يأتي ناقد أو مسؤول أو حتى قارئ أو متفرج «يعتبر نفسه
حاكمًا أو قاضيًا أو وصيًّا» ويصيح في وجهك: الناس لا
يفهمون فيلمك «أو نصك أو لوحتك».. لماذا لا تقدّم ما
هو سهل وبسيط؟ هو، في الواقع، لا يمارس فقط حقه في
التعبير عن نفسه، بل يريد أيضًا أن يرهبك ويقمعك
ويخضعك لسلطته، لذا يعلن لك صراحةً ومباشرةً أنه يتحدث
نيابة عن الناس أجمعين «رغم أن أحدًا لم يخوّله بذلك،
ولم يقم هو بإجراء أي مسح شامل لرغبات الناس»، ويعدّد
لك بثقة مطلقة ما يريده المتلقي حقًا: الجمهور يحتاج
إلى حبكة واضحة، مدرَكة بسهولة، وبناء سردي مكشوف لا
تعقيدات فيه ولا تقاطعات ولا تغيّرات مفاجئة ومربكة،
والتخوم بين الأزمنة والأمكنة ينبغي أن تكون واضحة
وظاهرة بلا أي تداخل أو طمس للحدود بينها، وأن تكون
الأفكار والمعاني جليّة، وكلما كان العمل ترفيهيًا
ومسليًا كان ذلك أفضل.
لكن هذا ادعاء باطل، إذ لا يمكن أبدًا معرفة دواخل
الناس، ودرجة الفهم لديهم. ولا يمكن التنبؤ بحاجات
الجمهور ومطالبه، وإدراك رغباته وأهوائه الحقيقية. لو
كان الأمر كما يدّعيه المنادون بتبسيط الأعمال الفنية،
لتكوّنت وصفة جاهزة لضمان إقبال الجمهور، ولتسابق
المنتجون والممولون على تطبيق هذه الوصفة في إنتاج
الأعمال المضمونة النجاح. لكن الأمر لا يحدث هكذا.
فهناك أعمال يُتوقع لها النجاح وتفشل، وأخرى لا تتضمّن
عناصر النجاح لكنها تحقّق إقبالًا وإيرادات عالية.
المطالبة بأن يكون العمل مفهومًا لدى قطاع واسع من
الجمهور العام، تساهم في تشويش العلاقة بين العمل
الفني وجمهوره، وإرباك التواصل بينهما.
ليس بين أفراد الجمهور ما هو مشترك اجتماعيًا وطبقيًا
وثقافيًا وعمريًا، وما هو متماثل في الشخصية
والحساسية، وما هو منسجم أو متوافق في الذائقة وفي فهم
أي عمل فني أو تحليله أو تقييمه والحكم عليه.
الاهتمامات والميول متعددة ومتباينة، الاستجابات
متفاوتة، ردود الفعل متناقضة.. حتى لو كان العمل الفني
أقل إثارة للجدل أو الخلاف.
السينما التقليدية
يهمها أن تضمن قدرة المتفرج على فهم الفيلم، شخصياته،
أهدافها وطموحاتها والمشاكل التي تواجهها، دونما
صعوبة، حتى يسهل عليه الاسترخاء والمتابعة باطمئنان.
لكن لا يمكن الافتراض أن العمل سيكون مفهومًا بطريقة
واحدة معيّنة، ووفقًا لإدراك مؤلفه. يقول تاركوفسكي:
«معنى الصورة الفنية هو بالضرورة غير متوقع، نظرًا
لأنه تسجيل للكيفية التي بها رأى شخص واحد العالم على
ضوء حساسيته وخصوصياته في البنية أو المزاج».
حتى الأفلام الصعبة والمركّبة والعميقة تجد لها
جمهورًا متحمسًا ومنسجمًا وراغبًا في التفاعل. وهذا
الجمهور دائرته محدودة لكنها فاعلة وحيوية، وقابلة
للاتساع والتمدّد والتكاثر. إنه الجمهور الذي ينتقي
الأفلام التي يرغب في مشاهدتها. |