خلال الدورة الأولى لمهرجان دبيّ السينمائيّ الدوليّ
"6 ـ 11 ديسمبر 2004", إختلفت الأراء, وتضاربت,
تقاطعت, وإفترقت, هل نكتب عن الإرباكات التنظيميّة,
المُعاملة المُميّزة للضيوف الأجانب, المدير الكنديّ,
فريق العمل من الأجانب, كتيبة الموظفين القادمين من
كندا, المُبرمجين, الكرم الإماراتيّ, إنعدام التواصل
اللغويّ, والإنسانيّ مع الضيوف العرب, تهميش الطاقات
المحلية, والعربية, وإستخدامها ديكوراً يُزيّن أرجاء
المركز الإعلاميّ, تسليم مهمّة المكتب الصحفيّ لشركة
علاقات عامّة, لا يمتلك أفرادها أدنى فكرة عن السينما
؟..
أم نتوجّه ـ مثل القطيع ـ إلى صالات العرض, مهما كانت
قريبةً, أو بعيدةً, نستهلكُ الأفلام صامتين, نُتابع
الندوات, نُثرثر, ونعود إلى مُنتجع "مدينة جُميرا"
الخرافيّ, كي نأكل, وننام, ونحمد الله, والسلطان على
تلك النعم التي نتمتع بها, ونستيقظ في صباح اليوم
التالي على صوت عامل هنديّ, ونكرّر نفس النشاطات,
والأفعال,...؟.
عندما أذهبُ إلى كان, برلين, لوكارنو, أوبرهاوزن,
كليرمون فيرون, نانت, آميان,.. تصبح مشاهدة الأفلام
بالنسبة لي همّاً أساسياً, بدون إهمال أجواء تلك
المهرجانات.
التنظيم المُتقن, والإحترام الزائد, والمُساواة بين
الضيوف ـ مهما كانت جنسياتهم ـ, يُسّهل لي, ولغيري,
المهمّة التي جئتُ من أجلها, ولكن, لماذا لا يتحقق ذلك
في المهرجانات العربية؟ لماذا تصبح المشاهدة آخر
إهتمامات الضيوف؟..
ويمكن تلخيص بعض الأسباب في النقاط التالية:
*تعتمد برمجة المهرجانات العربية على تجميع أفلام
المهرجانات الكُبرى, وفيها أجد كمّاً كبيراً قد
شاهدتها مُسبقاً في مناسبات مختلفة.
*إضطراب مواعيد العروض, الزحام الشديد, الأجواء داخل
الصالات نفسها "التلفونات المحمولة, الأحاديث
الجانبية, أعطال التكييف,..".
*التضارب في مواعيد نشاطات مختلفة.
*المشاكل التنظيمية المُربكة, والمُحبطة.
*الأجواء الإحتفالية الكثيرة, والتي يعجز الضيف
العربيّ ـ والأجنبيّ ـ عن تفاديها.
*وأهمّ من ذلك, فرصة اللقاء مع الضيوف العرب, والتي لن
تتحقق في أيّ مهرجان أوروبيّ, وهي رغبةٌ إنسانيةٌ
مشروعة, ومنها تتوطد العلاقات, وتتجسّد الأفكار,
والمشاريع, وإمكانيات التعاون,..
إذاً, وبكلّ بساطة, لا تقتصر متابعة أيّ مهرجان عربيّ,
أو دوليّ على مشاهدة الأفلام فقط, وإلاّ, لماذا أتحمّل
عناء السفر إلى مهرجان كان, وأعرف مُسبقاً بأنني سوف
أشاهدّ معظم أفلامه في عروض صحفية, أو تجارية قبل
المهرجان, وبعده.
ولماذا تتابع "د.ماجدة واصف" ـ مثلاً ـ المهرجانات
العربية, وهي تمتلك فرصة ـ بحكم عملها مديرةً لبينالي
السينما العربية ـ مشاهدة كلّ الإنتاج السينمائيّ
العربيّ, بطويله, وقصيره.
بإختصار, كلّ مهرجان سينمائيّ يقدم لي أشياء مفيدة لم
أحصل عليها في مهرجان آخر: أفلاماً قديمةً, أو حديثة,
لم أشاهدها مُسبقاً, ندوةً مهمة, لقاءات مع المحترفين,
برمجة خاصة, سينما مجهولة, إكتشافات سينمائية, تجربة
خاصّة, لقاءات مميزة,...
وتذكرني تلك النشاطات, والفعاليات بإنسانيتي, قبل أن
أتحول إلى آلة تستهلك الأفلام, وتبتلعها.
وبالعودة إلى الدورة الأولى لمهرجان دبيّ السينمائيّ
الدوليّ, فقد تحدثتُ مسبقاً عن إرباكاته التنظيمية,
والهيكيلية الناتجة عن الذهنية الغربية التي تديره,
المدير الكنديّ بالتحديد, وفريق العمل الأجنبيّ الذي
يتعاون معه.
وأنتقل اليوم للحديث عن البرمجة, الجانب الأكثر
أهميةُ, وبدونها ماكان للمهرجان أن يتحقق أصلاً,
ولكنني بالمُقابل لن أفصلها عن التنظيم, والإدارة,..
وكما نعرف, يمتلك أيّ مهرجان في العالم, مهما كان
صغيراً, أو كبيراً, منهجاً فكرياً,ً أو جمالياً يحافظ
عليه, يطوره, ويدافع عنه, ولهذا, تحتفي فرنسا وحدها
بأكثر من 400 مهرجان, كلّ واحد منها يختلف في طبيعته,
وبرمجته عن الآخر,...
هناك مهرجاناتٌ خاصّة بالسينما الأفريقية, وأخرى
للسينما الأسيوية, وثالثة للسينما الهندية, ورابعة
للأمريكية, وخامسة للمتوسطية, وسادسة للقصيرة,..
مروراً بأكثر التيمات غرابةً: الجبال, المغامرة,
المياه, البحار, العصافير, الطيور, الجنون, التحليل
النفسي, الرعب, الحبّ,..
وقد تخيّر مهرجان دبيّ السينمائي الدوليّّ تيمة
التواصل مابين الشرق والغرب, وكان على المدير الكنديّ
نفسه ـ بالتعاون مع لجنة إختيارـ تأكيد تلك التيمة,
وكما سمعتُ, وعرفت, فهو محاميّ لايمتلك أيّ نشاط يُذكر
في السينما, ويقتصر تاريخه الإحترافيّ على تعاونه
التطوعيّ مع مهرجان تورونتو, ولهذا, فقد دفعه جهله
بالسينما, وخوفه من الفشل, إلى الإعتماد على خبرات 11
مبرمجاً, لا أنكر خبرات بعضهم في مجالات عملهم
السابقة.
11 مبرمجاً تدعمهم أجوراً خيالية, إختار كلّ واحد منهم
بعض الأفلام وفق ذوقه, وقناعاته, وكأنه ينظم مهرجانه
الخاصّ, بينما تفرّغ المدير الكنديّ لمهام أخرى,
وخاصة إستيراد الهيكليّة التنظيمية من مهرجان تورونتو,
ونسخها حرفياً لتنظيم الدورة الأولى لمهرجان دبيّ
السينمائيّ .
11 مبرمجاً, وكتيبةً من الموظفين الذين إستقدمهم من
كندا, وشركات علاقات عامة, ومتطوعين محلييّن من مواطني
البلد, والمقيمين فيه, أسند إليهم مهمّات شكلية, وبما
أنه لم يدفع من جيبه درهماً واحداً, وحصل على ميزانية
خيالية, فما المانع بأن يتولى الآخرون ما يتحتم عليه
القيام به.
ولأنه يجهل السينما, والمهرجانات, وما حولها, فقد أقدم
على خطوات لا يُقدم عليها "أجدع" مهرجان سينمائيّ
عالميّ.
في السنة الأولى من التحضير, عقد مؤتمراً إعلامياً في
مهرجان كان, وإعلانات مدفوعة الأجر في الصحف العالمية,
وخاصةً مجلة فارايتي الأمريكية, وفي السنة الثانية من
التحضير, أتحفنا بمؤتمر آخر في مهرجان كان نفسه, ومن
ثمّ تتالت سلسلة المؤتمرات في دبيّ, القاهرة, وأيضاً
في تورونتو, وكيرالا الهندية, وللقارئ أن يتخيل
المصاريف, والنفقات, والأجور, ولم يصل أيّ مهرجان في
العالم إلى هذا الحدّ من البذخ, والتبذير, والإسراف.
ويعرف الوسط السينمائيّ, بأنّ مهرجان كان نفسه, وهو
أكبر تظاهرة سينمائية في العالم, وقبل شهر تقريباً من
تاريخه, يعقد مؤتمراً صحفيّاً متواضعاً في إحدى
القاعات السينمائية الباريسية, وذلك لإعلان أسماء
لجنة التحكيم, والأفلام المُشاركة في المسابقة,
والإختيارات الرسمية, كما يوزع ملفاً صحفيا, يُنشر
بدوره في الموقع الرسميّ للمهرجان.
وقد أقدم المدير الكنديّ لمهرجان دبيّ السينمائيّ
الدوليّ على ذلك البذخ والتبذير, إما جهلاً منه, أو
إستهتاراً بميزانية المهرجان التي إعتقد بأنها تخرج من
جوف الصحراء, مثل البترول, أو رغبةً بإحداث هزة عنيفة
في الوسط السينمائيّ العالميّ.
وأًرجح بدوري الإحتماليّن الأولين: "الجهل, وإنعدام
الخبرة تماماً, والإستهتار بميزانية المهرجان, وأموال
الإمارات", لأن 500 ضيف, و75 فيلماً طويلاً, وقصيراً
ليست أكثر من ضجة مكتومة تُحدثها مفرقعات يلهو بها
طفلٌ صغير في يوم ماطر, مقارنةً مع الميزانية الضخمة
التي خُصّصت من أجله, ولكي يفهم القارئ, ويستوعب جيداً
إنتقاداتي العنيفة, سوف أقارن ـ في موضوع قادم ـ
مهرجان دبيّ مع أيّ مهرجان أوروبيّ.
وقبل أن تختفي نشوة النجاح, والنصر, أقترح على السيد
"عبد الحميد جمعة" ـ المدير التنفيذيّ لمدينة دبيّ
للإعلام ـ بمراجعة دقيقة, وتفصيلية لبنود الميزانية,
وطريقة إنفاقها, ومقارنتها مع النتائج الفعلية
للمهرجان, ليعرف إلى أيّ حدّ كان التبذيرعلى أشده.
كما أقترح إجراء مقارنات بسيطة, بسيطة جداً جداً:
*كتالوغ المهرجان, وتكاليفه ـ مثلاً ـ ومقارنته مع
تكاليف أيّ كتالوغ, مهرجان آخر في العالم.
*نفقات المؤتمرات الصحفية, ونتائجها الفعلية,
وتكاليفها, مقارنةً مع المؤتمرات الصحفية لمهرجانات
أخرى.
*عدد المبرمجين, وأجورهم, ونفقاتهم, ومقارنتها مع
الميزانية المُخصّصة لأعضاء لجنة إختيار أكبر, وأهمّ
مهرجانات العالم.
ولكي تكون جردة الحساب فعّالة, أقترح أيضاً النظر في
كلّ بنود الميزانية, ومقارنتها مع ميزانيات مهرجانات
أخرى, كبيرة, وصغيرة.
وتعود تلك الهوّة الواسعة بين ميزانية المهرجان,
ونتائجه, إلى الخبرة المتواضعة, إن لم نقل المعدومة
تماماً للمدير الكنديّ, "ياجماعة, المسألة بسيطة
للغاية, هو يدّعي بأنه شغل سابقاً منصب نائب رئيس
مهرجان تورونتو, إتصلوا بالمهرجان, وتأكدوا بأنفسكم من
هذه المعلومة, ونحن النقاد المُتخصّصين الغيورين على
مهرجان دبيّ, فعلنا ذلك قبلكم".
لقد كلفته دبيّ بتنظيم مهرجان دوليّ, فإستورده بأضعاف
أضعاف ثمنه الحقيقيّ. وهو نفسه الذي كتب في إفتتاحية
كتالوغ الدورة الأولى لمهرجان دبيّ السينمائيّ:
"إنها دعوةٌ صادقةٌ لكم جميعاً للإحتفاء معنا بفنّ
السينما, عبر مهرجان دبيّ السينمائيّ الدوليّ
بإنطلاقته الأولى في السادس من ديسمبر2004, مستهلاً
هذه المناسبة المُميزة لأعرب عن ترحيبي الصادق بمتابعي
المهرجان, سواء كانوا من زوار دبيّ, أو مواطنيها, أو
المقيمين فيها بمختلف أطيافهم, وثقافاتهم, متمنياً أن
يكون هذا المهرجان تجسيداً حقيقياً لتطلعاتهم جميعاً".
هذه العبارات الإنشائية, والمجانية, يمكن أن يصدقها من
تابع المهرجان عن بعد, من خلال الصحافة, والإعلام,
وبالتأكيد, الضيوف الأجانب الذين تمتعوا بمعاملة خاصّة
لم تكن خفيةً عن الضيوف العرب الذين إستبعدوا في
الأسبوع السابق للمهرجان "أيُّ خطأ تقنيّ هذا! ",
وبفضل "محمد مخلوف", و"مسعود أمر الله", والسيد "عبد
الحميد جمعة" الذي تفادى ذلك الموقف, وسافر بنفسه إلى
القاهرة لدعوة الفنانين, والسينمائيين المصريين في آخر
لحظة, وخصص لهم رحلةً إضافية نقلتهم إلى دبيّ.
وخلال فترة المهرجان, جلس هؤلاء ـ مع غيرهم من
الصحفيين, والنقاد ـ في كافتيريا, ومطعم مُنتجع مدينة
جُميرة, لايعرفوا ماذا يفعلوا بأنفسهم, حتى تداركت
شركة "أصداء" للعلاقات العامة ذلك الأمر, ونظمّت ندوات
صحفية مرتجلة مع بعض الفنانين الذين شاركوا بأفلامهم,
أو أولئك الذين لا أفلام لهم, وحضروا للإستعراض,
والزينة.
كما شعر معظم الضيوف العرب بإستبعادهم ما أُمكن عن
الحفلات المسائية, تلك التي حصلتُ على دعوات لها
بمعارك, وخناقات,...
وكنتُ بدوري شاهداً على خناقة تلفونية حادة بين "محمد
مخلوف", وإحدى الموظفات الكنديات, عندما طلب منها
سيارةً لنقل بعض الضيوف العرب من صالة السينما إلى
الفندق, فتجاهلته, وعاد الضيوف سيراً على الأقدام,
بينما تردّدت أقاويلٌ, وحكاياتٌ عن نقل بعض الشخصيات
السينمائية الأجنبية في سيارات الليموزين الفارهة,
وأكثر من ذلك, في طائرات خاصّة نقلتهم من أوطانهم إلى
دبيّ, ومكافآت مُجزية حصلوا عليها, ونعرف بأنّ إستضافة
نفس الشخصيات في مهرجانات أخرى لا يستدعي تلك
المبالغات.
وأسأل السيد "عبد الحميد جمعة": هل تلك الحكايات صحيحة
؟ وهل يفعل مهرجان تورونتو نفس الشئ؟
بدوري, لا أستطيع تأكيد تلك المعلومات, أو التأكد
منها, ولكنني أطالب بجدية النظر في التبذير الفظيع
لميزانية المهرجان, أموال "الإمارات العربية المتحدة".
وإذا أراد الإماراتيّون بأن يكفّ العالم عن النظر
إليهم كبراميل بترول متحركة, عليهم بأن لا يسمحوا
لمدير كنديّ بأن يؤكد تلك الفكرة, ويستغلّ الكرم
الإماراتيّ في غير موضعه.
كان يُمكن أن يكلّف مهرجان دبيّ السينمائيّ, بكلّ
مافيه من أفلام, ونشاطات, وفعاليات, وشخصيات سينمائية
كبيرة, وصغيرة, ميزانيةً أقلّ بكثير من تلك التي
أنفقها المدير الكنديّ, ومتابعاتي الدائمة للمهرجانات
السينمائية في أوروبا تسمح لي بمقارنات, أكان ذلك على
مستوى البرمجة, والأفلام, والنشاطات المُصاحبة, أو
مايتعلق بالضيوف,.. وحتى أصغر التفاصيل في المهرجان.
ولهذا, أطلبُ من المدير الكنديّ بأن يقلّل من عباراته
الإنشائية التي تنضح بالنفاق, وما جاء في كلمته
الترحيبيّة بعيدٌ تماماً عن الواقع الذي عشته بنفسي مع
الضيوف العرب خلال فترة المهرجان.
وفي الوقت الذي كان من المُفترض بأن أعود من دبيّ
سعيداً, ومبتهجاً برحلة مجانية, وإقامة في مُنتجع
خرافيّ, رجعتُ في حالة من الإحباط, والألم, والحسرة
لم أشعر بها بعد عودتي من أيّ مهرجان في العالم.
يمكن فهم إستقطاب دولة "الإمارات العربية المتحدة"
خبراء أجانب لبناء الطرق, الجسور, ناطحات السحاب,
الفنادق, المُنتجعات, المدن الإعلامية, والرياضية,
والترفيهية,.. ولكنني لا أفهم ضرورة الإعتماد على
مدير كنديّ ـ ليس في تاريخه أيّ علاقة بالسينما, ولم
يكن أكثر من متطوّع في مهرجان تورونتو ـ لإدارة مهرجان
سينمائيّ من المُفترض بأن ينطلق بفعاليات محلية,
وعربية, مع الإستفادة التقنية من الخبرات الأجنبية.
البساطة, والحميميّة, والجانب الإنسانيّ الذي نعيشه في
مهرجانات مثل: قرطاج, دمشق, القاهرة, الإسكندرية,
أصيلة, مراكش,.. يجعلنا نتغاضى عن كلّ الأخطاء
التنظيمية التي تُصادفنا فيها, ولكننا لا نستطيع
السكوت عن تنظيم "صقيعيّ" لمدير أجنبيّ لمهرجان عربيّ
تفوق ميزانيته أيّ مهرجان في المنطقة العربية, وحتى
الكثير من المهرجانات الأوروبية.
لا نستطيع تبرير الإدّعاء, والجهل, والنفاق, والتبذير,
والإستهتار بطاقاتنا, وعقولنا, والرغبة بإستبعادنا,
وتشويه لغتنا, وثقافتنا, وإستنزافنا, وإستغلالنا,
والوصاية علينا, ومعاملتنا مثل قاصرين.