هذا النصّ الباهر والخلاّق بصنعته وفضاءاته التشكيلية،
والمفعم بإستفزازّية مسيّسة لا ترحم بتحاملاتها على
مجتمع أوروبي غارق بفردانيته وأنانيته ونفاق أفراده،
يقارب طبائع بشرية وسلوكيات عامة وقيماً أخلاقية
بإعتبارها معايير تُشكل خرائط طريق لكينونات حضارية
تتعايش، على حد عال من التعقيد، ضمن فضائل عائلية
وتعاضد جماعي وإحتكام الى مؤسسات مدنية عميقة، بيد
أنها ترتكب حماقاتها بصورة غير متوقعة ومخجلة. وبدلاً
من الذهاب الى حكاية متباسطة حول السطوة، أختار
أستلوند مضماراً ضميرياً ونخبوياً يدور ضمن عوالم الفن
وغاليرهاته وعروضه ورموزه المتباهية ببرجوازيتها
ونفوذها، ليشّهدنا على خراب مستتر وحروب مضمرة وعداءات
متجبّرة وتشكيك لاأخلاقي.
ما هو "المربع"؟، أنه المساحة البديلة ضد الفوضى
والخروج عن القانون وتسيّد اللامبالاة والفصل
المجتمعي. وهو حسب فكرة أستلوند الأصلية التي أشاد
عليها معرضه التجهيزي (بمشاركة كاله بومان) عام 2015
"ملاذ الثقة والرعاية حيث نتقاسم فيه جميعا حقوقاً
وواجبات متساوية"، عليه يتحول المربع، إياً كان وفي أي
مكان (ساحة، قاعة، غرفة، مجمع تسوق، حديقة، عربة ترام
...وغيرها) الى موقع إحتكام تُستجوب وتُمتحن، ضمنها
وفيها، كل من الجدارة الجماعية والثقة و"الحاجة الى
القيم الإجتماعية ونشر المسؤولية"، وهي عناصر شعّت في
شريطيه السابقين "لعب"(2011) و"قوة قاهرة"(2014)، إلا
إن أُستلوند ذهب الى أقصى المغامرة السينمائية ساعياً
حسب كلماته الى "تقديم فيلم متأنق عبر وسائط بصرية
وبلاغية لإثارة المشاهدين وترفيههم. من الناحية
الموضوعية، يتحرك الفيلم بين مواضيع مثل المسؤولية
والثقة، الأغنياء والفقراء، والسلطة والعجز، وتزايد
المعتقدات الإيمانية لدى الأفراد فيما نشهد إنحدارها
في المقابل ضمن الأعراف الإجتماعية. ومثلها غياب الثقة
في الدولة، وفي وسائل الإعلام والفن".
هكذا، يتحول مدير متحف الفن المعاصر الشاب كريستيان
الى نبيّ أوروبي مهزوم داخل خطوط "مربعه"، حينما يُسرق
هاتفه الجوال، ويظنّ بيافع مهاجر، ويتهمه بالوقوف خلف
"مصيبته ومهانته الشخصية". ان الدوافع المبررّة في مثل
هذه الحالة لا تأخذ حسب أستلوند مسارها العقلاني
(شرطة، قانون، محكمة) بل تغرق مباشرة بما هو عنصري
وعدائي وإنتقامي ولا إنساني. ان أعمدة "المربع" لم تعد
حامية للأعراف العامة التي نشهد لاحقا تهافتها في واحد
من أكثر المشاهد الشريط إبتكاراً، حينما يخترق ممثل
مسرحي يتلبّس طلّة"رجل/ غوريلا" حفلاً رسمياً، مزلزلاً
من دون هوادة تطامناً عاماً وإدعاء طبقياً لمجموعة
تعتبر نفسها خارج "مربع" السخرية من أعرافها أو تهديد
تماسكها الهشّ.
شّريط "المربع"، الحائزة عن جدارة على جائزة "السعفة
الذهب"في الدورة الـ 70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017)
لمهرجان "كانّ" السينمائيّ، في بنائه الدرامي، هو
مجموعة من إسكتشات فنية تجهيزية جارحة بسخريتها،
وصادمة بوقاحة غضبها الإيديولوجي، التي جعلت من
أُستلوند وهو إصل مهنيته فنان تجهيزي ومخرج سينمائي
ولد عام 1974، ودرس التصميم الجرافيكي قبل الإلتحاق
بجامعة غوتنبرغ، قبل أن تحوز باكورته "الغيتار
المغولانيّ" على جائزة الـ"فبريسي" في مهرجان موسكو
السينمائي(2005). وعرض شريطه الثاني "الإكراه" في خانة
"نظرة ما" بـ"كانّ"(2008)، كما خطف بعد عامين دّباً
ذهبياً في مهرجان برلين عن فيلمه "حادث عند البنك”،
أحد أهم الوجوه الشابة في المشهدية التشكيلية
التفاعلية في أوروبا، ومن المحرضين المؤثرين على
مقاربة النعرات الأخلاقية كما في نصّه الرابع "قوّة
قاهرة" الحائز على جائزة لجنة تحكيم خانة "نظرّة ما"
في مهرجان "كانّ"(2014)، والذي فاز لاحقا بـ 16 جائزة
دولية أخرى، كما ترشح الى جوائز "غولدن غلوب"
و"الأوسكار". وتصديه الشجاع للعنصرية وعصابيتها الذي
تجلّى بقوّة في نصّه السجالي "لعب" الذي عُرض تباعاً،
وفي سابقة مهرجانية لا مثيل لها، في كانّ وفينيسيا
وتورنتو، وحصد مديحاً نقدياً لهجائيته المجيدة.