجات المواجهة ضد التضليل بأنواعه(إشتغالات الفرنسي كريس ماركر مقابل الأميركية كاثرين بيغلو)، وإشاعة التّعصُّب (كارل تيودور دراير "آلام جان دارك"(1928) و"الكلمة"(1955)، مقابل الاميركي د. دبليو. غريفيث "مولد أمة"، 1915)، وتبرير القتل (الروسي أليم كليموف في "تعالوا وأنظروا"(1985)، ومعه المجري لاسلو نيمش في "ابن شاوول" (2015)، مقابل "قبعات خضر" جون وين و"انتصار إرادة" الألمانية ليني ريفنيشتال). في هذه الخانة الأخيرة، يقف منجّز بن هنية وفيه صوت الطفلة الفلسطينيّة الشهيدة ذات الأعوام الخمسة عالي النّبرة، مدمرّاً، ضَرُوساً ولا يساوم. أنْ اغتيال الطفلة، ومعها عشرات من أترابها، على يد زمر عسكريّة صهيونيّة مجرّمة لا يمكن مهادنة فظاعاتها، ناهيك عن خسارات أعمار بريئة على يد أجلاف أوروبيّين ومرّتزقة ثيوقراطيين متعصّبين وسراق أراض، لم نقابلها نحن ـ الكثرة العربية والإسلامية ـ بحزم جماعي إلّا بعد مئات الآلاف من الجثث، حين انتقم الصهيونيّ من الجميع باعتبارهم "نطف حركة حماس" القابلة للفناء بـ"كُلَّ الطرق العسكريَّة الممكنة".

*****

قلت "منجَّز" بن هنية (1977) لأنَّه ليس فيلماً بالمفهوم التقليديّ، وهذا لا ينتقص من قوته وتمايزه. في إعتبارنا، هو نصّ بصريّ تجهيزي هجين فريد ومحكّم الصنعة وغير مسبوق في السينما العربيَّة، أوجدت بذرته في "بنات ألفة" (2023) حين أعادت تركيب حكاية اختفاء شقيقتين تونسيتين، اتضح التحاقهما بتنظيم "داعش". مع أم ملتاعة وأختين مراهقتين أخريين، تستدعي بن هنية ممثلتين محترفتين تقومان بدور الغائبتين لفهم الدَّوافع وإرتداداتها الأسريَّة وكيفيَّة التجنيد. يُذكَّر "صوت هند رجب" سريعاً بعمل الكاتبة الدراماتورجية الأميركية تينا ساتر "ريالتي" (2023)، وهو أسم بطلة شابة إلتحقت بوكالة الأمن القومي كمترجمة متعاقدة، قبل أنْ تخضع الى استجواب طويل ومضن على يد عميلين لمكتب التحقيقات الفيدرالي خارج منزلها في أوغوستا، جورجيا بحجَّة "احتمال سوء تعاملها مع معلومات سريَّة". اعتمدت ساتر على نصّ حرفي مسجل لذلك الاِستجواب، وفرضت على ممثليها استخدام كُلَّ كلمة فيه حرفيّاً، مع ضبط دقيق لتزامنات مخارجها وتصويتاتها وتثبيت نبراتها. تُصبح ريالتي عبر فم وشفاه وحركات جسد الممثلة الموهوبة سيدني سويني الى "صنو سينمائيّ" للأصل، يدعّم تحامل الشريط على هيمنة السّلطة وقسوتها، وإندفاع أزلامّها ومجرميها الى تدمير صلابة الشابة، وكسر يقينها بأنَّ النظام (الدولة) يتجسّس على مواطنيه. ما فعلته ساتر هو خلق نبرة سردية تطابقيَّة مع فعل حقيقيّ أصبح ماضياً، بيد أنَّ مصائبه ما زالت تحدث يومياً ضدّ مواطنين تمسَّكوا بحقّ حرياتهم.

هذا التَطابق أساس اشتغال بن هنية في "صوت هند رجب" كونه إعادة أفلمة حدث واقعيّ بأكبر قدر من الوَثَاقة، تقول: "كان عليّ إيجاد شكل سينمائي لا يكون فيه السّرد ملفقاً، بل يوثق ذاكرة وحالة حزن ومرارات فشل"، تضيف: "لذا، لا أقول إنَّ هذا الفيلم "يطمس" الحدود بين الأنواع، إنَّما يُكثّفها". أفلمة تتضمّن فعلين: الأول، مجرمو حرب صهاينة يقصفون ويقتلون بأوامر تجيز إفناء ما هو حيّ أمامهم، يواجهون يوم 29 يناير 2024 وبمسافة قصيرة جداً سيارة تقل عائلة في غالبيتهم أطفال تمّت إبادتهم، تفشل دبابتهم في "اصطياد" هند رجب كونها بين جثث أقربائها، قبل أنْ تجد هاتفاً خلوياً يربطها بـ"الفعل الثاني" وهو مركز الهلال الأحمر الفلسطيني.

توصّلت بن هنية الى التسجيل الثمين (70 دقيقة) المتضمن تضرّعات الطفلة في إنقاذها "جنبي الدبابة"، تهمس لموظف شاب يستمع برعب الى كلماتها، وأيضا أصوات عمها سميح حمادة وكذلك محادثات العاملين الساعين بإستماته في تأمين ممر آمن لسيارة أسعاف تنتشلها، سرعان ما تُقصف ويستشهد سائقها ورفيقه، وهما على بعد 8 أمتار من الصغيرة التي يخفت صوتها بسبب نزفها قبل استشهادها. في فبراير 2024، تعثر فرق الإنقاذ على جثمانها وأفراد عائلتها داخل سيارتهم بمحيط "دوار المالية" في حيَ تل الهوا بقطاع غزة.

*****

 
 

بفطنة، اختارت صاحبة "الجميلة والكلاب" (2017) أن يكون صوت الطفلة، كما في الشريط الدنماركي "المذنِّب" (2018) لغوستاف مولر الذي حيَّته بن هنية كأحد الأفلام التي ألهمتها صيغة نصّهاعن الشهيدة هند، ركيزة لبناء تجهيز ممسرح يستعيد بدقة ما قام به طاقم الهلال الأحمر داخل المؤسسة وغرفها المفتوحة على بعض، ما أفسح المجال الى مدير التصوير الكولومبي خوان سارامينتو ج. أنْ يصوغ تعقيداً هيكلياً بصريّاً لوحدة مكانيَّة متداخلة عبر نوافذ زجاجيّة تتيح مناورة كاميرته المحمولة بيسر بين الشخصيات، وتوثيق أفعالهم التي تمّ التّأكد تماماً من توافقها مع المقاطع الحيَّة التي صُوِّرت عبر كاميرات هواتف النقالة للأشخاص الفعليين، وهو ما أصرّ عليه الثنائي بن هنية/ سارامينتو على إظهاره في المقاطع الأخيرة حين وضعا شاشة تلفون تحمل صورة مدير المركز مهدي أمام الكاميرا، فيما يجسّد الممثل عامر حليحل حركاته بالضبط خلفها. هناك أيضاً، لقطة مشابه للممثلة كارلا خوري ـ كأمّ بديلة ـ وهي تهدأ من روع هند، قبل أن تتلاشى طلّتها داخل الإطار لتحل بدلها نسرين الأصلية على شاشة هاتف ذكي، لتقولان الكلام ذاته في تزامن مدروس.

تناور هذه التّجهيزية المزدوجة ـ بين مساحات مركز الهلال الأحمر ولاحقا داخل دور العرض ـ و"المكتوبة والمُصاغة" بإتقان شديد على إرغام المشاهد في تقبّل مسؤوليته السَّمعيَّة أولاً، لأنّها سبيله في لا تجاهل الطفلة المطوَّقة وضراعاتها، و"تسجيل"ـها في كيانه وذاكرته الى الأبد، ومشاركته إنسانيّاً وأخلاقيّاً وتعهّده بلا تحفظ في "تكريم لحظة لا ينبغي للعالم أن ينساها مطلقاً" حسب بن هنية. الى ذلك، تمدّنا التجهيزية هذه بمساحة مُوَلّدة تغريبيَّة ـ بريشتية تفاعليَّة ترفع من منسوب تصوُّراتنا أو خيالنا لما كانت تواجهه الطفلة وتشعر به قبل رحيلها، وما صوتها سوى "استعانة" لمعايشة رعبها ودنوّ موت لا تستحقّه منها، ما يفسّر كمّية الفجع الذي يلفّ سامعيها، وغُمَّتهم بهزيمتهم أمام وقائع موت حتميّ لكائن بلا حَوْل، أضافة الى كونهم شهوداً على مصيبة محيطة بشخصيات أربع في مركز رام الله يجاهدون في اتخاذ قرارات صحيحة، ترتبط عبثياً بإرادات أمميَّة غارقة في بيروقراطيتها، يفترض أنّها تملك ـ وتفشل لاحقاً بسبب بطء استجابتها وسلبيتها ـ قوّة ضغط على صهيونيّ يفرض همجيته على الجميع، في تأمين ممر آمن لمسعفين من دون تعرضهم لخطر ماحق. تشرح بن هنية صوابيتها السينمائيّة بقولها: "اخترتُ سرد القصة من وجهة نظر العاملين في مركز الهلال الأحمر، ويعود ذلك جزئيّاً الى توفر وثائق تابعة له. عندما نفهم آلية التّنسيق، نُدرك أن سيارة الإسعاف ستُقصف إذا لم يتمّ تنسيقها بالطريقة الصحيحة. لذا، عليك التحدث إلى جيش يقتل شعبك لإنقاذ واحد من بين جميع شعبك. طفل محاصر على بُعد ثماني دقائق من سيارة إسعاف، لكنّك لا تستطيع إرسالها إلى غزة إلّا إذا كنت راغباً في التّعرّض الى القصف. يفرض الإسرائيليون قواعد وإجراءات تجعل حياة الفلسطينيين مستحيلة. هذا هو الرعب الذي يتجاوز الشّرّ في وضع كهذا" (موقع "سينيوربا"، 6 سبتمبر 2025).

*****

هؤلاء الممثلون هم طرف دراميّ ضمن جغرافيّة الموظف/ العاجز. تواجه هند مصيرها، فيما يحسب الأربعة خطواتهم وفقاً لما يرد عبر خطوط الهواتف. ينخرط عمر إثر تلقيه مكالمة هند المفاجئة، ومن ثم استغاثات عمّها للتدخل العاجل، في التزام ذاتيّ مهنيّ، وينتهي في وعيه نضالاً شخصيّاً في مزاحمة الوقت، والضّغط على الجميع بما فيهم تردّد مدير المركز مهدي الذي "لن يخاطر بطواقمه من دون ضوء أممي أخضر"، وهو يقف مشيراً الى ملصق يحمل صور وعنوان "شهداء العمل الإنسانيّ". الشابة رنا، هي صمام أمان الخطوات وتمكينها. حكيمة، صلبة المراس وشديدة الواقعيَّة. ترهن واجبها بإبقاء الأمل حيّاً لدى الطفلة. يثبت الحجاب الذي ترتديه رسوخ إيمانها بالمحتوم، بينما تقف نسرين كشخصية عمليّة وأموميَّة الدوافع. مهمتها واضحة في ملء عالم وحشيّ وعزلته وتهديداته لضحيَّة صغيرة السِّنِّ تُحيط بها جثث بيقين عائلي وحنان عفيف، وكأنَّه "يُكفّن" جسد هند النازف حتى موتها الذي بدوره "يُلبِس" (يغمر) هذه الشخصيات ـ كما المشاهدين ـ بفيوض من أسى وخِزَايَة وذنب.

صوت هند هو منظورنا والسّياق الدّرَّامي الوحيد لـ"تكوين" صورة سكينتها الأبديَّة، يربطاننا عنوة بسؤال آني وجوهري عن لغز نكوص الجميع وخيانتهم لدماء أكثر من 18 الف طفل معها، قتلوا غيلة في أكبر عملية إبادة منظمة ومقررة عسكريّاً وادارياًّ منذ هولوكوست النازيين. تُرى لماذا احتجنا الى دَّم هند كي نرى القتلة ونشير الى جرائمهم؟، لماذا تبع الجميع أولياء أمورهم وما انتصروا الى إنسانيتهم وكثرة تدينهم؟. كيف نغسل وزر دَّم خمس سنوات عمر هند؟ أنلعن أنظمة وشعوبها، أم نتحامل على تصريف كتب الأقدمين لأنهم قالوا شيئاً عن القتال، فيما ما نْبس أحفادهم وهم مدهوشون من سهولة سفك دماء أصحابهم؟. أكان علينا انتظار بسالة كوثر بن هنية ومعها المنتج والممثل الأميركي براد بت ومواطنيه يواكيم فينكس وزوجته روني مارا والمخرج البريطاني جوناثان غليزر وزميله المكسيكي ألفونسو كورون حتى يُجاز لنا قول أنَّ ما فعلوه "مسّ شغاف قلوبنا وفطرها وأهان همَّتنا وسكب دموعنا وسربلنا بالعار!" (هذه توصيفات اخترناها من بعض كتابات مائعة).

*****

تكّمن الضَّرورة القصوى لصنيع بن هنية في حقيقة جوهريَّة، تتعلق بتَيَقُّظ سياسيّ لمشاهد يتفاعل ضميرياً مع كُلّ جملة إسترحام للشهيدة، ومعها توجعات موظفي الهلال الأحمر حيث يكاد من المستحيل فصل صوت الطفلة عن صعوبة الاِستماع له، ويصبح بذلك الشريط الصوتي "استعارة حقيقيّة مؤلمة. صرخة استغاثة سمعها العالم، لكن لم يبد أن أحداً راغب أو قادر على الاِستجابة لها"، تقول مخرجة "الرجل الذي باع ظهره" (2020)، رغم أن صحفاً أميركيّة نافذة وثقّت الجريمة وقتها من دون اختراق، وكأن على الفاجعة الاِنتظار كي تسقط على ذمَّم الجميع، حتى وقت تيسّر عروض العمل السينمائي المفعم بتحريض بالغ القسوة ضد جريمة حرب، ويرشدنا الى التمعَّن في فكرة "الإنسان الحرام" الغير الخاضع للقانون وحقوقه، والمجاز إراقة دمه، والمستسهل إجتثاثه  وإبادته بإرادة متجبِّر كولونيَّالي عنصريّ، يستلف أحفاده أساليب استباحة وإبادات مورست على أجدادهم خلال السنوات العصيبة لـ"شوأة" هتلر، معيدين تجسيدها بوحشية عبر سياسة الخواء الجغرافي، ووصف الفلسطيني إينما وجد بـ"المعتقل المطلق" و"الإنسان المستباح" (تعبير الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين)، الخاضع لـ"حالة استثناء تنتج حياة عاريّة لكائن منتهك ومنبوذ"، وفاقد لأيّ هويّة قانونيَّة ممكنة، كالتي سُلبت من معتقلي معسكرات الهولوكوست، ومكّنت في الوقت نفسه جلاديهم من "إدارة الموت والحياة" (ميشيل فوكو). مشاهدة "صوت" بن هنية واجبة لأنَّ خسارة روح طفلة لن تعوّض، لكنها تلقنا درساً أليماً بشأن الواجب الإنساني الجماعيّ لمعاقبة القاتل، وإنهاء صمت أصبح جزءاً من العنف وداعماً له ومبرراً فظاعاته. أما نحن فلا نملك سوى الخِزْي... الخِزْي... الخِزْي لأصوات ناشدت مرؤاتنا، لكننا فضلنا الاِستكانة والاِكتفاء برفع الدُّعاء.

سينماتك في ـ  28 أكتوبر 2025

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004