زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 74

A Tale of Love and Deiser

"حكاية حب ورغبة" للتونسية ليلى بوزيد ... العشق شفاعات

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 
 
 

«سينماتك» في كان السينمائي الدولي

 
 
 

العشق شفاعة ونعمة، وللرغبة جبروت. مَنْ يقع في الغرام عليه أن يضبط شعائره الجنسية وفق ثنائية مُحرَّم غليظ وشياطينه، ومقابله من نشوة حُرّة بشبقيتها ولذاتها. هذه الثنائية، موضع خصام عقائدي وإجتماعي وأخلاقي وعُرفي أزليّ، بيد أن تلك الشعائر، في نهاية المطاف، قانون فطريّ وإنسانيّ لا مراء فيه أو راد له. هي في صلب أجسادنا وشهواتنا، ونزعاتنا الى البقاء ونثر خِلْفَتنا وتثبيت سلالاتنا وذُرّيَّاتنا.

وعت التونسية ليلى بوزيد هذه الثنائية بفطنة فوضعتها في عنوان شريطها الروائي الثاني "حكاية حب ورغبة"، الذي عُرض في ختام برنامج "أسبوع النقّاد"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي. لكل من طرفيها كيان إستعاري، ذكوري للأول وأنثوي للثاني. ما يقع بين الشابين أحمد (سامي عوطالبالي) وفرح (زبيدة بلحاج عمر) حب من أول نظرة، إلا إنه في سيرورته السينمائية، يتشكَّل كتصوَّر مفهوميّ الى قطف الهيام وصباباته. الأول، محكوم بحَيْرَة شخصية في ما يخصّ المحرّم والمذموم وحشمتهما، هو القاطن مع عائلته الجزائرية المهاجرة في أطراف باريس. هل قدره بلا ظفر، أم هو تقعيد مُلْزَم لسلوكه؟ . فيما تعيش الشابة الحيوية، كما هو أسمها، بوعي وحماسة لافتين ضمن حالات مسرَّات، هي الوافدة من تونس لدراسة الأدب العربي في جامعة السوربون المرموقة، وتعيش يومها بمفردها من دون حسيب. هل تصرفاتها خطأ أم خطر؟.

 تحاصر أحمد أعراف فضيلة، ورثها عن مجتمع لا يساوم بشأن حصانتها وتشدُّدها ضد العيب. شاب بطلّة ذكورية طاغية، غير انه يعاني من وحدته وجبنه وسرّه المخجل. فهو أسير جغرافية عرقيّة تلوذ بفقهها الإجتماعي الخاص والمعزول. لن تخشى بوزيد في وضع مقاربتها الشجاعة، وإن شابها نفس إستشراقي مهادن وإختزاليّ، حول هذه البؤر/ الغيتوات التي تنتج تزمَّتاً وعيشاً هامشياً وشخصيات عُنفية وفراغاً ثقافياً. تضع بطلها ضمن روتين عمل وضيع لنقل الأثاث، مع صحبة من حيه، لتمكنه من المقارنة بين شقق فارهة وماليكها الفرنسيين المتعالين، ونظيراتها في محيطه وجغرافيته وخليطه الأثني الغارق في مخاوفه وإنزوائه. هذه المقاطع السريعة والحركية، تبين معضلة أحمد الذاتية في مسايرة مناسك يومية، تشترط عِفَّة لسان وإحترام أصول ولياقة عامة والقليل من العزلة. تُرغم فتوة البطل الى ممارسته "الشائن" من أجل تفريغ حمولته الجنسية: إنه يستنمي أمام أشرطة بورنوغرافية، يتابع تأوهاتها على شاشة كمبيوتره المحمول. هذا فعل سرّي ناجع لعبوره الشُقَّة بين رجولته ومطالبها الطبيعية، والحجر الأخلاقي وتشدَّده. لاحقا، على هذا الشاب أن يجد شجاعته في إجتياز إختبار عاطفي حاسم، حين تتقاطع عيناه مع حُسن الشابة فرح، وهما يتهيأن الى أول محاضراتهما في الجامعة الباريسية.

*****

تعاود بوزيد تأهيل بطلها برَّويَّة دراميّة، وضمن بناء بصريّ مُشعّ، قائم في عموم الفيلم على خيار اللقطة المتوسطة، متجاوزة تنميطه كـ"ضحية أجواء"، وتُنصبه بدلاً من ذلك كقيمة إعتباريّة مخترقة، تأخذ بتديَّن لكنها لا تتحدث لغته، تؤمن بكهنوت من دون أن تعرف نواصيه، تقتدي بسلف مستحكم بالشؤون غير إنها تعيش يوميات تفرض عليها إنفتاحاً وبرغماتية. ظهور فرح في حياته هو كسر لسطوة متستَّرة ثنائية الأبعاد. الأولى، مكانية حين تطلب منه "الحبيبة" تعريفها على المدينة، وتكشف للمشاهد عار شاب لم يسبق له إختراق عاصمته، ولن يجد سوى محرك غوغل كي يحدد له مساراته السياحية، بمعنى أخر ان "أوروبيته" ذات إفتراء. شخص يعيش في بلد متمدن، ولا يستطيع تحقيق إندماجه بشكل طبيعي ومتوازن. الثانية، عُرْفه الشخصي الذي يهتزَّ بعنف مع "عجالات" فرح في قطف ثمار حريتها وحبّها للحياة, ففي زمن القبلة الأولى، يقول لها بجزع: "ليس علينا التسرع"، فتردّ بثقة: "إذا كان الأمر جديداً عليك، فلنأخذ وقتاً إضافياً"، أي أن تردُّد غريزته ليس علته بل ولاءه الى طهارة مراهقته المتأخرة، ووجله الداخلي من القيام بفعل خادش، يقوده الى كفر عائلي.

 
 
 
 

*****

أحمد، سليل هجرة عقائديّة أكثر منها تَوَطَّن. ينتمي الى عصبة فرنسيين شمال أفريقيين، يؤمنون بـ"سُّنتَّهم" قبل مواطنتهم. مسلمون يرتفعون قليلاً فوق أرض "الكَاوري"، وهي التسمية الشعبية للفرنسي المستعمِر, سعياُ للحفاظ على عصمة ونقاوة. هذه الأخيرة متوافرة بوفرة في الديكورات الداخلية لشقة أهله، أو الأخرى التي يقطن فيها أقاربه حيث قامت المصممة الفنية ليا فيليبون بحشد عناصر رفاهية، قرَّبت الأماكن من رمزية مضايف ومزارات، كما ظهرت في مشاهد إستقبال فرح من قبل أهل الحبيب. هنا، وضعت بوزيد العائلة حول مائدة عشاء بإضاءة رأسية، جعلت من الجلسة ذات طابع أرستقراطي، محاطة بألوان حمراء غامقة وزوايا منارة بمصابيح جانبية. هذا المشهد أساسي، لإنه الوحيد الذي يقود المشاهد الى علة أحمد في ما يخصَّ موضوع هويته وإنتمائه. أما الخارج المديني المصوّر بلقطات عامة واسعة، فيجعل من الشاب ضئيلاً أمام حاجاته الى تواصل ما، ولعل مشاهد جلساته مع فرح فوق سطوح البناية، وهما يطلان على باريس، أو السير عند ضفة نهر السين، أو عبوره أمام البنايات الشاهقة للمجمعات السكنية، أو وقوفه الحيادي مع شبابها، هي في مجملها إشعارات بصريّة على حاجته الى تصالح مع المكان وبشره، كونه جزءاً من كثرتها وتنوَّعها الباهرين.

فكما إن ديكور الشقة ملّتبس بين لا شرقيته أو أوربيته الباهتة، يقع الشاب في ورطة فهمه القاصر، حين يسمع والده يُنظر بالسياسة وبورقيبة وتونس. تمتد هذه الظِنَّة لاحقا الى مكتب والده، حين ينشد أحمد مساعدته في ترجمة قصيدة حب عذري عربية أهدتها له فرح، إنغلقت عليه قراءتها بسبب عدم معرفته اللغة، ليكتشف المشاهد الفطن إن حوار الإثنين هو محاججة متأخرة بين جيل هرب من هوية حرب (الوالدان هاجرا خلال العشرية السوداء في الجزائر)، وجيل أحدث يُشكك بهوية مكتسبة وناقصة المرجعية والتجانس، وهي مشاعر متناقضة ومتفاقمة، تُحاصر أحمد وتخترق قناعاته ومقاومته الداخلية، ما يفسر تعقَّد شخصيته وإرتباكها وتعدَّد معضلاتها، ومنها "تضارب فهمه بخصوص الحدود بين الحب النقيّ واللذَّة (وهي قضية منتشرة لكنها مشوهة في الضواحي الفرنسية)، أو تسامي الحب، أو الخوف من عدم معرفة قوانينه، أو عدم وجود شخصية رفيعة للتوجيه والإرشاد"، كما تقول صاحبة "على حلة عيني" (2015) الذي كانت بطلته، وتحمل الأسم ذاته فرح، أكثر جسارة وأوضح همّة في الدفاع عن هويتها وإستقلاليتها الذاتية. ربما لإن السياق السياسي أعقد ومباشر بحدة في تفاصيل عنادها ضد السلطات وقمعها، فيما ينعدم تقريبا في حكاية أحمد. أنه كائن يتعرض الى يد قاسية مخفّية، تجعل من صرامته بلا تعاطف ومهزومة وملفقة (كما في مشهد تعنته مع شقيقته ليلى أمام زملائها بأسم "الحشومة" أو العار).

*****

في غالبية المقاطع الأولى من الـ103 دقائق طول الشريط، لن يقول الشاب كثيراً، كونه ينتظر خطوة أولى تفّجر فحولته بشكل طبيعي وليس أمام أشرطة بورنو. يُفتتح فيلم بوزيد مع جسده، وهو يستحم في ساعات الفجر الباكرة، قبل توجهه الى السوربون. بعد دقائق خمس تقع عيناه على فرح في قاعة الدراسة. حين تبدأ بقراءة أسماء القضيب الذكري التي أوردها التونسي أبو عبد الله محمد النفزاوي في القسم الثامن من كتابه "الروض العاطر في نزهة الخاطر" (1410 ـ 1434)، تُستنفر الهشاشة في كيانه، ليشكك في إنتماء ما يسمع الى الأدب، وهو ما يصبح علنياً لاحقا تجاه حكاية قيس وليلى التي تستعير بوزيد صفة جنون الأول عنواناً لعملها هذا. هذا المؤلف الإيروتيكي (أو "الباءة") الذائع الصّيت هو حجَّة دراميّة، تقود الأثنين الى تأثيث فراش المتعة في مشهد ختامي، يقاربه مدير التصوير سبيستيان غوبفير كحلم وإنتصار وتحرّر، تتجلًّى عبر إبتسامة رضى واهية، تشعّ على محيا أحمد إعلاناً عن قدرته في "إحتضان الحب بالكامل". ان مجنون فرح (وهوعنوان الشريط بالعربية) يتجاوز شكوكه وتخاذله، بمساعدة روح أدبيّة بحته وفوّرة كلماتها، هي خليط من أشعار وأقوال أقدمين، يستخدمها بثقّة للتعبير عن إنقلاب كينونته في مشهد الإمتحان الجامعي. فيلم "حكاية حب ورغبة" بلا قوّة خارجية تحرك أحداثه، إنما مخاضات ذاتية ذكوريّة، تسهل ولاداتها حقائق الهوى وشفاعاته.

سينماتك في ـ  02 نوفمبر 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004