في قلب باريس وعند ضفة نهر السين، يرسو فُلك متوسط
الحجم يحمل اسم "الأدمَن". يرتاده بشر هامشيّون أقرب
الى مشرَّدي العاصمة الفرنسية، وهؤلاء ظاهرة اجتماعية
في ازدياد. نراهم على متنها وهم في ألفة غير معهودة.
يتبادلون الكلام والنكات والجدل. يتعرفون على محنهم
وتواريخ عائلاتهم. يكشفون عن مواهبهم وقدراتهم.
يناقشون الكثير من الآراء حول عزلاتهم والقليل حول
السياسة التي تستهدف مركبهم!.
إنَّه مرفق فريد للعلاج النفسي يزاوج التّفاعل الشّخصي
لرواده مع تثوير قدراتهم على الإبداع والقيادة
والانخراط في تحمّل المسؤوليَّات والمبادرة وتلبية
احتياجات ممن حوَّلهم. إنها مساحة من حرّية مطلقة
بعيداً عن أحكام الآخرين المتزمّتة بشأن قصورهم
الذهنيّ أو إنتكاسات قدراتهم الفردية أو وساوسهم
أوانطواءاتهم أو بلادة أحاسيسهم. مملكة عائمة تفتح
أبوابها للكُلّ ومن جميع الأعراق والأجناس والطوائف
والأعمار، بما يُناقض ذلك التَّشظي الاجتماعيّ
والطّبقيّ الذي يتعمَّق بين قاطني المدينة الكبيرة
وأصنافهم.
يُقدّم الفرنسي نيكولا فيليبير في شريطه الحادي عشر
"على متن الأدمَن" (109 د)، الحائز على جائزة "الدّب
الذَّهب" في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير 2023)
لمهرجان برلين السينمائي، الموقع المُحاط ببنايات فخمة
وإطلالة نهريَّة ساحرة وطقس مثاليّ وعزلة نسبيَّة،
كفردوس مديني لا تحرسه قوات خاصة أو أسيجة أو موانع.
إنَّه رحم إداريّ ينشد نخوة روَّاده ودفئهم الإنساني.
يعايشهم فيليبير مصوَّراً بنفسه ولاحقا ممنتجاً فصول
فيلمه، يومياتهم بمشهديات كاميرا ثابتة وموثِّقة
لكفاءاتهم الذَّاتية في تنظيم شؤون مركزهم خصوصا ما
يتعلَّق بموارده الماليّة الضامنة لديمومة نشاطه
وفعالياته، بعد أن عمدت الحكومة الى تقليص معونتها
السنويّة، نتيجة سياسات تقشّف غادرة، طالت أوجه
النّشاط الحياتيّ في البلاد، ومثلها جلساتهم
الجماعيَّة في طهي طعام وسماع موسيقى وتأليفها وإنجاز
لوحات تشكيليَّة تكشف عن مواهب لافتة وتنظيم حلقات
رقص، وفوق هذا كُلّه تلك المبادرة الملهمة في تأسيس
ناد لعروض السينما يقدم ويناقش فيها المجتمعون تحفاً
لفريدريكو فيلليني وودي ألن وفرانسوا ترفو وعباس
كياروستامي من بين أخرين.
في مجمله، يصبح فيلم فيليبير (نانسي،1951) متناً
سيوسيولوجياً بفيوض نورانيّة وبدقَّة تفاصيل تحتفي
بإيجابيَّة بشره، متحاشياً أن يكون بياناً مسيَّساً
يندّد ويقاضي ويدين، وهنا فرادته التي تجعله قريبا
جداً من اشتغالات الأميركي المقيم في فرنسا فردريك
وايزمَن، ويتقاطع في نبرته التراكميّة والتفرسيَّة مع
شريط الألمانية ماريا سبيث "السيد باخمان وقسمه
الدراسيّ" (جائزة لجنة تحكيم الـ"برلينالة"، 2021). مع
الأول، يتشابهان في تقنيَّة المراقبة وتسجيل الحدث من
دون التعليق عليه أو إجراء حوارات مباشرة. يعمد صاحب
"صوت سيّدهم" (1978) الى "الاستماع" الى آراء
شخصيَّاته، ناقلاً الى مشاهده وبطريقة صريحة أقوال
تنمُّ عن حصافات فرديَّة، تثبت أن المتحدّث ليس معاقاً
بل ضحيَّة ظروف قاسية تدفعه الى اضطراب عقليّ، يحتاج
الى المداراة وليس الإقصاء.
يتجلّى هذا اللا إقصاء بقوّة دراميَّة لا مثيل لها في
تحفة وايزمَن "الرعاية الاجتماعيَّة" (1975) حيث نكون
شهوداً على مرارات عائليَّة وشخصيَّة لمواطني نيويورك،
وهم يكافحون في تأمين نقود المعونة الحكوميَّة وتسيير
حيواتهم وشؤونها في مواجهات مريرة مع إدارات مكتبيَّة
تملك تعقيدات قانونيَّة وبيروقراطيَّة عميقة، بينما
يُشكّل أٌناس فيليبير حكومتهم المصغَّرة التي تكتفي
ذاتيّاً من موارد مقهاهم البسيط ومأكولات مطبخهم
الميدانيّ وبيع مقتنياتهم ومشغولاتهم.
أن مساحة المنشأة الطّافية تؤكد ببيّنَة حاسمة أنهم
قادرون على تنظيم شؤونهم ان وجد لهم مكان مناسب وقيادة
تتفهم قدراتهم. عليه، فإن شريط فيليبير لا يستدعي أهل
حكم أو جهات نافذة لمساءلتها حول مستقبل "كومونة
السين" هذه، وهي نقطة تتشارك مع عقيدة فيلم "السيد
بوخمان..." حيث يتمّ عن قصد استبعاد إدارة المدرسة
الألمانية واشتراطاتها، لنتابع طقوساً وتدابير
تعليميَّة على درجة عالية من الحرية والتكافل
والمسايرة. أنَّ تلاميذ بوخمان يمتلكون حقوقاً داخل
الفصل الدراسيّ أكثر بكثير من خارجه المحكوم بجملة لا
تنتهي من القوانين والزجر. مثلهم، يتعايش أفراد
"الأدمَن" مع بعضهم بمنفعة متبادلة حيث لا يمنع أيّ
فرد من التّعبير عن رأي أو القيام بفعاليَّة تدعم
أُنْسهم، ليكون من المدهش أن يبدأ فيليبير عمله برجل
خمسينيّ العمر يدعى فرانسوا وهو يشدو كلمات أغنية من
نوع الروك الفرنسي اشتهرت في عام 1970 عن "القنبلة
البشريَّة وزنادها الذي بالقرب من قلبك"، لاحقاً يعترف
أنَّ نشاطه اليوميّ لن يبدأ من دون منشطات، كما هو حال
والديه العجوزين!. بينما يصرُّ زميل له على سرد حكاية
لقائه ضمن عوالم غرائبية بصاحب "أجنحة الرَّغبة"
(1987) المخرج الألماني فيم فيندرز. في حين يعترف أخر
بوجوب تعاطيه المخدرات كي يضمن توازنه النَّفسي، فيما
تشكو سيدة وحدتها وتعلن حسرتها لأنَّها فقدت أصدقاءها
ومعارفها.
الحاسم في جميع فصول الشّريط أن هناك نزوعاً مقصوداً
الى إلغاء الفصل الملزم بين الرؤساء ومرضاهم، ما يجعل
المهمَّة صعبة أمام المشاهد للتّمييز بينهم، ذلك أنَّ
"ديموقراطية" التعامل اليوميّ تدفع بالجميع الى
التّآخي ورفع المنصبية وأوامرها. إنَّ الجميع يعمل من
أجل الكُلّ. وهو شعار يتجلّى بجدارة دراميّة في المقطع
الأخير حين يغادر المرضى القارب لمرة وحيدة،
ويتّوجّهون الى سوق خضار يجمعون فواكه، يتركها
التُّجار بعدما نال منها العطب، قبل أن يعودوا بغلة
وافرة لطبخها وإنتاج برطمانات مربّيات، وتسويقها ضمن
خطة مبتكرة تدعم المركز وصندوقه المالي. يقول أحدهم:
"قد تكون الفواكه تالفة من الخارج لكن داخلها لذيذ"،
وهي مواصفات لا تبتعد كثيراً عن كينوناتهم التي يحكم
الجميع بفظاظة على طلّاتهم وحركاتهم ومستواهم العقليّ
والنَّفسي، فيما تشعّ أرواحهم ودواخلهم بفيوض من نور
وحنو ومودات ومُلايَنَة ولا استسلام.
لا سياقات حكائيّة لدى فيليبير. سينماه عبارة عن تراكم
أفعال ولقاءات ونشاط دؤوب وتحوّلات جماعيَّة، وهي
عناصر متحرّكة وديناميكية وإرشادية عن دأب بشريّ لا
يلين، تارة يصوّر مجموعة ممرضات خلال فترة تدريب قاسية
(شّريط "في كل لحظة"، 2018)، وأخرى عن يوميَّات محطة
إذاعيّة ("دار الإذاعة"، 2013)، وثالثة عن مخرج يبحث
عن ممثل مناسب لحكاية جريمة ("العودة الى نورماندي"،
2007)، ورابعة عن معلم ذي شخصيَّة جذابة يدرّس لوحده
جميع المناهج في مدرسة ريفيَّة نائية ("أن تملك
وتحيا"، 2002). وبسبب ذلك، فإنَّ نصّ "على متن
الأدمَن" غير معنيّ بإعلام مشاهده بتاريخ تأسيس المركز
أو أسماء الجهات والمنظمات التي فكرت أو أستثمرت فيه،
بل ولن يناقش الفكرة المذهلة بإختيار مثل هذا الموقع
والقارب والمحيط المترف بجماله. يستكمل هذا الفيلم ما
بدأه المخرج الفرنسي في عمله السابق "من طبيعة
الأشياء" (1996) في مقايسة الأمراض وإعاقات أفرادها
وتأثيراتها على عائلاتهم، وتعاطي المجتمع مع عيوبهم
الخلقيَّة التي فُرضتها إرادة ربانيَّة عليهم، يقول
فيليبير في حديث صحفي بشأن اختياره لها: "إنَّه شيء
يحركني بعمق. يبدو عالم الطب النفسي وكأنه قريب منا
لكنه بعيد جداً. أومن أن المرضى هم أناس مثليّ ومثلك
تماماً. قبل أعوام، عندما أنجزت شريطاً عن الأشخاص
الذين يعانون من الصَّمم منذ ولادتهم، تملكني الشعور
كما لو أنَّني أصوّر أناساً يملكون نهجاً حسّياً
مختلفاً تماماً عن العالم. عندما يتعلق الأمر بالمرضى
النفسيّين، وما يخبروننا به، فإن طريقتهم في رؤية
العالم، والتي من الواضح أنها متنوّعة ومتشعّبة،
تذكّرنا كثيراً بأنفسنا، بعيوبنا وتصدعاتنا"(موقع
"سينيورب"24 فبراير 2023). |