|
الفيلم الضَّروري لا يحتاج الى تبرير كي يُصنع، إنّما
يولد من لحظة انقلابية حاسمة. أنّه أكثر من وثيقة،
وأبعد من حجَّة. في الغالب، خطه الحكائي ليس أثمن من
عقيدته، فهذه الأخيرة تنال تاريخيتها من قدرتها على
إسقاط شهود الزور، وعنادها في تثبيت اتّهاماتها
الباتّة، وإعلائها من شأن الكشف السَّافر، وتقديسها
لحقّ المساءلة وقوّة جسارته في ما يتعلق بالقهر وإفناء
النّاس وسفك دمائهم، وخيانة حقهم البشري ووجودهم،
وسرقة جغرافيتهم وإنكار حرياتهم، وجميعها متوافرة في
جديد التونسية كوثر بن هنية "صوت هند رجب"، الفائز
بالأسد الفضي ـ جائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ82
(27 أغسطس ـ 6 سبتمبر 2025) لمهرجان فينيسيا
السينمائي.
*****
الفيلم الضَّروري ليس نخبوياً لزاماً، لذا لن يحتاج
الى تعاطف، أو أن يُشتم، أو يخضع الى محاسبات
وارتيابات، ذلك لأنّه ككيان ابداعي استفزازي وتثويري،
يجعل من حكيه وسردياته أداة جارحة ضد (أ) النسيان
الجمعيّ كما تجلى في رائعة الموريتاني ميد هندو "أوه،
أيتها الشمس" (1966) عن طغيان رأسمالي يدمر عاملاً
أفريقياً مهاجراً، ومثله العمل النضالي "معركة
الجزائر"(1965) للمعلم الإيطالي جيلو بونتيكورفو
وتحامله المباشر على فاشية مستعمر، أو (ب) شطب العقد
الاجتماعي كما ناقشه بواقعية مفرطة الشريط المتمرّد
"قاتل الخراف" (1977) للأميركي تشارلز بورنيت عبر محنة
عامل مسلخ (ليس جزاراً) يواجه قوّة غاشمة تسعى الى
تجريده من انسانيّته، أو (ج) تزوير التّواريخ كما في
نصّ البرازيلي غلوبير روشا "أنتونيو داس مويرتس"
(1969) المصنف كبيان سينمائيّ طقوسي ضدّ ما بعد
الاستعماريّ، عن قاتل مأجور يقرّر الوقوف إلى جانب
الفلاحين ضد ملاك الأراضي الشرسين، فيما يتحوّل أجير
"متروبوليس" (1927) للمعلّم الألماني فريتز لانغ الى
طاقة انتفاضية ضد العقائدي الحداثي وبربريّته. لئن جعل
بطل "مُنقطِع النَّفَس" (1960) من محاكاته السّاخرة
لرموز الثقافة، ومنها السينما، وسيلة دياليكتيكية
للتأكيد على أنَّ صناعة فيلم السويسري الفرنسي جان لوك
غودار إنَّما هو فعل ابداعي غنيّ وابتكاريّ شديد
الضَّرورة كونه "بياناً جاداً حول تفكيك أشكال
السينما"(ديرِك مالكوم، 2/3/ 2000)، فإنْ زميله
الأميركيّ فرِدريك وايزمن ينتخب الواقعيّ بخشونته
اليوميَّة في جوهرته "الرعاية الاجتماعيَّة" (1975)،
منتصراً الى فيلم ضروريّ جدليّ عن التشاؤم المدينيّ
العارم ولا عدالته حيث تتواجه نماذجه داخل مكاتب مؤسسة
بيروقراطيَّة، يتوجّب على موظفيها المنهكين تقديم
إعانات ماليّة لعوائل مسحوقة في مانهاتن نيويورك، بيد
أنَّ النظام القهريّ يحاصرأفرادها بحُزَم من قوانين
زجرية وتشكيك دوافع.
*****
الفيلم الضَّروري مُنير بشجاعته، ومعتز بلا تحيَّزه
الأيديولوجيّ ومناوراته في الوصول الى الحقيقة، وبقدر
ما يحققه من انقلاب في الوعي العام، يسعى بالموازاة
الى دفع السينما نحو أقصى درجات المواجهة ضد التضليل
بأنواعه(إشتغالات الفرنسي كريس ماركر مقابل الأميركية
كاثرين بيغلو)، وإشاعة التّعصُّب (كارل تيودور دراير
"آلام جان دارك"(1928) و"الكلمة"(1955)، مقابل
الاميركي د. دبليو. غريفيث "مولد أمة"، 1915)، وتبرير
القتل (الروسي أليم كليموف في "تعالوا وأنظروا"(1985)،
ومعه المجري لاسلو نيمش في "ابن شاوول" (2015)، مقابل
"قبعات خضر" جون وين و"انتصار إرادة" الألمانية ليني
ريفنيشتال). في هذه الخانة الأخيرة، يقف منجّز بن هنية
وفيه صوت الطفلة الفلسطينيّة الشهيدة ذات الأعوام
الخمسة عالي النّبرة، مدمرّاً، ضَرُوساً ولا يساوم.
أنْ اغتيال الطفلة، ومعها عشرات من أترابها، على يد
زمر عسكريّة صهيونيّة مجرّمة لا يمكن مهادنة فظاعاتها،
ناهيك عن خسارات أعمار بريئة على يد أجلاف أوروبيّين
ومرّتزقة ثيوقراطيين متعصّبين وسراق أراض، لم نقابلها
نحن ـ الكثرة العربية والإسلامية ـ بحزم جماعي إلّا
بعد مئات الآلاف من الجثث، حين انتقم الصهيونيّ من
الجميع باعتبارهم "نطف حركة حماس" القابلة للفناء
بـ"كُلَّ الطرق العسكريَّة الممكنة".
*****
قلت "منجَّز" بن هنية (1977) لأنَّه ليس فيلماً
بالمفهوم التقليديّ، وهذا لا ينتقص من قوته وتمايزه.
في إعتبارنا، هو نصّ بصريّ تجهيزي هجين فريد ومحكّم
الصنعة وغير مسبوق في السينما العربيَّة، أوجدت بذرته
في "بنات ألفة" (2023) حين أعادت تركيب حكاية اختفاء
شقيقتين تونسيتين، اتضح التحاقهما بتنظيم "داعش". مع
أم ملتاعة وأختين مراهقتين أخريين، تستدعي بن هنية
ممثلتين محترفتين تقومان بدور الغائبتين لفهم
الدَّوافع وإرتداداتها الأسريَّة وكيفيَّة التجنيد.
يُذكَّر "صوت هند رجب" سريعاً بعمل الكاتبة
الدراماتورجية الأميركية تينا ساتر "ريالتي" (2023)،
وهو أسم بطلة شابة إلتحقت بوكالة الأمن القومي كمترجمة
متعاقدة، قبل أنْ تخضع الى استجواب طويل ومضن على يد
عميلين لمكتب التحقيقات الفيدرالي خارج منزلها في
أوغوستا، جورجيا بحجَّة "احتمال سوء تعاملها مع
معلومات سريَّة". اعتمدت ساتر على نصّ حرفي مسجل لذلك
الاِستجواب، وفرضت على ممثليها استخدام كُلَّ كلمة فيه
حرفيّاً، مع ضبط دقيق لتزامنات مخارجها وتصويتاتها
وتثبيت نبراتها. تُصبح ريالتي عبر فم وشفاه وحركات جسد
الممثلة الموهوبة سيدني سويني الى "صنو سينمائيّ"
للأصل، يدعّم تحامل الشريط على هيمنة السّلطة وقسوتها،
وإندفاع أزلامّها ومجرميها الى تدمير صلابة الشابة،
وكسر يقينها بأنَّ النظام (الدولة) يتجسّس على
مواطنيه. ما فعلته ساتر هو خلق نبرة سردية تطابقيَّة
مع فعل حقيقيّ أصبح ماضياً، بيد أنَّ مصائبه ما زالت
تحدث يومياً ضدّ مواطنين تمسَّكوا بحقّ حرياتهم.
هذا التَطابق أساس اشتغال بن هنية في "صوت هند رجب"
كونه إعادة أفلمة حدث واقعيّ بأكبر قدر من الوَثَاقة،
تقول: "كان عليّ إيجاد شكل سينمائي لا يكون فيه السّرد
ملفقاً، بل يوثق ذاكرة وحالة حزن ومرارات فشل"، تضيف:
"لذا، لا أقول إنَّ هذا الفيلم "يطمس" الحدود بين
الأنواع، إنَّما يُكثّفها". أفلمة تتضمّن فعلين:
الأول، مجرمو حرب صهاينة يقصفون ويقتلون بأوامر تجيز
إفناء ما هو حيّ أمامهم، يواجهون يوم 29 يناير 2024
وبمسافة قصيرة جداً سيارة تقل عائلة في غالبيتهم أطفال
تمّت إبادتهم، تفشل دبابتهم في "اصطياد" هند رجب كونها
بين جثث أقربائها، قبل أنْ تجد هاتفاً خلوياً يربطها
بـ"الفعل الثاني" وهو مركز الهلال الأحمر الفلسطيني.
توصّلت بن هنية الى التسجيل الثمين (70 دقيقة) المتضمن
تضرّعات الطفلة في إنقاذها "جنبي الدبابة"، تهمس لموظف
شاب يستمع برعب الى كلماتها، وأيضا أصوات عمها سميح
حمادة وكذلك محادثات العاملين الساعين بإستماته في
تأمين ممر آمن لسيارة أسعاف تنتشلها، سرعان ما تُقصف
ويستشهد سائقها ورفيقه، وهما على بعد 8 أمتار من
الصغيرة التي يخفت صوتها بسبب نزفها قبل استشهادها. في
فبراير 2024، تعثر فرق الإنقاذ على جثمانها وأفراد
عائلتها داخل سيارتهم بمحيط "دوار المالية" في حيَ تل
الهوا بقطاع غزة.
***** |