يرى جان الكسان في كتابه «تاريخ السينما السورية في
ستين عاماً" متحدثاً عن فيلم "وقائع العام المقبل":
في هذا الفيلم تجربةٌ جديدةٌ مُستشهداً بقولك: (كان
هاجس مجموعة الفيلم، إمكانية تحقيق الحلول الإبداعية،
والتشكيلية، وفي سيناريو الفيلم إلى حلولٍ سينمائيّة
مع المخرج، ومع إمكانية تحقيق هذه الحلول، وإيصالها
إلى المتفرج.
·
ما الجديد الذي قدمتموه كفريق عملٍ
بقيادة سمير ذكرى للسينما السورية في هذا الفيلم؟
أعتزُّ جداً بصداقتي المهنية مع سمير ذكرى، لولاه لم
تعيّنتُ (حصلتُ على وظيفةٍ) في المؤسّسة، ولولا سمير
ذكرى لما تعيّن محمد ملص في المؤسّسة، ولولا سمير ذكرى
لما تعيّن أسامة محمد في المؤسّسة، وأنا أتحدث عن عام
1980.
مع فيلم "وقائع العام المقبل"، كانت هناك تجربةٌ جديدة
في طريقة العمل، راهن على مدير تصوير جديد غير معروف
لم يُصوّر بمفرده فيلماً روائياً طويلاً، راهن على
التجربة، وربح هذا الرهان، لكنني أشكره، لأنّه كان من
المحتمل ألا يعرض عليّ تلك الفرصة، بل على أشخاص
آخرين، هذا أولاَ.
أما ثانياً، فلأول مرة يتواجد ثلاثة مهندسي ديكور معاً
في فيلم سوري: حسان أبو عيّاش، لبيب رسلان، ورضا
حُسحس، وكانت التجربة معهم جميلة جداً، فسمير ذكرى
يعرف ماذا يريد درامياً، ودعم التجربة التقنية.
أما بالنسبة للحلول الدرامية، والإبداعية لمدير
التصوير، فـ"فيلم وقائع العام المقبل" كانت تجربة
جميلة جداً مع سمير ذكرى، فأراد سمير أن يصنع حركة
كاميرا، والمكان أصغر من أن يتحرك الشخص فيه، فصنعت
"دولي" صغير، و"دولي" كبير نعمل عليه في المساحات
الكبيرة، وفي نفس الوقت صنعت "دولي" صغير جداً عرضه 36
سم لأتحرك فيه، وعملنا حركات، فكلّ الممرات عرضها 90
سم، 70 سم، وضمن غرفة يتحرك نجاح سفكوني، وهالة
الفيصل، وأنا أتحرك معهم، وكانت الغرفة حوالي 14أو 15
متر مربع، الأمر الآخر، فتحت النوافذ، واستخدمت إضاءة
الديلايت DayLight "الإضاءة النهارية"
لأول مرة، لذلك كانوا يسمونني "حنّا آرك"، لأنّهم
كانوا يسمّون الإضاءة الديلايت DayLight فيما قبل بالآرك،
فأنا استعملت إضاءة الديلايت DayLight، وهو من جعلني أفتح
النوافذ، لم يوجد لديّ مكان إلاّ وفتحت نوافذه، لأربط
بين الخارج والداخل، ليتحرك الممثل بحرية، وقدمت شيء
اسمه دراما الضوء.
في البداية، كانوا في المؤسّسة يستخدمون أضواء تنغستن،
ولم يكن لديهم إضاءة الديلايت
DayLight، لذلك، كانوا يضطرون إلى إغلاق
الستائر، ومعهم الحقّ في ذلك، قالوا لي أن إضاءة
الديلايت
DayLight معطلة، فأصلحتها، لقد عملت على إعادة
بناء تقنية للمؤسسة في عام 1985، وأعدت ذلك البناء في
1995 في فيلم "تراب الغرباء"، فقدمت صورةً مغايرةً عما
كان موجوداً، حركة كاميرا مع ربط الإضاءة بين الداخلي،
والخارجي.
أودّ أن أعطيك مثالاً عن مرونة سمير ذكرى، ففي معهد
الصمّ، والبكم الذي هو "بيت جبري"، بنيت رصيفاً
ارتفاعه مترين، وطوله تقريباً 15 متر "الـكرين" عليه،
وأنا أمشي عليه، وآخذه من باب البيت العربي إلى
الداخل، في منتصف الليل، ذهبت إلى سمير ذكرى، وقلت له:
غداً سنتأخر قليلاً، لأنّني سأسحب "الكرين"، والسكك
كلّها لأُبعدها متراً عن الحائط، فلقد اكتشفت بأنّني
كنت مخطئاً، فقال لي: لا تحرك شيئاً من مكانه، أنا
راضٍ بما تستطيع أن تقدمه، لن أكسر لك هيبتك أمام فريق
العمل، فقلتُ له: من الطبيعي أن نغيّر، هذا الأمر
يحدث، فأصرّ على أن لا أغيّر.
وعندما وصلت، طلبت منهم أن يضعوا لي الكاميرا، وعملت
تجربة مع الممثل قبل أن يضع مكياجه، فقال سمير
بانفعال: أستاذ حنّا هذا زيادة عمّا أريده، لكن، أنا
أعرف كيف ستكون النتيجة، فسألت العاملين: كم لدينا من
وقت لنحرّك السكك متراً، أو مترين، فقالوا لي: لن يأخذ
الأمر أكثر من نصف ساعة، فجاء سمير، وقال لهم: إن كان
يريد أن نحرك السكك، قولوا له لا يمكن ذلك، وسنبدأ
الآن بالتصوير، فهذا الموقف أعتبره مهم جداً في
التعامل مع بعضنا.
في مشهد قطع الرأس في قاعة العرش بقلعة حلب، اتفقنا
على التصوير في الساعة الثامنة، أو التاسعة صباحا، لكن
الديكور لم يجهز إلى أن أصبحت الساعة الثامنة ليلاً،
لم أعترض على ذلك، والتزمت الصمت، وحين قالوا أنّ
الديكور قد أصبح جاهزاً، تخوّف الجميع من الوقت الذي
سيأخذه تجهيز الإضاءة، فقلت للأستاذ سمير أنّني أحتاج
لنصف ساعة فقط لتجهز إضاءتي، فذهل، قلت له: أنا جاهز،
لقد كنت وراءهم، وهم يجهزون الديكور، كلّما جهزوا
قسماً كنت أضيئه، فقط، أريد أن ينتظر الممثلون قليلاً،
وحين جرّبنا الإضاءة، جعلته ينظر إليها من الكاميرا،
وسألته عن رأيه، فقال الجوّ ساحر، فقلت له: بعد ربع
ساعة تدور الكاميرا، سألته إن كان لديه رغبة بعمل
تجربة، فقال نعم، وقمنا بتجربتين، وبعدها قال لي أنّ
الحركة قد ثبتت، فأسرع إلي ثلاثة من مهندسي الديكور،
مع الماكييرة ستيلا خليل، قبّلوني بسعادة، وأخبروني
أنّهم توقعوا أن يأخذ تجهيز الإضاءة ساعتين، فقلت لهم
أنّني كنت خلفهم أتابعهم، أنهينا التصوير في الساعة
الحادية عشرة صباحاً، هل تصدق هذا الأمر، أكثر من
أربع وعشرين ساعة عمل.
في الفيلم، راهن سمير ذكرى على ممثلين جدد، نجاح
سفكوني، وفتاة لم تكن ممثلة بل فنانة تشكيليّة مهمة،
وهي هالة الفيصل، وهذا رهان مهم.
وكذلك نهاية الفيلم عبارة عن صحراء، كمقاربة لموضوع
مستقبل سوريا الذي تصحّر، ففي نهاية الفيلم يقول معاون
الوزير (الممثل صالح الحايك) مخاطباً مايسترو الفرقة
الموسيقية (نجاح سفكوني):
يا أستاذ منير، يقول لك الأستاذ أنه مستعجل، اعزفوا،
ومن ثم دوزنوا، فالمهم أن يقبضوا الكومسيونات، والفساد
الذي كان موجوداً في البلد، برأييّ أنّه فيلم من أهمّ
الأفلام السورية.
لكن، يُجبرنا التاريخ على الاعتراف، بأنّ هناك مشكلة
في مونتاج الفيلم، برأييّ الشخصي، لم يكن لدينا فناني
مونتاج جيدين في سوريا قادرين على فهم المخرجين، لا
يحبّ المخرج أن يقصقص، لم أكن أحضر بشكل دقيق تصحيح
ألوان أفلامي، لكن، حين ينتهي سمير ذكرى، أتفقد معه
كلّ لقطة، لكن، في المرحلة التي كان يعمل بها، لم أكن
أحضر، لأنّ المونتير كان سيئاً يضغط على أعصابي، كنت
أقول لسمير أنّني أركع أمامه احتراماً له كيف يستطيع
أن يخرج الصورة من هذا المونتير السيئ، فبرأيي، هو
فيلمٌ مهمٌ جداً في السينما السورية، ولاقى ترحاباً
كبيراً في أكثر من مكان، وكان من المفروض أن أحصل على
أكثر من جائزة في مهرجاناتٍ كالبرتغال، وغيرها، فلقد
اعتبروا أنّ حنّا ورد مدير تصوير إنكليزي.
وتُعدّ نسخة فيلم "وقائع العام المقبل"_ نسخة
البوزيتف الحالية _ أفضل نسخة للعرض موجودة من أفلام
السينما السورية التي اُنتجت في الثمانينيّات،
والتسعينيّات، حتى أنها أفضل من نسخة فيلم "تراب
الغرباء" الذي تمّ إنجازه بعد عشر سنواتٍ في معمل
تحميضٍ جديد، وأجهزة جديدة، لكن، لم يكن لدينا من
يُشغله بشكلٍ جيد، وأنا عملت هذا الأمر، طبعت في
التلفزيون على أجهزة التلفزيون الحديثة، وحمضنا في
المؤسّسة، لأنّ البوزيتيف كان قديماً، فالأمور كانت
مربكة، لكن النتائج ممتازة، حاول أن تشاهدها الآن في
روابط الأفلام، فيلم عميق، كان سمير ذكرى شخصاً
ديمقراطياً، وكان العمل معه ممتعاً جداً، والنتائج على
ما أعتقد تتساوى مع الكلمات التي قلتها .
·
ألم يكن هناك فناني مونتاج أكاديمييّن في تلك الفترة؟
لم يدرس المونتاج بشكلٍ أكاديميّ إلاّ أنطوانيت
عازرية، وللأسف، اختلفت مع سمير في فيلم "حادثة النصف
متر"، وأكمله المونتير زهير داية، وهو من كان مونتير
فيلم "وقائع العام المقبل"_ أعتقد أنّه لدينا مشكلة
مونتاج (مونتيرية)، في سوريا ليس لدينا مونتير محترف.
فالمونتير لدينا يفرض شخصيته، وهذا الكلام غير صحيح،
يجب أن يفرض شخصيته من خلال المخرج، وأن يفرض رأيه من
خلال فكرة المخرج، الأمر يشبه عزف الاوركسترا، وحين
يختلف في الحلول التشكيلية مع المخرج، يذهب إلى الحلّ
الذي يريده المخرج، ففي النهاية المخرج هو من يرى
الحلّ، فهو يرينا صورة، وليس كلاماً، الفيلم كان
طويلاً، كان يجب أن يُختصر منه عشرين دقيقة، لكن،
برأييّ، هو فيلم عظيم، لقد شاهدت فيلم "المصير" ليوسف
شاهين، وتفاجأت، كنت أتوقع أنّه أهمّ، أبداً ليس أهمّ،
وهذا برأييّ الشخصي طبعاً.
·
في الأردن عملتَ 80 فيلماً إعلانياً سينمائيّاً مع
المخرج نجدت إسماعيل أنزور ما بين الأعوام 1981_1984،
لتنقلا الشراكة فيما بعد إلى التلفزيون منتصف
التسعينيّات في مسلسل "الجوارح" الذي يُعتبر نقلاً
حقيقياً للصورة السينمائيّة إلى التلفزيون، ومن بعدها
"مرمر زماني" ....
أعتبر التعرّف على المخرج نجدت أنزور من المفاجآت
الرائعة في حياتي، إنه إنسانٌ معجونٌ بالموهبة، لا أحد
يصدق أنّ الأفلام الإعلانية التي عملناها في عمّان
كانت تُعرض بنجاح كبير جداً، وعُرض الإعلان رقم 6 في
قناة الـ BBC في لندن، يكفي أنّ
نقول _ساكورا أحلى صورة_ على ما أذكر الفيلم فقط توزع
منه مئة نسخة، صدّق أو لا تصدق، النسخة التي وجدناها
كانت تُعرض في التلفزيون العراقي، كنا نعمل على شرائط
سينمائية من مقاس 16 مللي، وعندها قلت لنجدت أنّني لن
أعمل على 16 مللي، فالتجربة غير ناجحة، كان بمفرده
يعمل بالـ 16 مللي، ثم تشارك مع شخص، وأصبحنا نعمل
بالـ35 مللي، أحضرت كاميرتي، وعدساتي، وبدأنا نحمّض في
روما، وأعتبر هذه التجربة غنية جداً بالنسبة لي،
ولنجدت أيضاً.
تخيّل التحدي، في اليوم يُنهي إعلاناً، وليس معي غير
مساعد واحد يعمل إضاءة، وتصوير في الوقت نفسه، وليس
عشرة مساعدين، لأنّ الوضع لم يكن يحتمل، فعملنا خارجي
داخلي، ولم يبقَ هناك شيء إلاّ وعملناه، لم نترك
مكاناً في عمّان إلاّ وصورناه، عملنا دعاية لشركة Shell، وذُهلوا حين استخدمت عدسة 1000 مللي،
و 500 مللي حتى آخذ لقطات، هو أحب هذا الأمر، ودخل في
الدراما، وأنا اعتذرت عن الإكمال بسبب "أحلام
المدينة"، وليتني لم أعتذر، أعتبر ترك العمل مع نجدت
أنزور من الأخطاء القاتلة في حياتي.
بالنسبة لمسلسل "الجوارح"، حين أدخل نجدت أنزور الحلول
الاخراجية من خلال الصورة السينمائية إلى التلفزيون،
كان واضحاً ما يريده، مع تقديره لعدم توفر التقنيات،
فقدم صورة سينمائية في التلفزيون عجز عن تقديمها من
كانوا يُنَظرون بالصورة السينمائية آنذاك، ولم يعمل
أحدٌ كما عمل نجدت تقريباً، بالتأكيد، كانت تجربة
جميلة.
كان "مرمر زماني" تجربة متطوّرة بصرياً بشكلٍ أكبر من
"الجوارح"، بالنسبة للجوارح، للأسف، النسخ المتوفرة
سيئة جداً، وهذا يدلّ على العقل الاستهلاكي لكلّ محطات
التلفزيون، فالتلفزيون السوري من المفروض أن يحتفظ
بهذه النسخ، فهذا أرشيف البلد، عمله فنانون سوريون_
وإنّ مولته دبي_
ومن أبرز التجارب مع نجدت، كان من الممكن أن ننجز
فيلماً في ليبيا، وحضّرنا له، وصوّر جزءاً تمهيدياً،
ثم اتفق القذافي مع برلسكوني، وعملا صفقةً من تحت
الطاولة، وتراجعا عن عمل الفيلم، حيث كان موضوعه عن
الضحايا الذين قُتلوا من قبل الجيش الإيطالي في
ليبيا. |