زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان برلين السينمائي الدولي الـ 71

Bad Luck Banging or Loony Porn

"البرلينالة 71" ـ جائزة الدبّ الذهب

"مضاجعة منحوسة أو بورنو مَسعُور" للروماني رادو جوده... الهجاء المذهل للنِكَايات

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 
 
 
 
 
«سينماتك» في برلين السينمائي
 
 
 

الله لن ينجد السيدة الأربعينية إيمي من محنتها. يسوعها لن يكون متاحاً كي ينتزعها من براثن خزي جماعيّ، يحاصرها بعد أن عُمَّمت اللقطات المحرجة لمضاجعتها زوجها، وهي ترتدي قناعاً لم يفلح في تخفّيها، على وسائط التواصل ومنصاتها، وشاهدها الجميع، شاعلة بينهم نيران النكايات.

****

 يضع الروماني رادو جوده (1977)، أحد أكثر مخرجي أوروبا أصالة وسجالية، تلك اللقطات المَنكودة والمشتعلة بالشبق ولهاثه، وكلمات الفحش التي يتبادلها الشريكان، وصولاً الى أقصى درجات شهوتهما، في مفتتح شريطه "مضاجعة منحوسة أو بورنو مَسعُور"، الفائز بجائزة الدبّ الذهب للدورة 71 لمهرجان برلين السينمائي التي نُظمت عبر موقعه الألكتروني (أونلاين)، لتوكيد عنوانه المستتر كـ"نصّ شعبيّ" تغريبيّ بإمتياز، يمتحن فهماً متباسطاً لفعل بشريّ مقدس، نمارسه كحاجة جسدية، ووصيّة ربانيّة لتجديد سلالاتنا حتى يوم النشور. لا عيب فيه أو سوءة أو قبح أو إستهجان. بيد أن تدخل الأعراف والتشريعات والقوانين والفرائض،  قادت الى تفسيرات مشحونة بطيش وجهالة وتهويل ورجم وكيدية وهوموفوبيا، يفّجرها هذا الفيلم الديناميكي والإشكالي في مقطعه الثالث والأخير، حين يجمع طيفاً إجتماعيّاً وطبقيّاً وسلطويّاً متنوّعاً، يناقش فيه الحاضرون معنى المواقعة الجنسية، ومثلها التَنْجِية الجماعيّة التي تفصل بين كونها عملاً إباحيّاً، عندما يُتاح عرضها على العامّة، أو أن تكون شأناً خصوصيّاً بين كائنين مسَّهما الوجد، حين تجري في الخفاء.

تتواجد هذه المجموعة من موظفي مدرسة تعمل بها البطلة إيمي كمعلمة، إضافة الى ضيوفهم، كتورية عن خارج مهووس بالتعليمات وصياغتها وفرضها، يشكلون إفتاء هجيناً وتهريجياً، لم يكن متوافراً في حقبة توتاليتارية مرّت بها رومانيا لفترة طويلة، قبل أن تقرع "ديمقراطية جورج سورس وبيل غيتس" أبواب مجتمع ريفي، ظل غارقاً بفقره وأميته، وتقوده رغماً عنه نحو إستهلاكية فوّارة، لا تتطابق مع عقلية أرثوذكسية، ترى في البذخ خطيئة، وفي الرفاهية قلّة إحتشام.

****

لكي يفهم متفرج مخرج "أُمّة ميتة" (2017) و"لا أكترث ان دخلنا التاريخ بإعتبارنا برابرة" (2018) دوافعه في إفتتاح نصّه بكاميرة هاتف جوال، تصور جِمَاعاً في غرفة ضيَّقة وفوضويّة، عليه أن يهدم جدرانها المزينة بكُلّ عدّة الإستعراض، ومرافقة إيمي في جيلان ماراثوني في شوارع بوخارست، الذي يُغطي زمن فقرة أولى تحمل عنواناً متداخلاً بين وجهتها الذاتية، وصفة مدينة غارقة بالهُجْنَة هو "طريق أحادي الإتجاه"، ينفذها مدير التصوير ماريوش باندورو عبر سيل معتبر من مشاهد توثيقيّة لمظاهر إختراق عارم، وذوق زبائني شائن، وفوضى مكانية، وتفاوت إجتماعي عبثي، و"نظام نيوليبرالي لا يملك تضامناً إجتماعيّاً على الإطلاق، ولا حماية إجتماعيّة، ولا توجد إستثمارات في التعليم أو الإهتمام به" حسب جوده (تصريح لـ"سكرين إنترناشونال" البريطانية السينمائية المتخصصة، 5 مارس 2021).

تسير إيمي (كاتيا باسكاريو) مرتدية كمامتها إحترازاً من "جائحة كوفيد"، ككائن بشري مخترق. نعرف أزمتها من مكالمات سريعة حول فضيحتها، والقرار المرتقب لفصلها من وظيفتها. تتحاشى المارة، وتعترض المتجاوزين، وتشهد على التكلفة الأخلاقيّة للتغيير بين مواطنيها، وسوء طباعهم وإنهيار حشمتهم. بين هذه الموتيفات القصيرة والتهكميّة، يصوّر جوده/باندورو مدينة ومناخاً سياسياً يُسارعان في اللحاق بأوروبا أخرى عبر تعمير وحشيّ، نرى مكائنه وعماله وفوضاه في كل مكان، إضافة الى مظاهر سوق وافدة، من مكاتب تبديل عملات ومطاعم كباب وشاورما وطعام أسيوي، وإعلانات تجميل ولياقات بدنية ووظائف عسكرية غامضة، ومثلها علامات تجارية عالميّة مغرية، ترتفع فوق هامات بشر مهمومين وعدائيين وبلا تهذيب. نرى كنائس أثرية وبقايا بنايات تعود الى عهود إمبراطوريات دارِسة وأطلال أحياء كانت راقية، تحاصرها عمارات حداثية، ومدنية مُولّدة بتلوثها وقمامتها وضوضائها، وأمزجة عصابية لبشرها اللاأباليين.

****

تتكدَّس هذه الشارات بقسوة بصريّة، وتحاصر مشاهدها بغيض إستفزازيّ: لماذا يتجاهل هؤلاء الناس فرصة توزيع رغدهم فيما بينهم؟. أليس هذا الإنقلاب الفريد الذي فك عبوديتهم من كتلة شرقية خاسرة، يستحق قطيعة مع ماضيهم وأعرافه؟. يكمن الجواب على هذين السؤالين في المقطع الثاني والمعنون بـ "قاموس صغير حول علامات النوادر والعجب"، وهو أقرب الى جريدة سينمائية إستثنائية، يستمدَّ شرعيته من سينما المعلّم السوفياتي دزيغا فيرتوف المونتاجية الإستقصائيّة، حيث يتحوَّل تراكم الصور والمقاطع المصوّرة من جميع الأنواع ومختلف سرع العرض الى مانفيستو أيديولوجيّ وتحريضيّ ضد الفهم الميكانيكيّ للتاريخ وإنقلاباته. عين فيرتوف هي مفتاح هذا المقطع المكون من 26 عنواناً، والمحتشد بالتفاصيل والوجوه والدّم والجرائم والخوف الأعمى والعرقيّة وتصفية السكان الأصليين والعسكرة والعنف ضد الأطفال والتغيير المناخي.

 
 
 
 
 
 
 

يوّثق رادو جوده ومصمم مونتاج شريطه كاتلاين كريستويو تواطؤات الجيش الروماني مع النازية ضد ستالين، وقبلها مجازر ثورة 1848 وقمع ثورة 1907، وإستهداف الأقليات، وقتل منتفضي ثورة العام 1989، وإعدام تشاوتشيسكو. يستعرض الإثنان مقاطع عن مستثمر بريطاني يذلّ عماله الرومانيين، وينعتهم بـ"يا حيوانات، يا فلاحين!"، فيما المترجمة تقول كلاماً أخر تماماً، عن هجوم مرتزقة "البلاكووترز" على مدنيين بغداديين، عن عسكري محلي يُحمّل حكومته ذنب "السماح للعربي القذر إستعبادنا بديكتاتورية الوباء، وحقن الخوف في إنسان الحاضر!"، عن التمذهب الكاسح والشعبوية الدموية وسلعة البورنوغرافيا الحداثية. هذه وغيرها الكثير، تُصاغ مع إقتباسات قصيرة وسريعة من برتولد بريخت وفرجينيا وولف وإمبرتو إيكو وميلان كونديرا وبيير بورديو وسارتر وتودوروف وأندريه مالرو، وأيضا من الناقد السينمائي والمؤرخ الألماني سيغفريد كاراكور وعشرات غيرهم.

لن يبتَّ المخرج  رادو جوده، الحائز على جائزة الدبّ الفضي لأفضل مخرج عن فيلمه "إفرايم" (برليناله 2015)، بخلاصة نهائية لهذا "القاموس البصريّ" ومذمَّاته السياسية، لإن تفسيره يدمَّر طينته الإيديولوجيّة الخلّاقة، ويحيل تقابلاته الرمزية من مختلف المراحل الى فيوض صوريّة بلا معنى، أو على الأقل أقل تورطاً بهذا التدفُّق من العسف واللا رحمة وبؤس البشر، حيث صور القتل مقبولة ولكن صور العري تعتبر منقصة للفضيلة.

الحاسم، إن هذا المقطع الطويل، الذي يحتاج الى صبر وعين حاذقة، هو تهيُّؤ سينمائي مركب، يقود المشاهد الفطن الى حقيقة إننا "نعيد" إختبار خطايانا، من دون عزم على عدم إقترافها ثانية. ترى مَنْ الغافل عنا؟ خالقنا، دولتنا، أحزابنا، طوائفنا، أم مؤسساتنا ومحاكمنا وجيوشنا وبرلماناتنا، أم هو حقا جارنا وزميل العمل ومثقفنا وأحبتنا، وذلك الذي يشاركنا السرير والإشتهاء والصبابات الجسدية الذي نسميه زوجاً أو زوجة؟. لا وجه واحد للإتهام بل صنوفاً كثيرة من الظنّ الذي يقودنا الى تاريخ شديد السُخْمَة. هذه الأخيرة، هي صبغة كل كلمة تقال في الإجتماع المسرحيّ الذي تعقده إدارة المدرسة في باحتها، بسبب قوانين التباعد الإجتماعي، لمحاكمة إيمي التي تصل في نهاية المطاف الى "وجهتها الوحيدة". تعقَّم يديها، وتؤخذ درجة حرارتها كمواطنة عادية في المقطع الثالث، بيد إنها تُحاصر سريعا، وهي في مقعد المذنب، بـ"رذيلتها". اللافت إن صاحب "أسعد فتاة في العالم" (2009) يجعل من المشهد التجهيزيّ الشعبي الروح مشرقاً أكثر مما ينبغي، بوفرة أضواء وألوان وملابس صارخة لممثلين يؤدون أدوارهم بروح الـ"كوميديا دي لارتيه"، حيث يصبح أشرارهم تجسيداً لقسوة أخلاقيّة مصنوعة من "تَنْجِية" ذكوريّة خالصة، لكنها لا تخلو من دعابات وضجيج.

****

تواجه إيمي إستحقاقاً وجودياً صرفاً، ليس كمعلمة بل إنسانة وزوجة ترى إنها لم ترتكب خطأ في مضاجعة بعلها، موكدة على إن "حياتي الشخصيّة مُلكي". لن تصمد هذه الحُجَّة أمام تهمة "الفعل المخلّ بالحياء" التي تصرخ بها زميلتها، ما دام إن شريط المضاجعة المنحوسة تسرَّب، وما جرى فيه هو بورنو مسعور وحماسيّ. يعتبر أحد الأباء، وهو كابتن في خطوط طيران محلية، إن مشاهده "مضَّرة وهدّامة" للتلاميذ وطهاراتهم.

يتحدث الجميع من خلف كمامات واقية، وكأن بها تُرغمهم على الجلوس وعدم الإقتراب من بعضهم، طوال فترة مناوشات تشي بحيوانيّة مكتومة، وتصرّ على إغفال الفرق الواهي بين فحش وحقّ جنسي، بين إبتذال وخلاعاته وجماع طبيعي وعواطفه. تتطلب تّجهيزية هذا الفصل سرعة بديهيّة بشأن ترتيب قناعات الشخصيات المتعدّدة، ذلك إن كتابة رادو جوده الممسرحة بإمتياز، لا تمدَّ المشاهد بحسم قاطع فيما يتعلق بهجائه وطريقة ترتيبه.

يرى معلمون إن جناية إيمي لا تتعلق بالخصوصية وإنما بالأخلاق، لكنهم لن يجرؤا على مناقشة جريمة التسريب ومَنْ ورائها أو وجوب مقاضاتهم وكيفيتها. حين تصرّ إيمي على إن "هذه ليست مضاجعة في صف مدرسي"، يعقب صوت زميلها: "العاهرة تتذاكى"، بل إن أخرى تُشكّك بالرجل الظاهر في الفيديو "ليس زوجها. أعرفه شخصياً. هو بدين"!. ما يجري قبل طرح فكرة التصويت على مستقبل إيمي المهني، إن التعليقات تتضارب الى حدود مجنونة وفاشية، تنطلق كالنيران بمبدأ السويَّة على شاكلة "لماذا يحقّ لك التعري على الشاطىء، بينما لا يحقّ لها أن تعرض عريها على الأنترنت!". وصفة التدليس: "لماذا تُعرض لنا في لقطات الأعراس صور العروسين يقبلان بعضهما وليس صور مضاجعتهما!"، لتنتهي بضجَّة سياسيّة حول اليهودية والأراضي المحتلة ونظرية المؤامرة والموساد وهتلر وقادته الذين"قتلوا أبناء دينهم لإيجاد عذر كي ينشأوا إسرائيل"، كما يصرخ القائد العسكري الروماني.

وكما إن المقطع الثاني لن ينتهي، تصبح خاتمة سجال محاكمة إيمي بلا أفق بشكل مقصود، يفاجئنا رادو جوده بإعلان، يكسر وهم جدار رابع، لثلاث نهايات. تعتبر الأولى والثانية إن "الفيلم مزحة" حيث يجري التصويت لصالح البطلة "الإباحيّة" مع معركة هزلية بينها وغريمتها التي إعتبرت إن "التصويت لصالحها ذكوريّ، لإنهم يأملون بمضاجعة حاميّة"، فيما تبت الثالثة ما هو محسوم: طرد "الفاجرة" للحفاظ على إعتبار أخلاقيّ منافق. ترى ما الصائب هنا؟. مَنْ الملام؟. تصرخ إيمي بقوّة، رفضاً للتسليم بالضغوط، ولعناً للحيف والإقصاء والتحيَّز، متلبَّسة شخصية "المرأة الخارقة" الكارتونية الأميركية (يلعن أحدهم: "ألم أقل لكم إنها يهودية"، تهكماً على أن غال غادوت مؤدية دورها في السلسلة الهوليوودية الجديدة هي ممثلة إسرائيلية!)، شاهرة لعبة بلاستيكية على شكل عضو ذكوريّ عظيم الحجم، تدسَّه في أفواه غُرَمائها باطليّ النوايا، مثلما أدت هذا الفعل بنفسها في المقطع الأول، تورية الى إن فحشهم أعظم مما إتهموها به. إنه موجود في كل شيء، وليس نكاياتهم سوى جذر متعفّن لزلّاتهم.

سينماتك في ـ  07 مارس 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004