يضع صاحب "مدبرة المنزل" (2016) بطله أمام مهمة فَكّ
ألغاز عدة دفعة واحدة. يحيك ثيماتها بسياقات شديدة
الكلاسيكية، تنأى بجديده هذا عن عنف وجنس ودمويّة كانت
عصباً تجارياًّ لسينماه: موقع جريمة غير مألوف لصخرة
تشرف على مدينة سيول: "ما الذي يدفع بالمرء أن يتسلق
صَفَاة مثل هذه؟"، يتساءل المحقق الشاب حاملاً زميله
على ظهره، وهما يرتقيان بحبل حافة جُلْمُود في مشهد هو
أقرب الى نكتة وجوديّة، من أجل تعيين نقطة تخفّي
القاتل ومغافلته ضحيته و"قذفها" نحو هُوَّة، ضمن مساحة
قمة لا تتجاوز أمتاراً قليلة!. تُزيد رقدة الميت
الأبديّة على أرض بريّة سوداء من غموض جريمة لن تُفلِت
ظنونها زوجة حسناء أجنبية وصموتة، لا تكف عن إظهار
ندوب غامضة على جسدها، كما لو أنها تعرضت الى تعذيب
ممنهج.
كما عليه واجب إستيضاح إرْبات كائن مجهول يعرف تحركات
ضحيته، ومثلها دروب المدينة الساحلية وزواريبها. تقوده
مطارداتهما الأكروباتيكية الى فزّورة أن كان القاتل
المُتَوَار والمناور الفذّ له علاقة ما بزمرة أو شخص
"إشترى" خدماته الإجرامية كي يُصفي مغدوراً. أن يدفعه
غِيلة من حافة سامقة نحو ميتة ممسرحة بأناقة حيث نرى
لقطة مكبرة تقف فيها ذبابة على قرنية عين ميت وهي
مفتوحة برعب هيتشكوكي، لا يُخطىء إستعارته من نظيرتها
التي تختتم مشهد الحمام الشهير في "سايكو" (1960).
كذلك عليه، وبجهود كاريكاتورية من مساعد أحمق، أن
"يُشفَّر" الدليل الوحيد على مراوغة القاتل عبر إختراق
"داتا" هاتفه النقال المتداخلة بدراية وخبث، تجعل
المواقيت وأمكنة الأرسال والإتصال وأرقامها تستعصي
الرصد. تتخذ حكاية الهواتف مقطعاً سحريّاً في متن
"قرار للإنفصال"، كونها تورية على ترابط صوتي غنيّ
التفاصيل، يجمع شخصيتين على خط واحد من حواريات
متبادلة، تكشف عن الإيقاع الرومانسي لكل منهما.
ذلك أن المُخبر الشاب المتماهي إعجاباً بقرينه،
المعروف بإستقامته المهنية، في نصوص الروائي السويدي
مارتن بِك، يجد نفسه مخلوباً بسحر سيدة "تحمل قلباً
ناصعاً"، وذائباً أمام إعترافاتها "عن الأوقات التي
أقضيها أمام منزلك كل ليلة، وأنا أفكر بك". فيما تصبح
المهاتفات بالنسبة للمرأة إعلانات متجزأة لخسارتها
الشخصيّة، وإشارات لا يدركها شاب منشغل الى حد الهوس
بوضع قطرات طبية سعياً لتهدأ حُرْقَة عيون أرقه
المزمن، الى إقتراب قدرها من نهايته المتعجّلة.
تشان ـ ووك (1963) صانع مرئيات تخطف مهجة مشاهدها و لن
تُمحى من ذاكرته. يحتفي في هذا العمل الماهر بمصاهرة
ذات صنعة إنقلابيّة بين تشويق محكم الصنع ورومانسية
صافيّة وميلودراما شفيفة، تُضفي طعماً منظوريّاً
هجيناً بألوان غير مسبوقة على نوع سينمائي تفترض صوره
ومشهدياته عوالم من ظلال وظلمة وإحتباس أمكنة وشخصيات
حائرة.
نشاهد، في بداية الشريط، تلك الألوان بقتامة مدروسة
لحالتي حصار يعانيان منها (دائما هناك مشاهد جبال
كالحة)، قبل أن تتفتح على سماوات مضيئة وباهرة عند
حافة محيط فاتن، وهما يتبادلان ملامات على موت علاقة
وداد كادت أن تتمخض عن حب جارف. يقول لها بوجع يثبت
تعاسته: "هل أنا شخص عاجز أمام الإغواء؟ هل أنا شخص
ملعون الى هذا الحد؟". مثل هذا الإعتراف، يكاد أن يكون
مستحيلاً وروده على لسان أيّ بطل هوليوودي من أيّ
"فيلم نوار" أميركي.
يتنازل هاي ـ جوون عن رجولته وأنفته كمسؤول وشرطي،
ويُقدم وجهاً إنسانيّاً غير معهود لشخص يعاني من
كبواته وتصاغره أمام هيامه. أما هي فترفع في وجهه
عنواناً مخاتلاً يقول أن مَنْ يزداد علماً يزداد
حزناً، ليصبح إنموذجاً صادماً لرجولة عرفت الكثير، ولو
متأخراً، عن تخلفها في تحقيق "لا إفتراقها"، ليعم
الأسى روحها، قبل أن تنال فاجعة إنتحار المرأة الصينية
لاحقا ما تبقى من مرادها بصبابات تستحق العناء، لكنها
لن تكتمل أسطورتها، ذلك أن "الحزن المطلق مستحيل،
مثلما هو الفرح المطلق"، كما كتب صاحب "الحرب والسلام"
الروسي الحكيم ليو تولستوي ذات مرّة. |