السردية،
واعتُبرت، في حينها، من منجزات الفعل السينمائي
الحداثي، كما كانت موضع محاكاة للعديد من المخرجين.
في المشهد الختامي من فيلم فرانسوا تروفو «الأربعمائة
ضربة» (1958)، تظل الكاميرا ثابتة على الصبي الهارب،
الذي يصل إلى البحر، ولا يجد مهربًا أبعد، فيستدير
مواجهًا الجمهور، محدِّقًا في الكاميرا، في إحدى أكثر
اللحظات استثنائيةً ولفتًا للنظر.
في أحد مشاهد فيلم «اللاهث» 1959، وفي لقطة قريبة،
يجعل غودار بطلته «جين سيبرغ» تلتفت بعيدًا عن الأحداث
الجارية من حولها لتحدِّق في الكاميرا.. كما لو في
هاوية.
العديد من اللقطات القريبة للممثلة مرغريتا تيريخوفا،
في فيلم تاركوفسكي «المرآة» 1975، تبدو جميلة جدًا،
خصوصًا عندما تلتفت نحو العدسات: تحديقتها اللطيفة لكن
الثاقبة يمكن مقارنتها بالتحديقة النافذة التي توجهها
سيلفانا مانيانو نحونا في فيلم بازوليني «أوديب ملكًا»
«1967» عندما ترضع ابنها المولود حديثًا في الحقل
الخالي. بازوليني وتاركوفسكي، كلاهما يوظف تحديقة
الممثلين لتأسيس اتصال مباشر بين مشاعرهم الشخصية
والحميمة، والإدراك الحسي الغريزي عند المتفرجين.
التحديقة عندهما تعني تكثيف تواصل المتفرجين مع العالم
الداخلي للشخصية.
فيلم البلجيكي كلود غوريتا «صانعة الدانتيل»،
The
Lacemaker) 1977)
ينتهي بلقطة من كاميرا ثابتة، مركِّزة بؤرتها على وجه
إيزابيل أوبير وهي تحدِّق في العدسة، فينا. في احتجاز
الكاميرا للصورة، والاحتفاظ بها، هي تسعى إلى أسر
انتباهنا وتركيزنا، في محاولة لإثارة مشاعر أعمق
بدواخلنا، خصوصًا أننا، من خلال التحديقة المتبادلة،
نحاول أن نستشف ما يتبادر إلى ذهن المرأة، وما تعانيه
وتشعره عمقيًا. وإيزابيل، بقدراتها المذهلة، تتمكن من
خلال نظرتها النافذة، وابتسامتها الخجولة الباهتة، من
إدخالنا في النفس البشرية البالغة التعقيد. بهذه
التحديقة استطاعت أن تحرِّك حساسيتنا، وجعلتنا نهتم
بهذه الكائنة التي ظلت طوال الوقت عرضةً للإهمال
والتجاهل والاستخفاف.. كما لو أنها غير مرئية.