التونسية كوثر بن هنية مُغامِرة سينمائية، تثير الدهشة
ببسالاتها ولا مهادناتها وسَلاَطَة لسانها الإنتقادي.
نصوصّها لا تُراوغ نعرات أو خدش حياء إجتماعي أو تندر
على إنتكاسات عائلية. شخصياتها شديدة الواقعية، وقريبة
المعشر، تداوي جروحها بقناعات أكثرها ينتصر الى جماعية
حُكم، وقليلها يذهب نحو قرار شخصيّ وإن تحصّن بالرسميّ
والشرعيّ، مثلما أقدمت عليه بطلة باكورتها الروائية
"على كف عفريت"(بالإنكليزية "الجميلة والكلاب") في
إنتصارها الى شرفها ومقاضاة رجال أمن إغتصبوها في أحدى
ليالي العام 2012.
تُسبّق الشابة مريم "فتواها" الذاتية على بيروقراطية
رثّة وإنتهازية. طالبة تواجه مؤسسة أمنية شرسة بأزلام
جلفين، يستغلون سطوتهم لإرتكاب معاص إجتماعية. مريم
ضحية ضمير جماعيّ لن يستطيع أفراده إغفال جريمة مواقعة
بالإكراه، تُرتكب في مجتمع يخضع الى مرجعية دينية
تُحرم الإقدام عليها أوتسهيلها أو التتسر على جناتها،
وتضع عقوبات قاسية عليهم، بيد ان نصّ بن هنية لن يذهب
نحو فخ فقهي، فهو غير معني بأروقة محاكم ومحامين، كما
رأيناه في شريط الأميركي جوناثان كابلان
"المتهمة"(1988)، وعرضه تفاصيل إغتصاب ثلاثي تتعرض له
الشابة سارة(جودي فوستر) داخل مقصف ليلي من دون تدخل
رواده لإنقاذها، قبل أن نتابع ـ بحدّة سينمائية غير
معهودة هوليوودياً ـ محاولات محاميتها في جلب الوحوش
الى ساحة قصاص.
تتشارك مريم/ سارة في حقيقة جارحة، قائمة على ظنّ
قانوني يضع في الغالب ضحايا الإغتصاب تحت طائلة
الإشتباه والملامة: هل كان تصرفهما نظيفاً؟. أهما
محتشمتان؟. هل كانتا ثملتين؟. هل كانتا غاويتين
بحركاتهما وكلامهما ومكياجهما؟ وغيرها. أن الإرتياب،
هنا, هو مناورة حول قانونية "البيّنة من حد الزنا "
لتبرير العقاب. هذا بالضبط ما راوغت عليه بن هنية،
التي بدأت شّريطها بلقطة قريبة (كلوز أب) للطالبة
الشابة وهي تتبرج أمام مرآة على خلفية موسيقى ضاجة.
فمريم وصويحباتها يقضين ليلتهن في حفل جامعي. وبين رقص
ومناكفات شبابية، يقع إهتمامهاعلى زميلها يوسف (غانم
زرلي)، قبل ان يترافقا سيراً. لاحقا، نرى مريم راكضة،
بزيّ يكشف مفاتنها، صارخة بجنون صدمتها، وفارة نحو
أمان ضائع. نفهم سريعا، إنهما وقعا تحت رحمة رجال أمن
ظهروا فجأة، إغتصبوها ونكلوا بحبيبها العاثر وقايضوا
حريته بماله. لن تُكلّف صاحبة "شلاط تونس"(2013) رمي
تفاصيل الحادث على شاشتها، هاجسها إستكمال دورة إدانة
صارخة لمؤسسة لم تتخل عن وحشيتها وتجاوزاتها، رغم
التغيير السياسي اللاحق لـ"ثورة الياسمين"(2010 ـ
2011). قسّمت بن هنية فصول الليلة المشؤومة على 9
مفاصل، لا تحمل عناوين شارحة، صوّرها يوهان هولمسكويت
كل منها بإسلوب اللقطة الواحدة، مستخدماً كاميرة "ستدي
كام" محمولة، حققت كوروغرافيا ديناميكية لإجواء محمومة
ذات إيقاع بارد لحميّة إنتقام متبادل بين ضحية
ومغتصبها، مُشكّلة مرافعة سينمائية لجزع ثقيل
ومُستَذلّ يصيب روح الضحيتين ويخترق كيانهما.
يحرّض يوسف الضحية على تسجيل الإعتداء، مدفوعاً بإيمان
إحتجاجي. بيد ان خطواتهما تقودهما نحو متاهة وعداءات
تتعاظم مخاطرها، وتجعل منهما طريدتي فساد مؤسسات. أن
خطورة التهمة تدفع إداراتها الى إنكفاء مخزٍ، فضابطة
الشرطة الحامل توصمها بـ"عاهرة"، فيما تصر ممرضة
المستشفى، المهتمة أكثر بـ"مَنْ يسرق البن ويَخلّط
بيه!" على أوراق الثبوتية ، بينما يتهرب الطبيب الشرعي
بحجة إتباع لوائح رسمية للكشف الطبي عليها، وتأكيد
الإعتداء ومجرميه. تتعاظم الفضيحة لدى المشاهد بدرجات
أعنف مما هو منثور ضمن فصول بن هنية التي حددت،
بحصافة، "جغرافية" فيلمها القائمة على ثنائية ذات
توازن دقيق وهشّ بين داخل خصاميّ وعدوانيّ(مشفى ومركز
شرطة)، وخارج ليلي غير مكترث. الإزدراء واللامبالاة
اللذان يتراكمان حول كينونة مهزومة سلفاً، يوكدان مبدأ
"تطبيع الشر" بإعتباره "إملاءً مؤسساتياً مفروغاً منه
أكثر منه قضية إغتصاب. ما يبرر إرتكابه على يد أعوان
شرطة، أو مَنْ يجسدون احتكار العنف الرمزي، وتتم
حمايتهم لاحقا من قبل موظفي الخدمة المدنية"، كما تقول
بن هنية. عليه، فان التكتيك الذي يستخدمه رجل أمن مع
مريم في المشهد الختامي، والقائم على محاولة إستمالتها
وإسقاط مظلمتها، بقوله ان "البلاد تعيش على كف عفريت
وأنت تحب تشكي"، هو إبتزاز لا يستطيع إخفاء خبثه،
و"يقوم على معادلة تأليب الأمن ضد الحرية، كأن جمعهما
معا عمل مستحيل"، على حد تعبير بن هنية.
لا يخضع "على كف عفريت" لحسابات توليف حكائي تقليدي.
فرغم إستناده على نصّ وثائقي، نشرته الضحية الحقيقية
مريم بن محمد في كتاب صدر بباريس، فقد ذهب نحو تحرّر
زمني، متوسلاً ألعابه السحرية، ويخضع فيه مشاهده الى
"سَطْو حسّي" متفطّن قائم على "مسرحة أحداث" لن تصل
الى خواتيم حاسمة، ولا تمهد الى ما يلحقها، ما عدا
مقطع نهائي ينقلب فيه شرطي ذو ضمير على زملائه، رافضاً
إعتقال الفتاة إلا بقرار نيابي، ومطلقاَ سراحها نحو
شمس صباح نورانيّ، تقودها نحو نخوة متجدّدة للمضي
بقضيتها ضد سارقيّ طهارتها. ما لا يُحسب في جهد مخرجة
"زينب تكره الثلج"(2016) هو خلل الإداء وإدارته
وتنافره، نظراً لتنميط غير مبرر، خصوصا في ما يتعلق
بشخصيات رجال الأمن. أما مريم الفرجاني، فأدت شخصية
مريم بنبرة درامية ذات بعد واحد، كررت فيها حركات
بعينها، لا تعكس حجم صولة مُغتَصَبة.