زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 76

المسابقة الرسمية

Youth (Spring)

"شبيبة" (الرَّبيع) للصيني وانغ بينغ.. الوثائقي العارِم

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 
 

"في مرافق الإنتاج في الصين خلال الحقب السابقة، كان كُلّ شيء يخضع في العادة الى حكم مركزي. النّظام يحكم كل مفاصل الحياة. إذا لم تقم بالمهمة حسب الطريقة التي يريدونها، فستُعاقب وتخضع الى إعادة انضباط. اليوم، لم يعد الحال كذلك. جميع الأمور تتمّ من خلال المال، ذلك أنَّه من الأسهل بكثير التَّحكم في الناس من خلال المكافآت والحافز المادي، حيث يعتمد مقدار ما تكسبه مالياً على عدد القطع التي تصنعها".  المخرج وانغ بينغ في حديث مع مجلة "فيلم كومِنت" الأميركية (2 يونيو 2023)

العَرَامة السوسيو أيديولوجية في اشتغالات الصيني وانغ بينغ (1967) لا نديد لها. لا حروب فيها ولا إنتفاضات بشر ولا حتى شتيمة حزبيَّة. رجل شاب بكاميرا ديجيتال محمولة، محصَّن بمراس لا يلين، مع فكرة صغيرة يتكفَّل الوقت في تعقيد حكاياتها، وتعدّد مواقعها، وكثرة أًنَامها. يرتحل الى أقاصي بلاده الشاسعة وجيوبها، بحثاً عن أناسيّ يجتهدون في المحافظة على أكبر قدر من جماعيتهم وألفتهم الأسريَّة وتقاليدهم وحيلهم في غَنِم رهان معيشيّ بنبل، سواء كسب رزق أو ادّخار (والأخير هوس صينيّ بامتياز).

منتصراً الى تطرّف سينمائيّ في العمل من دون سيناريو أو قصة مكتوبة سلفاً، وولع شخصيّ في مخالطة غرباء وعابرين، وحدس نادر بالعملية التاريخية الجارية في الصين، ومثلها إيمانه بقدرة الأزمنة المديدة  لأشرطته على الوصول الى ملمس الوقائع وإيقاعات الحياة (وقت فيلمه "نفط خام" (2008) هو 840 دقيقة حول عمال حقول النفط في القطاع المنغولي الداخلي، فيما يغطي عمله "15 ساعة" (2017) مدة 900 دقيقة عن مصانع خياطة ملابس الأطفال في إقليم جاجانغ)، يجتهد المخرج بينغ بلا هوادة في إتمام خرائط استقراءاته لليوميّ والعادي والمعهود التي يعيشها مواطنون هامشيّون وفق أنماط حياتيَّة واقتصاديَّة شديدة الشَّظف والتَّعاسر والمهانة، من دون أن يفقدوا شكيمتهم وإصرارهم المدهش على التَّأقلم. خرائط جغرافيَّة وإثنوغرافيَّة واستكشافيَّة لتنظيمات اجتماعيّة، تشهد تحوّلات عظيمة وجذريَّة تمسّ نسيجاً عرقيَّاً وإرثاً ثقافيّاً وعقائديّاً وجماليّاً، تحت سطوة ضاغطة ولا تلين أو تتسامح لحزب شيوعيّ يراقب كُلّ شيء، ويتنفَّس في كُلّ مكان، ويعس كُلّ زاوية، ويوزّع إكراهاته على الجميع. حزب هو ربٌّ أيديولوجيّ، يسير دُنىً لمليار وأزيد من السكان. مِنْ بينهم وعنهم وحولهم، يدُسَّ بينغ أنفه الفيلمي مقارباً طرائق تفكيرهم وأفاق تطلعاتهم، من دون أن يسأل أو يستميل أو يستوضح أو يتحرَّى. يصوّرهم على سجيَّاتهم. لا يتدخل مطلقاً، ولن يعيد ترتيب محيطهم. يعاشر أيَّامهم كفرد منهم، ذلك أنَّ الثّقة بينه والآخرين بمختلف أعراقهم ومنابتهم ومستويات تعلُّمهم وأنواع حرفهم، هي عنوان حاسم لسينماه التي تراكم وفرة معلومات آنيَّة وغير مباشرة، ترد خلال حواراتهم العفويَّة ومشاكساتهم وتنابذاتهم،  حول أحلامهم وخططهم، وكيف يواجهون أقدارهم ومحنها، وما الذي يجنونه من أعمال وضيعة وشاقة وغير منصفة، وما تعنيه العائلة ومستقبلها في ظل تشتّت أفرادها وسفرهم الطويل لغرض العمل. يقول بينغ: " أعتقد أنَّ الشيء الأكثر إثارة للاهتمام الذي يجب القيام به سينمائياً هو عدم إنشاء قصّة (...). أنا أفضّل أن ننظر إلى النَّاس. إذا نظرت إلى شخص مثير للاهتمام لفترة من الوقت، سوف تدرك أنَّ هناك قصة مثيرة للاهتمام للغاية  في حياة هذا المرء. عندما أقابل كائناً ما وتجذبني حكايته حقاً, ثمَّ قرَّرت أنَّني أرغب في إنجاز فيلم عنه أو عنها. حين أُقرر أنَّ هناك شيئاً جميلاً حقاً في هذا الشَّخص، وأنَّ حياته أو حياتها تمسّني فعلاً، فهذه هي اللَّحظة التي أريد فيها التصوير". (مجلة "سينياست" السينمائية الأميركية، 2015)

يوثق بينغ بفطنة عالية، تتماهى الى حدّ بعيد مع روح سينما المُعلّم الأميركي فريديرك وايزمَن، "أيام الله" (نِعْمَه ونِقْمَه) التي ترسم عوالم بشره، ومعهم يوضح لمشاهد صبور مآلات الانقلاب المجتمعيّ المتسارع في البلاد، نتيجة هزَّة عصرنة كاسحة، وحذو بأوروبّة شديدة الإغواء، متزامنتين مع اقتصاد انفتاحيّ وأتمَّتي وتحديثي، لم يتخلَّ عن اعتبار الصين قوّة صناعية وفلاحيَّة لا يقف في وجهها شيء، إضافة الى تسيّدها اليوم على سوق الذَّكاء الإصطناعي الذي يُبشّر بكون شديد التَنافس والتنازع.

*****

هذا الإنقلاب، هو جوهر إشتغالات المخرج بينغ بالمطلق والتي بدأت مع باكورته المجيدة "غرب خطوط السّكك الحديديَّة" (2002) المعنية، بمقاطعها الثَّلاثة التي تغطي أكثر من 9 ساعات و11 دقيقة من العرض المتواصل، بتعقب مُنْقَلَبات يوميَّة لمجمَّع صناعيّ ضخم للصّهر وإنتاج كابلات كهربائيَّة وصَّفائح معدنيَّة، يواجه نقصاً في المواد الخام، ما يهدّد استمرار إنتاجيَّته، ويجعل من شغيلته كائنات شبه عاطلة عن العمل وعرضة للتَّسريح. مستخدماً القطارات الرّابطة بين أقسام متباعدة، يوثق الشريط خراباً عاماً وتفسّخاً مكانيّاً، هو إعلان مرئيّ عن موت حقبة قديمة، وفشل سياسة تعدين ثقيلة خاسرة مسبقاً (نعلم ضمن هذا المقطع إن عمال التعدين كانوا يخضعون الى فحوصات إلزاميّة في المستشفى لعلاج الرصاص الذي تسرّب بشكل مميت إلى أجسادهم)، تجد بيسر ضحاياها وهم ـ في المقطع الثاني ـ كتلة سكانيَّة "تستعمر" بنايات شبه مهجورة، تنتظر أوامر نزوح ما تبقَّى من قاطنيها. منهياً عمله الصّادم بقسم ثالث، هو الأكثر إستفزازاً، حول إستضعاف بشريّ وإملاق يوميّ ملحَّين وجارحين، يرغمان أباً وإبنه اليافع على "سرقة" خردة المصنع تحت سماء جليديَّة، ومطاردات مسعورة من قبل أزلام الإدارة والحزب.

في هذا الوثائقيّ الوحشيّ، لن يختار بينغ شخصاً أو عائلة بالذَّات، ويجعله (هم) مركز الإهتمام، إنَّما يصوغ "ميتا مرويَّة" واقعية وجماعيَّة من أيّ شخص يمرّ أمام كاميرته. إنَّ المواطن الصينيّ العادي هو خامة حكاية مخبوءة، يكشفها أوان تصوير عفويّ ومتجالد، فما يحدث له/ لها هو نتاج عوامل يخلقها آخرون، ومثلها أماكن مزدحمة بصدف وقرارات، ونيَّات متسلطة وخبيثة، وأزمان ثقيلة الوطأة وفارغة من هدف عيش كريم. يمكن القول إنَّ هناك "قضاء ربَّانيّاً" هو الذي يخرج فصول "غرب السّكك الحديديَّة"، ذلك أنَّ النّقمة الحياتيَّة المحاصرة لهؤلاء المواطنين لا راد لها، ولا يمكنهم الحياد عن طريقها.

*****

 
 

تناور كاميرة بينغ "الرصديَّة بامتياز" دوماً تضاريس قاسية وهي "تطارد"هم. تدخَّل مهاجعهم وأماكن عملهم، وتخترق المقاصف البائسة للهوهم، وتدور حول نقاط تجمّعاتهم وتبادل تحرُّشاتهم، وتستمع الى شكاوى نكباتهم، وكأنَّهم يكافحون لا مساواة ومحواً تاريخيّاً يتربَّص بهم. وكما هو الخيار الحكائيّ للأميركي وايزمَن الذي يجعل الجميع بلا استثناء أمام حكم مشاهده، يصبح من الصَّعب إختيار فقرة ما أو وجه ما في سينما بينغ، واتخاذهما نموذجاً دراميّاً يختزل مفهوم "مواطن صيني". إنَّه "كُلّ الكُلّ"، أو كما ينعته الفيلسوف الفرنسي جورج ديدى هوبرمان بـ"بشر متجردين، شبيهين بممثّلين ثانويين (أكسترا)"، وهم داخل غرفة تحميض للصور. هو/ هم حُزمة بروليتاريَّة متحرّكة ونابضة بالحياة، ورغم ذلك يكشفون عن هزائمهم، لأنَّهم أدوات إنتاج سريعة العطب، حتى في مشاعرهم وعنادهم ومقاومتهم، وهم  يقفون بلا حوَّل أمام التّغيير وقواه الماحقة.  

هذا الأخير (التَّغيير)، هو عصب عَرَامة ذاتيَّة تكتسح حيوات جموع فتية صينيين في جديد بينغ "شبيبة" (الرَّبيع)، المعروض ضمن المسابقة الرسمية للدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو 2023) لمهرجان كانّ السينمائي، وهو مقطع أوَّل ذو أنفاس ديناميكيّة باهرة ومقدامة من رباعيَّة فيلميَّة، تطلَّبت سنوات ست تصوير وإكمال توليف. تستعير أجواءها من مواسم يمرُّون ويتمتَّعون بها، وتعكس بدورها مزاجاً سينمائيّاً خاصاً لأحوال سخرتهم وكدحها. عائلاتهم ومصائرها. أحلامهم ومُرادها. استقلاليَّتهم ومبتغاها. عشقهم ومناوراته. أفكارهم وتبصُّراتها...فراداتهم وتمايزها.

*****

هؤلاء هم جزء من ملايين الشباب الرّيفيّين، في سن العشرين، الذين يتركون الأرض والأهل والقرية، ويفدون الى المدن الكبيرة للتَّكسب في ورش، يبلغ عددها 20 ألفاً، لا تتوقف عن الإنتاج. بروليتاريو معامل النسيج في مدينة شيلي المتاخمة لنظيرتها هوتشاو التي صوَّر فيها بينغ شريطه السابق "مال مرير" (فينيسيا، 2016). أقنان نظام لا يرحم وغير مضمون، وساعات استغلال مضنية، وأماكن أقرب الى سجون مكتظّة وبأجواء غير صحيَّة. يضعنا الفيلم فوراً في المحنة وقلبها.

لا وقت يضيع في تقديم الشخصيَّات أو محيطها أو ارتباطاتها أو مراتبها. يأتي هذا كُلّه ضمن فصول من 20 دقيقة، تعرض لنا حال يومي معيّن، نلملم منه ـ وبعد 212 دقيقة ـ عناصر صورة كاملة، تُعرّفنا على فريق يافع، من بين 300 ألف عامل، أتوا من أرياف مختلفة، محمّلين بآمال تحقيق ثروة صغيرة، قبل أن يعودوا ثانية الى أسرهم وفلاحتهم.

ما نختبره كمشاهدين هو عبوديَّة موصوفة ومحميَّة ذاتيَّاً بشكل غير علنيّ، وتخضع الى مراقبة أمنيَّة مشدَّدة، كوَّنها ورشاً تُدار من قبل شراكات عائليَّة (كارتلات لا علاقة لها بالدولة). لا مجال فيها لعصيان أو انتقاد أو تجمّع نقابيّ. همُّ كتلة عمل، يمارسونه انطلاقاُ من حاجاتهم وليس من باب حقوقهم. لذا، فهم مرتبطون بمَكَنات يجب ألَّا تتوقَّف حتى انتهاء الموسم. عقيدة بينغ في "المعايشة التوثيقيَّة" تأتي بثمارها المعرفيّة بسرعة وحصافة، عبر مونتاج سينمائيّ محسوب وتتابعي. فالمجموعة المتباينة الأصول والأعراق التي لا تغادر ورشة، هي جزء من مكان متعدّد الطوابق ضمن حيّ صناعيّ متهالك، تدور كاميرا محمولة وحماسيَّة بين ممراته. تتابع وتسجّل كُلّ فعل حياتيّ يقومون به. مع تراكمه، نكتشف خلفيَّاتهم وخططهم في أنَّ يكونوا قادرين يوماً ما على تربية طفل أو شراء منزل أو إنشاء ورشة عمل خاصة بهم، إضافة الى مديات تقاربهم الوجداني وتآمراتهم. عبر كلام متدفّق ولهجات متداخلة وتوصيفات لغويَّة شديدة المحليّة يستخدمونها، تصبح الورشة ـ ومعها الفيلم ـ بمثابة مسرح حيّ بإنارة اصطناعيَّة، تجعل من وجوه الشابات والشبان محنَّطة وسقيمة وذات تعابير روبوتيَّة.

*****

إن الخشية من العقاب تدفعهم الى الامتثال الى تراتب إداريّ، هو في واقع الحال تعبير آخر لسلطة متخفّية في مكان ما. همُّ جميعاً يرونها ويهابونها  لكنَّ بينغ لن يكشفها لنا، إنَّما يُضخّم هاجسنا بها مع مرور وقت شريطه. وهي تقنيَّة تُذكر بحسيَّة مركَّبة أثقلت نصّه "الحفرة" (2010) في ما يتعلَّق بـ"تواجد" رجل نفوذ بين معتقلي أعمال شاقَّة من منفيّين سياسيّين في صحراء كوبي إبَّان الحقبة الماويَّة (1960). يتعاظم قهر هذه الحسيَّة المستترة لاحقاً في "الأنْفُس الميّتة" (كانّ، 2018)، ونحن نتابع بأسى عارم شهادات أَسَارَى ناجين من معسكرات الذّل الشيوعيّ في صحراء غانسو أواخر خمسينيَّات القرن الماضي. في "شبيبة" (الرَّبيع) هناك "معتقلات" اقتصاديَّة من نوع حداثيّ، لكن من دون نوافذ تبيَّن وقت اليوم الواحد. يتم فيها إعادة تأهيل الأف منهم بشكل ميكانيكيّ للتعامل مع مَكَنات خياطة، وترتيب حاصلهم الإنتاجيَّ بروح معسكر حزبيّ، وهم يستمعون الى موسيقى راقصة ويثرثرون ويتغازلون أو يتضاربون ويتمازحون. حين يصحبنا بينغ الى عالمهم الخارجيّ، لا نرى سوى مقهى إنترنت بائس، أو حانوت بإضاءة كامدة، أو زقاق وضيع يؤدّي الى مهاجع أكثر رَذَالَة.

إنَّ الملمس الزَّمنيّ للمحيط، يستكمل عزلات تحيط بنفوسهم أكثر من أجسادهم. مواطنون تحت وطأة حاجة، يرتضون حياة كفاف، تقودهم في الفصل الختامي الى فورة غير متوقَّعة، حين ينظّمون "هجمة" ضدّ وكلاء الإدارة سعياً الى تصحيح أجورهم وتحسين ظروف "العمل بلا كَلَل". هنا، يٌعلن صاحب "ثلاث شقيقات" (2012)  انحيازه الى انتفاضتهم، موثَّقاً تفاصيل صراع غير متكافئ بين قوَّة احتكار خبيث مقابل قوَّة عمل لا تملك سوى إصرارها الريفيّ ووعيها الإجتماعيّ. نشهد بلقطة طويلة جلسات تخطيط الشبيبة مقابل تهديدات أزلام المالكين (إحداها يتعلق بفضح حمل سفّاح لصبية عاملة، ومحاولة إغواء والديها على إجهاضها لضمان عودتها الى وظيفتها)، التي في الغالب ما تؤدي الى حالات محن ذاتيَّة لا تُطاق، تدفع بعضهم الى خسارة العودة الى أهاليهم (وهي موضوع القسم الثاني من عمل بينغ)، كونهم يختارون ببساطة الانتحار سبيلاً لإنهاء شقائهم.

فرادة سينما بينغ تكمن في بساطتها الشديدة وأصالة دوافعها، بيد أنَّها تتطلّب مشاهداً مُتحمِلاً وجَلُوداً وفضولياً وعلى قدر وافر من التَفَكُّر والإيمان بالشرط الإنسانيَّ، فاهتماماته بالعلاقات الرابطة بين النَّاس العاديين ببعضهم، ومع أفراد أسرهم هي عصب مضيء في فلسفته السينمائيَّة، الأمر الذي يُفسر "تآمره" العنيد على  جعل حكاياته "تنمو خارج سيطرتي" كما يقول، "لأنَّني إن وضعتها ضمن خطَّة مسبقة، فسأكون قد سجنتها!".

سينماتك في ـ  15 سبتمبر 2023

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004